عالم الأدب

نجيب محفوظ... حكاية لم تنهيها وفاته

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حزنا ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد

بشار دراغمه من رام الله: صوت يتلوه صمت. فما جدوى كل الأصوات بعد الرحيل، نجيب محفوظ يفارق الحياة لكن صوته على صمته بما تركه من ثروة أدبية كبرى ستبقى المكتبة العربية شاهدة عليها. بينما شريط تسجيلي يوثق جزء آخر. الكل يموت والكل يفارق الحياة. لكن هناك ضرورة لوجود "جديد يذكر أو قديم يعاد" أما الأديب نجيب محفوظ فأنه جمع بين الأمرين رغم رحيله. فكل يوم سيكتشف النقاد والأدباء مزيدا من الجمال فيما كتب نجيب محفوظ وربما مزيدا من الأسرار في تلك الكتابات وها هو يحقق "الجديد الذي سيذكر دوما بتركته الأدبية" أما القديم الذي سيعاد فهو روايات لن يتخلى عنها كل مهتم بالأدب العربي وآخرون سيبحثون "لماذا حصل الأديب نجيب على جائزة نوبل للسلام".
ستة وتسعون عاما لم تكن كافية لأدباء ونقاد وباحثون لمعرفة كل ما يملك نجيب محفوظ من قدرات استطاع من خلالها دخول قلوب الطبقات الوسطى في المجتمع المصري بشكل خاص والمجتمعات العربية بشكل عام. فكان رائدا في الإبداع عندما يعبر عن حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة وفي كل مصر، فعبر عن همومها وأحلامها ، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية. كما صور حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع. فكان قريبا من كل القلوب.
خمسون مؤلفا من روايات ومجموعات قصصية كانت كافية لجمع هموم المواطن العربي الذي ربما احتاج من نجيب محفوظ المزيد منها "فما كتبه لا يُمل، وما لم يكتبه بقي في داهليز معلقة في ذهن القاريء".
حياة جسدها الأدب ووفاة ستضيف المزيد من الإثراء على هذا الأدب. حزن للوفاة يخففه تركة وَرَثَها لكل قاريء مميز أو على الأقل يعتبر نفسه كذلك.
عندما أحببناه كان السبب الحقيقي في ذلك ليس لأنه نجيب محفوظ ولكن لأن هذا الشخص وصل قلوبنا، دخلها، تمكن من السيطرة عليها بصفحات حفر اسمه عليها بعمق.
كان دائما يتحدث بابتسامة، بنكتة، لا تخلوان من حكمة يوصلها، إن لم تقلها شفتاه فقالها قلمه. وما تحدث به القلم حولته عدسة الكميرا إلى كلام واقعي عبر أفلام تم استقاءها من روايته ومجموعاته القصصية كان أولها "الوحش" والقائمة تطول أكثر فأكثر لتمتد إلى "فتوات الحسينية" و"درب المهابيل" و "بين السماء والأرض" و"سماره الأمير"

ملف رحيل نجيب محفوظ: مقالات، متابعات وذكريات

و"بداية ونهاية" و"اللص والكلاب" "زقاق المدق" و"الطريق" وغيرها العشرات تلو العشرات فكلها جزء من أعمال اقتبستها شاشات السينما والتلفزة من إبداعات محفوظ.
كان دوما مميزا. وما زاد من هذا التميز حصوله على جائزة نوبل للأدب فأصبح أول أديب عربي يحصل عليها. وفي كلمة له بهذه المناسبة لم ينس الأديب العربي الكبير التحدث عن الموت الذي سيأتي له يوما فكرر ما قاله الشاعر أبو العلاء المعري " إن حزنا ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد" كانت هذه الكلمات خاتمة ما قاله عندما كُرم بتلك الجائزة.
لكن بداية حديثه في تلك المناسبة كانت تعبرا عن أمل بأن لا يكون هو آخر أديب عربي يحصل على جائزة نوبل عندما قال:"أرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثى إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هى الفائز الحقيقى بالجائزة، فمن الواجب أن تسبح أنغامها فى واحتكم الحضارية لأول مرة. وإنى كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة، وأن يسعد الأدباء من قومى بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة فى دنيانا المليئة بالشجن"
وفي تلك المناسبة لم ربط نجيب محفوظ الجائزة باسمه فعرف نفسه بقوله:" أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية. ولعلى لست فى حاجة إلى تعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف"
لم ينس أديبنا الكبير بأن يؤكد لمن كرموه والحاضرين بأن العالم الثالث يخرج منه أدب حقيقي ولم ينس عن نقل معاناة شعوب طال أمدها مستغلا منبرا هاما يصعد إليه فقال:"لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجــد من فـراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص وهو تساؤل فى محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام فى أسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون فى أفريقيا من المجاعة. وهناك فى جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضى عليهم بالنبذ والحرمان من أى من حقوق الانسان فى عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر".
نجيب محفوظ شعر باهمية المكان الذي يقف فيه وأراد أن يوصل رسالة للعالم حول معاناة الفلسطينيين من ذلك المكان فقال: "فى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة ـ رجالا ونساء وشبابا وأطفالا ـ تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبا فى السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل".
يرحل نجيب محفوظ لكن رحيله جسدي فقط. فروحه ساكنة في كتبه. وكتبه محفوظة في كل مكان ممتد عبر العالم العربي وحتما العالم كله.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف