غالوري الفنون

الحلقة السابعة من خبز المدينة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة/ الخامسة / السادسة /

الوطن، الوطن.

لكل انسان مكان ينتمي اليه، ودائرة من الاهل والمعارف والاصدقاء، ولد وتربى وعاش بينهم، وهذا المكان، وهذه الدائرة من البشر، هما الوطن، المكان شكله، والناس محتواه، انه بالنسبة لك في هذه اللحظة، وقبل يومين من احتمال رحيلك الى الحبشة، هو نورية التي تعمل في حي الدعارة، وتعيش على امل الفوز برخصة رسمية تمكنها من ممارسة هذا العمل، علنا وفي وضح النهار، بدل البقاء معرضة للمطاردة والابتزاز، حين تعمل دون ترخيص. انها رغم حقارة المهنة، امرأة ليبية، لا احد يمكن ان ينكر عليها هويتها، او يلغي انتسابها وانتساب ابنتها وردة ورئيستها شريفة الى هذا الوطن، ثم ثريا التي تمثل لك حبا مشنوقا، وحلما اجهضته قسوة الزمان، وتظل، برغم الالم الذي عانيته من اجلها، اكثر النوافذ المطلة على رحاب الوطن نورا وهواء وبهجة، ووالدها، الحاج المهدي، صانع النعال الجميلة، الذي يعبق بدفء الابوة، كيف لا يمكن اعتباره اهلا ووطنا وتذهب لتوديعه نيابة عن كل ذويك وافراد اسرتك ممن تعذر عليك توديعهم، حتى اولئك الذين عبروا في حياتك عبورا سريعا منذ انتقالك الى طرابلس، سواء في وكالة الشوشان، او كوشة عبدالله، او بائع الشاي في الباب الجديد عمي الشارف،سذهب لمصافحتهم قبل السفر، لانهم يمثلون شيئا عزيزا في حياتك، وجزءا من ذكرياتك في طرابلس، دون ان تنسى عبد المولى الشحاذ، الذي كان دليلك في التعرف على المناطق الخفية المجهولة داخل هذه المدينة، او رفاقك في بيت حورية، مثل حواء التي اذاقتك الوانا من الحلوى الليبية لا تعرفها بيوت الريف، واصنافا من الطعام الشهي لم يسبق لك او لاحد من اهلك واسلافك ان ذاق مثلها، والصبي الزنجي مرجان، الذي مازال يتلكم العربية بكلنة افريقية اعجمية والذي لا يرفض لك طلبا وانت تسأله ان يفسح لك مكانا اكثر قربا من حورية، عندما تنازل عن شراء الصحف وقضاء بعض الحوائج لتقوم بها انت كذريعة لان ترى السنيورة كل يوم، ومختار العساس بحقده الناري على عمر المختار، وحكاياته المعجونة، كخبز الافران الشعبية، بجمر ورماد السنين، ثم حورية، السنيورة الجميلة الفاتنة حورية، هذه القطعة من الدانتيلا الثمينة، التي تشكل بكل ما يحيط بها من ترف وبذخ، جزءا من نسيج هذا الوطن بالوانه المتعددة. انها حتى وهي تعيش في بيت الحاكم الايطالي، وتنام في فراشه، لا تستطيع الا ان تكون امرأة ليبية، ويكفي دليلا على ذلك، احساسات الفرح التي تقفز من عينيها، وتنير ملامحها، كلما سمعت حديثا للمارشال بالبو يحمل وعدا بالخير لاهل بلادها، فتاتي لتعيده في مجالسها، كأنه الغناء.
ذهبت الى الباب الجديد، يسوقك نداء الرغبة، مختلطا بنداء الواجب، آملا الا تكون هذه الزيارة هي آخر لقاء بينك وبين المرأة التي استضافتك على موائد انوثتها، ومنحتك لحظات من اللذه لم تذقها مع امرأة سواها. وصلت الى سيدي عمران، ثم الى زنقة البهلول، حتى وقفت امام الباب الازرق ذي العروة النحاسية، فامسكت بالعروة وطرقت الباب. خرجت لك شريفة تجر ثقل ما يملأ جسمها من لحوم، تقودك الى غرفة السقيفة، وتسألك متوسلة ان تقنع نورية بالبقاء في البيت، وان تقلع عن افكارها الرعناء بترك هذه المهنة، لانها لن تجد عملا يدر خيرا كثيرا مثل هذا العمل، خاصة وان الرخصة الرسمية التي تأخرت مدة طويلة هي الان في طريقها الى الصدور، بعد ان جاء طبيب الحي وقام باجرا ء الفحص النهائي على كل نساء البيت، وهذا الاجراء هو آخر ورقة في ملف التأهيل للرخصة بعد ان تم استكمال كل الاجراءأت الاخرى التي من بينها ان تكون المرأة التي تدخل رسميا الى هذا المجال قد ضبطت اكثر من مرة في حالة تلبس مع احد الرجال، والحمد لله فان جميع نساء البيت قد ضبطن بدل المرتين اللتين تشترطهما الحكومة، خمس وست مرات، ونورية كما تقول السيدة شريفة، هي نوارة البيت التي تجتذب اغنى الزبائن دائما، واذا كان الاقبال عليها شديدا، في اوقات التخفي والعمل السري، فما بلك بعد ان يصبح العمل علني، تحت الاضواء الحمراء وبمعرفة واشراف الحكومة. كنت تعرف ان نورية هي الاوزة التي تبيض ذهبا لصاحبة البيت، وان لهذه الثرثرة هدفا آخر بجوار الضغط على نورية لكي تبقى، هو ان تلهيك قليلا حتى تنتهي نورية من الزبون الذي معها، ولا تدري كيف تسرب خبر وصولك الى نورية، فطردت الزبون الذي خرج محتجا غاضبا، طالبا ان يسترد ثمن المضاجعة الناقصة الذي دفعه سلفا، وجاءت كالعاصفة تنتزعك من امام سيدة البيت انتزاعا، وتدفعك بقوة نحو غرفتها وهي تصرخ احتجاجا على غيابك الذي طال لاكثر من شهر، رغم الاتفاق الذي يقضي بان تزورها مرة كل
اسبوع. عرفت منها وانتما داخل الغرفة، انها ذهبت تبحث عنك في معسكرات الطليان، ولانها لم تكن تعرف عنك شيئا سوى انك مجند اسمه عثمان، فقد كانوا يردونها وهم يسخرون منها لانهم لا يعرفون منها أي عثمان تريد، واخيرا تذكرت صاحبك السائق ماريو، فذهبت تبحث عنه في الورشة الحكومية، ولم تستطع العثور عليه الا مساء الامس، ومنه اخذت المعلومات عن المعسكر الذي تتبعه، ورقم العنبر الذي تقيم به، وذهبت هناك للسؤال عنك فابلغوها بان موعد الزيارة هو يوم الغد. كنت تسمع باندهاش لما تقوله هذه المرأة المجنونة، غير مصدق انها ذهبت وراءك الى كل هذه الاماكن، غير مدرك سبب هذه الشحنات الانفعالية الغاضبة التي تقذفك بها لمجرد انك تأخرت ثلاثة او اربعة اسابيع عن المجيء الى هذا البيت من بيوت الدعارة السرية. رأيتها تواصل تقريعها لك، فقاطعتها بغضب يماثل غضبها متسائلا عما جرى حتى تفعل هذا كله بحثا عنك، وما الذي تبتغيه من ملاحقتك والتشهير بك بين زملاء المعسكر.
انطفأت الرغبة الجارفة التي ساقتك الى بيتها، ولم يبق في ذهنك سوى حرقة السؤال عما تريده منك امرأة ليس بينك وبينها سو دقائق المتعة التي تبيعك اياها مقابل سعر معلوم، فاذا انقضت تلك الدقائق، واعطيتها تلك الدراهم، انتهى أي التزام لك نحوها، ولم تعد هناك اية ذريعة تبيح لها ان تطوف المدينة بحثا عنك. كلمتها بكل هذا الوضوح لتبديد اية اوهام في رأسها. لكن كلامك لم يفعل شيئا الا تأجيج مشاعرها، فاجهشت بالبكاء وهي ترتمي على صدرك. صبرت عليها قليلا حتى هدأت، ثم دفعتها عنك واجلستها على السرير، تطلب منها تفسيرا لما حدث. سحبت من حقيبة يدها منديلا، صار تجفف به دموعها، ثم عادت ترمي ذراعيها حول عنقك، وتلصق جسمها بجسمك دون استجابة منك، قائلة بانها لم تعد تطيق معاشرة أي رجل غيرك، وانها على مدى اللحظات المتفرقة التي قضتها معك، نمى حبها لك حتى ملأ كل اركان القلب، وازدادت حبا لك بعد ما حدث من تعارف بينك وبين ابنتها وردة التي احبتك هي ايضا وتعلقت بك، ولانها لم تكن راضية بانتهاج هذا الطريق، او الحياة في هذا الحي، فقد احست بحبها لك نورا يسطع في قلبها ويبشرها بحياة اكثر طهارة ونقاء، وسمعت هاتفا من السماء يدعوها لان تنتقل وتعيش في كنف الرجل الذي احبته من اجل ان
تكرس كل حياتها له ولابنتها وتتوب لله توبة نصوحا لا رجعة فيها، وهذا هو ما ارادت ان تخبرك به، فانتظرت مجيئك اسبوعا بعد اسبوع، ومع كل يوم يمر كانت تعاني مزيدا من الكدر والضيق لانها كرهت الاقامة في هذا المكان، وتريد ان ترحل عنه باقصى سرعة، صحبة الرجل الذي احبته، ولن تحب احدا سواه، وهذا ما دفعها لليحث عنك باية وسيلة، لانها اعدت لكل شيء عدته، فالمكان موجود، والمال الذي تحتاجه حياتكما المشتركة موجود.
كان وقع هذا الكلام غريبا على اذنيك، لانه لم يحدث خلال اللقاءات التي تمت بينكما وما دارت فيها من احاديث، ان اشرت من قريب او بعيد الى احتمال ان يكون بينك وبينها أي نوع من الارتباط غير ذاك الذي يتم في حدود مهمتها كامرأة عامة تبيع الاوقات الطيبية للزبناء، فما الذي زرع في رأسها فكرة من هذا النوع، حتى تأتي وتخبرك بقرار الارتباط بك، باسلوب لا يترك لك مجالا للمناقشة الا ابداء الفرح والسعادة، لانها اصطفتك من بين كل رجال الدنيا لتكون الرجل الاول والاخير في حياتها، والاب الثاني في حياة ابنتها.
لم تشأ ان تصدمها بالتعبير عن مشارك الحقيقية التي تستنكر استنكارا كاملا مثل هذا الارتباط، وافهامها انك لا تأتي لممارسة الحب معها، الا مرغما، تلبية لضرورة حسية جسمية صرفة، تعلم علم اليقين انها اثم وخطيئة، تصلي بعدها وتستغفر الله كثيرا راجيا منه ان يعفو عنك ويعجل بهدايتك. وابلغتها بدلا من ذلك، انك لم تكن لتمانع لو لم تكن محكوما باشد القواعد العسكرية تزمتا وانغلاقا، وهي للاسف الشديد لا تترك في وقتك وقتا لهذا الارتباط، او تعطيك ترف العيش بعيدا عن المعسكر ونظامه الحديدي، وظنا منها ان ما تقوله مجرد اعذار لحرج الزواج من امرأة لها ماض كماضيها، اسرعت قائلة بان ما تريده منك ليس بالضرورة زواجا بعقد شرعي، لانها تعرف ما يمكن ان يثيره الزواج من مشاكل عائلية لانسان قادم من اعماق الريف الليبي، فهي لا يهمها الزواج، ما يهمها اولا واخيرا هو ان تكون معك دونا عن غيرك من كل الناس وان يضمكما بيت قائم على الحب. قالت ذلك باعتبارها تقدم حلا سحريا يعفيك من الاعتذار عن قبول عرضها، فلم يعد ازاء هذا الحل مجال لتقديم اية مبررات تمنع من تحقيق هذا التلاحم الجسدي والتواصل الروحي، المادي والمعنوي، بينك وبينها.
انه بلا شك عرض سخي من امرأة عاشقة، يسعد بقبوله أي فتى يعيش ظروفا كالتي تعيشها، ولكنك لن تستطيع الا ان تكون قاسيا معها ومع نفسك وترفض هذا العرض السمح الكريم. لم تكن تريد ان تقول لها شيئا عن ذهابك المحتمل الى حرب الحبشة في اليومين القادمين، لانه لو نجحت المساعي وتحقق لك البقاء في طرابلس، فلن يحول حائل دون ظهورها من جديد للمطالبة بتحقيق وعد الاقتران بها. غير ان درجة الانفعال العالية التي استخدمتها في معالجةالموضوع، تحتاج الى تقديم عذر قوي يتناسب مع قوية اللحظة الدرامية، ويفلح في قفل هذا الموضوع قفلا نهائيا، اذ ليس امامك وانت ترى امرأة تعبر عن عواطفها نحوك بهذا الفيض من الدموع، الا ان تستخدم حديث الحرب والموت والسفر المخيف الى المجاهل الافريقية البعيدة كمبرر للفراق، وهو فراق ستحرص تمام الحرص على ان يبدأ منذ الان، وفي التو واللحظة، لان امرأة كهذه لابد ان تحسم معها الامر حسما قاطعا ونهائيا، والا استمرت في ملاحقتك وتسميم حياتك.
جازفت ورميت امامها بخبر ذهابك القريب الى الحبشة، كسبب قاهر يمنعك من تحقيق حلم الاقتران بها، ويفرض عليها ان تنساك منذ هذه اللحظة، لانه لا فائدة من انتظارك، راجيا لها التوفيق في العثور على انسان افضل منك تحبه ويحبها ويشاركها في بناء عش المستقبل. ظلت المسكينة تبكي، وتردد كلمتي " غير معقول "، دون ان تفهم انت ما تعنيه بهذه الجملة، فهل هي مجرد تعبير عن الاحساس بالصدمة، ام انها فعلا لا تصدق ما قلته لها ولا تراه معقولا.
انكفأت بجسمها ورأسها على المخدة تبكي، ووجدتها انت فرصة للانسحاب، فغادرت البيت مسرعا، متظاهرا انك لم تسمع النداءات التي صرخت بها وراءك، تريدك ان تعود.
كنت فعلا تريد ان تهرب من هذا الجو المليء بالتوتر الذي خلقته لك نورية، رغم انك جئتها مشوقا للقائها، دون ان تعلم بحالة الخبل التي المت بها. ستقطع هذه العلاقة القائمة على الجنس التي تجمع بينك وبينها حتى لو بقيت في طرابلس، ولن يكون الجنس مشكلة بالنسبة لك، خاصة وانت الان على مفترق طرق، اما انك ذاهب للحرب، لتبدأ حياة جديدة، وفصلا آخر من فصول العمر، واما انك ستحصل على استثناء، وعندها يمكن ان تفكر جديا في الاستقرار والزواج وتاسيس بيت خاص بك، كما يفعل بقية الناس ممن وصلوا الى سنك ولهم دخل ثابت مثلك، ولن تكون الفتاة التي تبني بها مشكلة،لانه بعد ان ضاعت منك ثريا، فكل النساء سواء.
كنت عازما على الذهاب اليها في الحال، لتتنعم برؤية عينيها، وتوديع والدها، ولكنك كنت متوترا، مهموما بما فعلته معك نورية، متمنيا ان ينتهي جنونها عند هذا الحد، ولذلك فقد رأيت ان تختار وقتا آخر غير هذا الوقت. ربما غدا، او بعد غد، تختار وقتا رائقا يليق ببهاء وعذوبة امرأة مثل ثريا، ولعل الافضل ان تذهب اليها بعد ان تتأكد من مصيرك اولا، فاما ان تودعها وتودع اهلها، وداع مسافر للحرب، او تشركها معلك في فرحة بقائك بطرابلس، قريبا منها.
لم تشأ ايضا ان تعود مبكرا الى المعسكر، لانك تكره ان تجد نفسك جالسا داخل المعسكر، في مواجهة حفنة من الاوغاد يقاطعونك، ويرددون حولك الشائعات، والافضل الا تعود الا بعد ان يكونوا جميعا قد غطسوا في نوم مليء بالكوابيس، اذ ماهي الاحلام السعيدة التي يمكن ان تزور انسانا يسوقونه الى ساحات الموت والدم والبارود. ستتجنب الاحتكاك بهم، والدخول في صراعات معهم طالما ان الفراق بات قريبا، ورفقة الاقامة في عنبر واحد تقترب من نهايتها. ستبحث عن أي مكان تقضي فيه هاتين الساعتين الباقيتين على موعد النوم ولن يكون صعبا ان تقضيهما متسكعا في الشوارع. لاحت لك، وانت تخرج من الباب الجديد، اقواس سوق المشير وقبابه، فتذكرت المقهى الشرقي الذي يقع في قلب هذا السوق، والذي احضرت اليه حورية مرة للمشاركة في حفل او عشاء، دون ان تجد فرصة لترى شكله من الداخل، وقد مررت به اكثر من مرة، ووقفت امام بابه تتفرج على صور المطربين والموسيقيين الذين يقدمون البرنامج الفني، متهيبا فكرة الدخول، لانه مكان للسائحين الاجانب، والايطاليين الذين يريدون قضاء ليلة شرقية ولاصحابهم من اهل البلاد ممن يملكون المال والمناصب الكبيرة، وانت لست من اولئك ولا من هؤلاء.
لا يمكن ان تكتمل صورة سوق المشير الا بهذا المقهى، فهو السوق العتيق الذي اعادت السلطات الايطالية بناءه على طراز شرقي صميم، واعطته طابعا معماريا يمثل روح المدينة. شخصيتها العربية الصحراوية وتراثها الاسلامي، وتتخصص دكاكينة بعرض وصناعة المشغولات المحلية من اكلمة وسجاجيد وتطريرز على المناديل والمفارش ونقش على الصحاف والاطباق ورسوم والوان شعبية تقليدية مرسومة على مشغولات من سعف النخيل واعواد القصب علاوة على سروج الخيل والجمتها وما يضاف اليها من زينة وزخارف علاوة على انواع من الطنافس والحشايا والوسائد، وانوال متخصصة في المنسوجات الحريرية لمرلابس الرجال والنساء، والوان من الحلي والتحف المصنوعة من الفضة والذهب وانواع متعددة ومتنوعة من الات الموسيقى الشعبية ، بحيث يأتي السائح الى طرابلس فلا يجد فقط الجزء الايطالي الحديث في جهة، والاحياء الشعبية العربية القديمة التي تعج بالقاذورات، وانما يجد بناء عصريا يمثل الشرق بالوانه الفاتنة ونكهته المميزة في المعمار والسلع، نظيفا، مزوقا، جاهزا لتلبية احتياجات السائح وارضاء فضوله. وبعكس الدكاكين الكثيرة الموجودة في شارع الملك فيتوريو ايمانويل الثاني، وميدان الكاتدرائية، وساحة ايطاليا، التي تقدم خمورها صحبة الموسيقى الغربية، وتتجه الى جمهور ايطالي تخاطبه بمفرداته التي يفهمها في الفنون والثراث الشعبي، فقد تم الحرص على انشاء هذا الملهي باجواء شرقية لا يخالطها أي شيء غربي، ويقدم الوانا من فنون الشرق في مجال الاستعراضات والموسيقى والرقص والغناء غير موجودة في أي مكان آخر، وحرص بادوليو الوالى السابق على اقامة كثير من المآدب الرسمية في هذا الملهى مما دفع الشركة التي تملكه لوضع موظف تشريفات على الباب يرتدي البزة التقليدية لسلاح الفرسان الليبيين، وهو البرنس الاسود المقصب بخيوط الذهب والفضة.
صعدت الدرجات الرخامية القليلة التي تؤدي الى البهوالجميل لسوق المشير، المسقوف بقباب من الزجاج الملون، فاذا بك وسط ردهة تشبه ردهة قصر من ملوك الشرق، مبلطة بزليج ابيض واخضر، ومحاطة بافريز من الرخام البني اللامع، بينما غطت الكثير من جدران البهو لوحات من الفسيفساء المأخوذه من المدن الاثرية والجداريات التي تحمل التكوينات والزخارف التي عرف بها الفن الاسلامي المشرقي، وتنعكس الاضواء القادمة من مصابيح الكهرباء المبثوثة بكثرة في زوايا البهو على بياض واخضرار الزليج والوان الفسيفسا والرخام وزخارف الجداريات لتمنح المكان جوا حالما ينآى به عن عوالم البؤس والفقر التي تحيط به، ولتأكيد هذا الجو الاسطوري الباذخ، توسطت المكان نافورة كبيرة تحيط بها احواض على شكل مزهريات تطل منها الورود والزهور، وتصنع النافورة اقواسا راقصة من الماء، تصدر صوتا يكسر حدة صوت المطارق القادم من بعض المشاغل ودكاكين الصاغة والحرفيين التي تبقى مفتوحة خلال الفترة الاولى من الليل، اما تلك الدكاكين المقفولة فقد تركت اغليها واجهات مضيئة تعرض فنونها وصناعتها التقليدية، حتى بدا السوق وكانه معرض مفتوح سواء في الليل او النهار اثناء وجود دكاكينه مفتوحة او مقفولة.
اتجهت قبل أي مكان آخر الى احدى النوافيرالصغيرة الاربعة الموجودة في اركان السوق، التي تؤدي بجوار قيمتها الجمالية، وظيفة عملية لزوار السوق ممن يريدون اطفاء عطشهم من الماء العذب القادم مباشرة من بئر ابي مليانة، حيث شربت حتى ارتويت، وشعرت كان وجودك في هذا المحيط الجميل، واطفاء ضمأك من هذا الماءالصافي، قد ازالا الكدر الذي كان يملأ صدرك منذ قليل. هاهو مكان في مدينة طرابلس، يمنحك احساسا بفخر الانتماء اليه، ويشيع في نفسك الزهو بشخصية بلادك الليبية العربية الاسلامية المشرقية كما هي مجسدة في فنون الابداع التي تراها امامك. انه سؤال الوطن مرة اخرى، ومن زاية مختلفة، هذا الذي جئت تبحث عن وجهه المختفي خلف سحب الاحتلال،تتلمس رؤيته غائما، سديميا، لدى الناس الذين تعرفهم والاماكن التي تألفها بما في ذلك حي البغاء، وامرأة من نسائه هي نورية، ها هو وجه الوطن هنا يشرق متألقا، ويتخذ شكلا اكثر وضوحا وجمالا، ويتجسد امامك عبقا ولونا وصوتا، ولعل حرقة الفراق القادم وفجيعته هي التي ساقتك دون ان تدري الى هذا المكان، لتملأ رئتيك من عبير الاسلاف الذين ابتدعوا هذه الوسائل والادوات وهذه الطرائق والاساليب لمعيشتهم.

اطلت الوقوف امام الحوانيت والجداريات، تتأمل اوجه الجمال فيها وتستمتع بعبق هذه المآثر الشعبية وتأمل ان تشحذ نفسك بما تحتاجه من عزيمة تواجه بها الحدث الجلل الذي يتهدد حياتك، وقد استقر قرارك على ان الدخول الى هذا الملهى الذي اعتبرته دائما اعلى من مستواك، خاصة انك عندما سألت على بطاقة الدخول وجدتها لا تزيد عن خمس ليرات، دفعتها ودخلت. لم يكن حانة ولم يكن مسرحا. لم يكن مطعما ولم يكن مقهي كما يحمل اسمه المراوغ الملتبس، بل كان خليطا منها جميعا. لم يكن جيد الاضاءة ولم يكن معتما، وانما توزيع عادل للاضاءة والعتمة، بحيث تربع الضوء في منتصف الصالة وتراجعت العتمة للزوايا والاركان الكثيرة ذات المستويات المتعددة ارتفاعا وهبوطا، لم يكن واسعا ولا ضيقا، لان اتساعه حاصرته الزوايا والفواصل والحواجز التي تتيح للجالسين بعض الخصوصية وفي ذات الوقت تعطي هذه الزوايا امتدادات للمكان واحساسا بالاتساع، وهو لم يكن مزدحما ولا فارغا، لوجود هذه الفراغات والمستويات التي تعطي احساسا بالراحة رغم ان الموائد مشغولة كلها، دون ان يحول ذلك على ظهور طاولة شاغرة حال دخول زبائن جدد. كانت جدرانه مغلفة بالخشب الارابيسك، بزخارفه التقليدية الكثيرة تأكيدا للطابع الشرقي للمحل، كذلك الكراسي التي كانت اغلبها في شكل طنافس، والطالات التي لا ترتفع الا بقدر ضئيل على الارض فيما يشبه الطبليات، وتحت دائرة الضوء، في المكان المخصص للعروض الفنية، ظهر العازفون السبعة الذين يشكلون التخت الشرقي ويرتدون الزي العربي الليبي، القميص والصدرية والسروال المزخرف والطاقية الحمراء التي يدلى منها زركبير من الخيوط السوداء، وامرأة تقف امام التخت تغني، على جانب من البدانة، وقد ارتدت فستانا يسفر عن كتفيها وجزء من صدرها والعرق يسيل منحدرا من نهديها، فتمسحه بمنديل تحتفظ به طوال الوقت في يدها، رغم المراوح الكبيرة التي تأز في سقف الملهى، ومروحة السعف الصغيرة الملونة التي تنش بها على وجهها.
فتنا النخل والديس وتعدينا
لحقنا الندم ياريتنا ولين-ا
كانت تغني وكان العرق الذي فشلت مراوح الحديد ومروحة السعف في ازالته، يؤدي وظيفة جمالية لانه يعطي صدرها لمعانا ودسامة ويجعله اكثر فتنة واغراء.
عرفت عندما سألت احد الجرسونات انها مطربة الاعراس الذائعة الصيت مسعودة الراحلي، اشهر المطربات الليبيات القادمات من حارة اليهود.
صب العسل يا بير بو مليانة
طفلة صغيرة قاعدة بحدان-ا
اغنيات من البيئة المحلية، مغموسة في شجن الايام الخوالي. اخذت مقعدا محاديا للبار وليس بعيدا عن التخت حيث جلست ترتشف كأسا من الكازوزة الباردة و تستمع للغناء و ترقب هذا الخليط من الاجناس، ايطاليون وليبيون ويهود ومالطيون وعدد قليل من السواح الذين يضعون على رؤسهم الطواقي المزركشة والطرابيش الحمراء التي يبيعها كشك امام الملهى، يصنعون ضجيجا دوليا لتعدد الالسنة التي يتكلمون بها ويرددون احيانا مقاطع الغناء مع المطربة، بشكل ممسوخ، لانهم لا يفهمون من كلماتها شيئا، ومع ذلك فهم مستمتعون بما يسمعون ويخلقون جوا فرائحيا احتفاليا يؤكد معنى اللهو واللعب الذي من اجله كان هذا الملهى.
اكتشفت وجود عازف من بين اعضاء التخت تعرفه، وتعاملت معه اثناء خدمتك في دكانة الحاج المهدي، عندما كان يبيع الخيوط الملونة التي تصلح لتطريز الاحذية في حانوت تاجر ايطالي، فافرحك هذا الاكتشاف، لانه جعلك تشعر بانك اكثر الفة مع هذا المكان واعتصرت ذاكرتك تبحث عن اسمه حتى وجدته: نعمان. نعم، بوجود هذا الصديق الذي يعزف العود، فانت لم تعد غريبا في هذا المجتمع الغريب الذي لا يشبه من قريب او بعيد صورة المجتمع الكبير في مدينة طرابلس. فهي مدينة لا تبيح مثل هذا الاندماج بين الناس الذي يتحقق في المقهى الشرقي. طرابلس مدينة مقسومة الى نصفين، وكل نصف مقسوم هو الاخر الى نصفين، ولعل الانصاف الاخري مقسومة هي الاخرى في متتالية تبدأ ولا تنتهي. نصف متهالك، قديم، فقير، يختفي داخل الازقة والزواريب الضيقة الموحلة، هو النصف الليبي الذي يعيش في المدينة القديمة، مع ضيوفه من بعض الجاليات الاجنبية العتيقة من يهود ومالطيين ويونانيين، ونصف آخر حديث، يملك الواجهات المضيئة، والشوارع الكبيرة الواسعة، والملابس العصرية، هو النصف الايطالي ويضم هو الاخر اقليات اجنبية تلونت بالوانه وانتمت الى سياساته واختارت ان تكون جزءا من مؤسساته وادارته. وداخل القسم الليبي هناك فقراء واناس اقل فقرا واخرون اكثر فقرا، بمثل ما هو الحال داخل الجزء الايطالي الذي ينقسم الى حكام واغنياء، واعوان لهؤلاء الحكام والاغنياء، وخدم لهؤلاء الاعوان والاسياد، وبين هذه الفئات هناك كل انواع الحواجز النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية واحيانا الدينية، الا هنا، في هذا المكان، الذي يمثل جزيرة معزولة عن محيطها، مشغولة بضجيجها الخاص، الذي يفصلها عن ضجيح العالم الخارجي وقوانينه وتفسيماته، حيث اندمجت كل الطبقات و الطوائف والاجناس والاديان والالوان في عجينة واحدة، لا تنتمي الا لاجواء الحظ والطرب والمزاج.
حان وقت الاستراحة، فارسلت التحية لنعمان ملوحا له بيدك، فانتقل من كرسيه وجاء مسرعا للترحيب بك، يسألك بلهفة عن احوالك لانه لا يعرف عنك شيئا سوى ان الجنود الايطاليين اخذوك عنوة من دكانة النعال، والحقوك بالتجنيد، وانه هو نفسه لم يسلم من المداهمة، الا ان عمله الليلي بالمقهى الشرقي، انقذه من هذا المصير، لانهم يمنحون العازف تأجيلا لمدة سنة، قابلة للتجديد، ولم تر موجبا لاخباره بتفاصيل ما حدث لك بعد تلك المداهمة، واكتفيت بان قلت له انك تلقيت تدريبا على قيادة السيارات وانت الان مكلف بالعمل سائقا لاحدى السيرات العسكرية، وهو ما اتاح لك حرية الخروج والدخول الى المعسكر دون تقيد بالمواعيد، واخبرته بانه لوعرفت بامر الاعفاء الذين يعطونه للموسيقيين لسعيت منذ زمن لاتقان مهنة العزف ولو على الرق او الطبلة، وها قد فات الاوان ووقع الفاس في الرأس. اشار للنادل ان يحضر لك كاس نبيذ من نفس النوع الذي يشربه، فاعتذرت لانك لا تشرب الخمر، الا ان النادل كان قد اسرع باحضار الطلب قبل ان يتمكن من الانصات لاعتذارك. اردت ان تتأسف فمنعك عازف العود من ذلك.
- لا تتأسف لمجيء هذا الخير. ساشربه انا، طالما اردت ان تحرم نفسك منه. وساشرب كاسا ثالثا ورابعا، فالنشوة شيء عزيز المنال لا يتحقق الا بالاصرار والمثابرة.
ثم اردف بعد ان فرغ من تجرع اول كأس:
- هذه امور ستعرفها قريبا باذن الله، لان الدخول الى هذا المكان ليس الا محطة اولى على طريق طويل حافل بالمحطات.
- وماهي المحطة الثانية؟
- في حالتك انت، ستكون الاستسلام لغواية الكاس.
- ثم ماذا؟
- هناك مراتب كثيرة في السمو والعلا، لا يبلغ مارتبها العليا الا من صفت روحه وصارت شفافة كهذا الكأس.
- وفي أي مرتبة انت؟
- مازلت في مرتبة قريبة من الارض، احب ان اسميها مرتبة الموسيقى، اما المراتب العليا فخذ هذا المثال.
واشار بيده الى ركن من اركان الملهى، فادرت رأسك الى حيث اشار، ورايت مقصورة لطاولة يجلس عليها رجل عربي يرتدي الطربوش، صحبة امرأة شقراء، امامها اكواب الشراب واطباق الاطعمة الخفيفة التي ترافق شرب الكحول،، تضيء وجه الرجل شمعة انتصبت فوق الطاولة وانعكس نورها على ملامحه، فبدا مرهفا، رقيق الملامج، على مشارف الستين من عمره، واختفت ملامح المرأة خلف كراديس شعرها الكستنائي الغزير، التي تهدلت فوق كتفيها واحاطت بنصف جسمها الاعلى وتناثرت اجزاء من هذا الشعر امام وجهها حتى لا يكاد يبين.
واصل نعمان حديثه:
- انه ينتمي لاحدى اغنى عائلات طرابلس، ورث املاكا كثيرة، وتفرغ للكأس والنساء، وترك كل شيء آخر في الحياة. لا عمل في النهار لانه يسهرطوال الليل وينام فلا يصحو الا مع وقت السهرة، ولا زوجة ولا ولد ولا مشاكل ولا هموم لانه اذا احتاج لمزيد من المال باع قطعة ارض من املاكه وواصل حياة الترف التي يعيشها. تراه هنا كل ليلة، اول من يأتي وآخر من يغادر المكان.
- حق لرجل مثله ان يترحم كل دقيقة على اسلافه الموتى.
- انظر الى تلك الشمعة التي امامه. ستجد ملاصقا لها كومة من الليرات الذهبية، يوازي ارتفاعها ارتفاع الشمعة. اتدري لماذا؟
- افدني ارجوك.
- لان الوقت صحبة هذه المرأة يقاس باستهلاك الشمعة، وثمن الجلسة التي تدوم الى حين احتراق الشمعة، هو كومة الليرات التي توازيها ارتفاعا، وينقص الثمن او يزيد حسب المقدار الذي يستهلك من هذه الشموع.
كان الثمن، بكل المقاييس، باهظا، باهظا، خاصة اذا احتاج الرجل الى استهلاك شمعة ثانية في نفس الليلة واحيانا ثالثة يضيء بها بيته عقب انتها ء جلسة الملهي وانتقالها الى البيت، كما اخبرك نعمان، الذي يعتبر رجلا كهذا ينتهي من حياته كل شيء آخر لتتحول هذه الحياة الى صلاة خالصة لرب المتعة اللهو، قد بلغ شأوا عاليا في هذه المدارج التي يتمنى هو نفسه بلوغها ذات يوم.
وكان السؤال الذي لا سؤال يخطر على البال غيره هو:
- من هي هذه المرأة التي يستحق الجلوس معها كل هذا المال؟
- هذه هي استير، نجمة طرابلس في عالم الحب والجمال، وعروس العروس كما يسميها محرر النشرة الاعلانية لمعرض طرابلس التجاري، فطرابلس كما يقول هي عروس البحر الابيض المتوسط وهي عروس طرابلس، لم تشرق في سماء المدينة الا منذ عام مضى، عندما
نجحت لتكون احدى فتيات الاعلا ن في المعرض التجاري. وكان اول من تلقفها مولانا امير البلاد نفسه.
سألته هامسا:
- هل تعني المارشال بالبو
- وهل هناك امير للبلاد غيره. انها آخر عشيقاته. اطلق عليها الملكة استير، حتى صار هذا الاسم ملتصقا بها اينما ذهبت،بل هي نفسها لا ترد على احد لا يخاطبها بلقب الملكة.
- تقصد ان تقول انه
وبطريقته التهريجية قال مقاطعا
- طبعا اقصد ان اقول كل ما في بالك، وما لاتستطيع ان تقوله الا في الخفاء، وما تتمنى ان تقوله ولا تستطيع.
- اذن فله عشيقات كثيرات
- لعله يريد تقليد امراء العرب القدامى الذين يحتفظون بعدد من الجواري يوازي ايام العام، لان له في كل مكان يتردد عليه واحدة. مثل جزيرة فروة،ومرزق، وغدامس، ويفرن، وغريان، وبنغازي، ودرنه، اما طرابلس وباعتبارها عاصمة ملكه، فله اكثر من عشيقة من مختلف الاجناس، لكي يكون عادلا في معاملة رعاياه، فهناك حورية الليبية، واستير اليهودية، وثالثة مالطية ورابعة يونانية او ارمنية لست ادري.

وعدت لمراقبة الرجل الذي يشتري الدقائق بالليرات الذهبية ويقيسها بذوب الشمعة المحترقة، والمرأة ذات الشعر الكستنائي الكثيف، علك ترى مبلغ جمالها، فلم تفز برؤية شيء من ملامحها الملكية.
- هل انت واثق انها عشيقة الحاكم نفسه.
- وهل تظن ان صاحبنا الليبي هذا، يدفع كل هذا المال لولا احساسه بانه ينافس اكبر شخص في البلاد ويضع رأسه برأسه، بل ان عمله هذا لا يخلو من دافع وطني، لانه استطاع بما له من اموال ان يشارك الحاكم الايطالي في حريمه.
- رجل من ظهر رجل. ولكن كيف يمكن لعظيم ان يترك عشيقته ترافق رجالا آخرين.
- من هذه الناحية اطمئن، فالمارشال اكثر تسامحا من امراء الدولة العربية، ولا يلقى بالا لمثل هذا السلوك من عشيقاته اطلاقا، فهو لا يضيره ان تذهب هذه العشيقة التي لا يراها الا مرات قليلة في العالم، للقاء رجل له من الثراء ما يكفيه عناء الصرف عليها.

في حلقك اسئلة كثيرة كنت ستستأنس برأي صاحبك حولها، الا ان نداء الواجب اخذه منك، فقد حانت حصة جديدة للطرب لابد ان يسهم في تنشيطها بعزفه على العود، ومطرب صغير السن اسمه محمد سليم، جاء يقدم اغنية مرحة، استجاب لها الجمهور بالتصفيق والضجيج:
هلت ليالي، ليالي الفرح
آه اللي احنا فيه-----ـا
خرجت من المقهى الشرقي دائخا مما رأيت، وقبل ان تخرج القيت نظرة على المرأة التي قال صاحبك انها عشيقة بالبو، فلم تفز سوى بصورة جانبية، منحتك انطباعا، بانها تعتمد في اظهار جمالها على التبرح والتزويق، بعكس حورية التي تشع بجمال طبيعي آسر.
اذن فحورية ليس الا واحدة من هؤلاء العشيقات الكثيرات اللاتي يحتفظن بهن السيد بالبو جاهزات، كالاطعمة المعلبة، لتلبية شهواته وصبواته، ويعاملهن باعتبارهن نساء وضيعات، يسمح لهن بمعاشرة رجال آخرين شرط ان يكون الدفع بالليرات الذهبية. لم يكن ممكنا ان تتصور حورية في هذا الدور المهين، فلقد اعتبرتها دائما شيئا خاصا، مصونا وكريما، اختار الرجل صحبتها، دونا عن كل نساء الدنيا لان بها شيئا يميزها عنهن جميعا. ولكن الامر يختلف الان. انها بالتأكيد تعرف بامر هؤلاء العشيقات، لان موضوعا كهذا يهمها اكثر من أي انسان آخر في الدنيا، ولان بالبو نفسه لا يخفي عادة مثل هذه الامور التي تتصل بعلاقته النسائية، فهو يفاخر ويتباهى بها، وما كان ليطلق الملكة استير على عشيقته اليهودية، اذا لم يكن من باب المباهاة والتشبه بامير كان يحتل قلعة طرابلس قبله، وله محظية بذات الاسم، اسموها الملكة لنفوذها وسيطرتها على مقدرات الحكم.
احسست كان تلك الهالة من الاحترام والمهابة التي رأيت فيها حورية، بدأت تتلاشى وتتبخر، فهي ليست الا امرأة تستسلم في خنوع لحياتها الدليلة، وتضع على وجهها قناع السعادة كنوع من خداع الذات، رغم انها بائسة مسكينة، يكفي انك شخصيا لم تر هذا الرجل يزورها الا مرة يتيمة قبل شهر من التحاقك بالعمل معها، مما يؤك كلام نعمان عن شيقاته الكثيرات اللاتي لا يستطيع ان يلتقي بالواحدة منهن الا مرات قليلة كال عام، ولكن ماذا عن حقيقة انه يترك لعشيقاته حرية ان يصاحبن رجالا آخرين. هل هذا ينطبق على كل عشيقاته، بما فيهن حورية، ام انه امر خاص بالملكة استير فقط، التي رآى عندما ارهقته بطلب المال ان يضع في طريقها رجلا غنيا وغبيا، يصرف عليها امواله بهذا السفه. انها رخصة، لا يمكن الا لرجل مستهتر بكل شيء، متحلل من كل القيم، مثل بالبو، ان يعطيها لنسائه. فهل استفادت حورية من هذه الرخصة؟ انك لم تر شيئا كهذا خلال مدة وجودك سائقا معها، ولكن هذا لا يصلح دليلا لاي شيء. كان شيئا مثيرا وغريبا ان تظهر امامك مرتدية فوطة الحمام، يتقاطر الماء من شعر رأسها، ويشع عري كتفيها وذراعيها وساقيها بكل معاني الفتنة والغواية، فهل كان لذلك المشهد صلة بالرخصة التي يمنحها بالبو لنسائه، ام انه امر عفوي، حدث دون قصد او تعمد، واذا كانت استير اليهودية قد استخدمت في جلب اكبر كمية من الذهب، فما الذي تستفيده حورية من رجل مثلك، او ماذا يمكن ان تقوله لبالبو اذا عرف انها تستخدم رخصته مع مجند جاء يعمل سائقا مؤقتا لها.
كنت مندهشا وانت تضبط نفسك مشغولا بهذا الموضوع، وانت الذي تهدد حياتك ومستقبلك محنة السفر الى حرب الحبشة بعد لمحة عين، تملأ قلبك مشاعر الحنق والضيق من اجلا علاقات وسلوكيات لا تسبب حرجا ولا كدرا لاصحابها انفسهم، الذين ينتظمون جميعا كالليرات الذهبية في عقد واحد يشع ويتألق بمعاني الحب والمال والجمال والسلطة، بدءا من بالبو الى عشيقاته وعشاق عشيقاته، فما الذي يهمك في موضوع لا يتصل بك من بعيد او قريب، ولا يؤثر باي شكل من الاشكال على مجريات حياتك، المرشحة لان تنتهي علاقتها قريبا بهذه المدينة، وقد تلتقي بنهاية مشوارها في الادغال الافريقية.
ربما يكون الهدف من هذا الانشغال المرضي بالهموم البعيدة، هو الهروب من هموم حقيقية، اكثر قربا والحاحا واشد ثقلا على العقل والقلب، تتصل بالمصير الذي ينتظرك. انها هموم مهما حاولت ان تهرب منها، فما ان تضع رأسك على الوسادة حتى تأتي وتنشب مخالبها كالطيور الجارحة، في جوفك، وتلملأ ليلك سهدا وقلقا.
ما ان طلع الصبح حتى انطلقت مسرعا الى بيت حورية، آملا ان تسمع جديدا يتصل بموضوع اعفائك من الذهاب الى الحرب، حتى لو كان هذا الجديد هو وصول استقالة عياد الفزاني، لانها تضع بين يدي حورية سببا قويا للمطالبة بابقائك في خدمتها.
اما الحزب الفاشي فقد جاء ذهابك اليه متأخرا، بحيث لم يعد يجدي كثيرا ان تأتي الموافقة او لا تأتي، فالسفن التي ستقل الجنود الى الحبشة راسية الان في الميناء، لتأخذ عبوءتها بعد غد، ولم يبق من الوقت ما يتيح لك الاستمتاع بالمزايا او حتى ارتداء القميص الاسود والبنطلون الابيض والذهاب متنقلا بين المكاتب والمسئولين في اروقة الحزب، بحثا عمن يتوسط لك بالبقاء في طرابلس.
ما ان وصلت الى جاراج العمارة ودخلت حيث تركت السيارة، حتى فوجئت بمكانها خاليا. صرخت في فزع تنادي العساس، الذي كان يشرب شاي الصباح داخل غرفته، وتسأله وانت تركض نحوه، عما حدث للسيارة. ودون ان يظهر عليه أي قلق مد لك يده بكوب الشاي، قائلا لك بالا تنزعج لان السيارة في الحفظ والصون، وان كل ما حدث هو ان سائقها الاصلي عياد الفزاني، جاء مبكرا، ليستلم مفاتيحها، ووجد انها بحاجة الى تغيير الزيوت وتعبئة الوقود، فأخذها للورشة الحكومية للقيام بذلك. وقفت ذاهلا تتساءل عما جاء بهذا الرجل، في هذا الوقت بالذات، ليفسد كل شي ء. اين ترى موقع الخطأ في الخطة التي استهدفت ازاحته من طريقك. هل هي غلطة عبدالمولى الشحاذ، وسوء نقله للرسالة، ام هو خطأ الرجل الذي حمل اليه الرسالة، ام ان عياد الفزاني تلقى الرسالة ولم يفزعه حديث الحرب، ورآى فيها، ما يراه مختار العساس من فر صة للثراء السريع، فجاء متحمسا للانضمام الى صفوف المحاربين. عموما فان كل هذه التخمينات والتكهنات لا تفيد الان شيئا، ولن تجعل الرجل ينتني عائدا الى براري مرزق. لقد وقع المحظور، وعاد السائق الاصلي لاستلام عمله، والجلوس امام مقود سيارته، وانتهى الدور المؤقت الصغير الذي بنيت عليه امالا كبارا. انتهى كما تنتهي دقيقة الحلم،التي تأخذ صاحبها الى عوالم الوهم والخيال قبل ان تعيده لحظة اليقظة الى عالم الواقع وارضه الخالية من الاوهام. كنت ماتزال واقفا وسط الجاراج، متحسرا، متأسفا لما آلت اليه تدابيرك، لا تدري ما ذا ستكون الخطوة القادمة، عندما جاء عياد الفزاني يقود السيارة مسرعا، ويدخل بها سقيفة الجاراج مندفعا كالقذيفة، حتى كاد يأخذك في طريقه تحت عجلاتها، لولا ان قفزت متفاديا السقوط تحتها. بدا مسلكه غريبا وهو يقود السيارة بهذا التهور الذي لا يتفق مع طبيعته الهادئة، وبعد ان اوقفها وفتح الباب بسرعة، هابطا على طريقة جنود المهمات السريعة، ايقنت ان الرجل يهدف الى استعراض مهاراته ليثبت لك انه الاكثر جدارة بهذا العمل، وهو امر لا يستحق اثباتا لانك اكثر الناس اقتناعا بانه اكثر مهارة وخبرة منك، ولذلك تقدمت منه مرحبا، تهنئة بسلامة العودة الى عمله، فاذا به يهمل ترحيبك وسلامك، ويندفع صائحا في وجهك باقذع عبارات السباب والشتيمة، ثم لا يكتفي بذلك، يل يستغل حالة الذهول والمفاجأة التي اصابتك، فيدفعك في صدرك حتى تسقط ارضا، ويرتمي فوقك يكيل لك اللكمات والضربات، وقبل ان تتمكن من الرد عليه، ياتي مختار العساس ليرفع الرجل ويبعده عنك، ثم يعينك على الوقوف، وتنقية بذلتك من الاوحال التي علقت بها. وانت ما تزال ذاهلا، لا تعرف السبب الذي احال هذا الفزاني الطيب، الى كتلة من العنف والشراسة والغل. وردا على مختار العساس الذي كان يسأل الرجل عن سبب هذا الهجوم، تحدث الفزاني وهو مازال هائجا ثائرا، عن كيف ارسلت اليه رسالة كاذبة تحذره فيها من المجيء الى طرابلس وتدفعه للاستقالة من العمل، لان هناك قرارا عسكريا اصدره الحاكم العام يقضي بذهاب كل السائقين العاملين مع الحكومة الى الحبشة للمشاركة في الحرب، وصدق هو هذه الرسالة وحرر استقالة اعطاها لاحد القادمين الى طرابلس، وتصادف ان جاء المارشال بالبو بالطائرة الى مرزق في نفس اليوم، واحتشد اهل البلاد لاستقباله وتقديم واجب الضيافة له، وكان هو ممن شاركوا في حمل اطباق التمور واباريق اللبن التي يستقبل بها اهل البلدة ضيوفهم، ولان المارشال يعرفه سائقا في بيت حورية، فسأله، عندما رآه، عما يفعل في مرزق، فاخبره بانها بلدته التي جاء لقضاء اجازته بها، الا ان الاجازة تحولت لطلب اعفاء من العمل، لانه لا يستطيع وهو في هذه المرحلة المتقدمة من العمر، ان يذهب للحرب في بر الاحباش، وضحك بالبو متسائلا عمن يكون صاحب هذه الدعابة الماكرة، لانه لا وجود لاي قرار يقضي بسفر السائقين الحكوميين الى الحرب. عندها فقط ادرك الفزاني انه ضحية خدعة دنيئة للاستيلاء على وظيفته، فعاد مسرعا قبل انتهاء الاجازة، وقبل وصول الاستقالة الى مكاتب الحكومة واتخاذ اجراء فيها يصعب نقضه، ليستعيد وظيفته التي كاد يفقدها بسبب الكذب والخديعة.

وعاودته حالة الهياج والجنون فاخذ مفتاحا كبيرا يستخدم في فك دواليب السيارة، وجاء مؤستأنفا الهجوم عليك، الا ان مختار العساس، حال بينه وبين الوصول اليك، يسأله ان يلعن الشيطان، ويسألك انت ان تبتعد عن طريقه وتغادر المكان لبضع لحظات، حتى تنتهي حالة الغضب التي تنتابه.
لم تكن تجد في نفسك ادنى قوة للرد عليه، او ادنى رغبة في دخول معركة معه، ربما لانك تدرك حقيقة الخدعة التي دبرتها له، وانه صادق في كل ما قاله، عدا شيء واحد، لم يفهمه حق فهمه، عندما ظنك تريد الاستيلاء على وظيفته، بينما كان هدفك النجاة من الحرب باية وسيلة، وشيء ثان لم تفهمه انت وهو كيف عرف انك انت من ارسل له الرسالة الا اذا كان مجرد تكهن لانك المستفيد من هذه الخدعة، او لان عبد المولى لم يحرص كثيرا على اخفاء صاحب الرسالة لانك لم تتشدد في التنبيه الى هذا الجانب، المهم انه عرف، وان جهودك كلها وصلت الى طريق مسدود، ما كان منها متفقا مع الاصول وما كان مخالفا لها، واضحى الذهاب الى الحرب مصيرا محتوما، لا سبيل الى رده، ولا مجال للهروب منه، فيا شماتة الشاويش عنتر فيك.
تركت الموقف المتفجر داخل الجاراج، وخرجت الى الشارع، بضجيجه وحركته ونوره وهوائه، والفضاءات المفتوحة التي تجاوره، والسما ء الزرقاء التي تعلوه، باحثا عن سبيل لاخراج سحب الضيق التي تملأ صدرك. انهم في المعسكر يجمعون المجندين، ويزودونهم بالمعلومات التي تهمهم عن رحلة الحبشة، نظام الحياة في السفينة التي ستقلهم خلال هذه المسافة التي تستغرق اكثر من اسبوعين، وعن الطرق التي سيسلكونها بحرا وبرا فيما بعد، وظروف البيئة والمناخ التي سيعيشون تحتها، مع تعليمهم قدرا بسيطا من المفردات والجمل الدارجة بين الناس، باللغة الامهرية، تفيدهم عند وصولهم. ومعنى ان يفوتك كل ذلك، بعد ان صار ذهابك معهم يتأكد لحظة بعد اخرى، هو تخلفك عن الاخرين، وعدم قدرتك على التعامل مع الحالات المستجدة عند محطة الوصول بالسرعة والكفاءة التي يحتاجها الموقف، كما تدرب عليها بقية المجندين. وهو امر غير كريم لمن كان مثلك، متقدما دائما على جميع ابناء دفعته.
كنت لا تزال حائرا لا تدري كيف ستواجه الموقف الجديد الذي نتج عن مجيء عياد الفزاني واستلامه للوظيفة والسيارة منك، عندما رأيت جورجي، العجوز المالطي الذي يقوم بتوزيع البريد، قادما نحوك. شنطة الرسائل معلقة في كتفه، وقلم الرصاص فوق اذنه، واكثر من طرد وجواب بين يديه، ينظر لواجهة العمارة ليتأكد من الرقم، ويسألك ان كنت تعرف عثمان الشيخ، فهو وان كان قد التقى بك في هذا المكان اكثر من مرة، وسلمك رسائل ومجلات تأتي بالبريد الى حورية، الا انه لا يعرف اسمك. ترددت قبل ان تفصح عن هويتك تحرزا وتحوطا مما يأتي به عالم المجهول، وتذكرت انك اعطيت هذا العنوان لموظف الحزب الفاشي، وخمنت ان الرسالة لن تكون من احد غيره، فمددت يدك تستلم الرسالة، بعد ان قلت له انك انت المعني، ووضعت توقيعك في السجل الذي يحمله، وقبل ان يمضي سألته ان يعينك على قراءة الخطاب، لان حصيلتك من اللغة الايطالية لا تسعفك لقراءة كل مافيه، ولدهشتك البالغة وجدت ان جزءا من الخطاب كان مكتوبا باللغة العربية، فهم يهنئونك بقبولك عضوا في الحزب الفاشي، فرع الشبيـبة الليبية، ويبلغونك بان اتمام مراسم القبول، تقتضي ان تأتي الى مقر الحزب في الوقت الذي يناسبك خلال ساعات الدوام، لاداء القسم باللغتين الايطالية والعربية، وكانت صيغته كالاتي:
" اقسم بالله وبايطاليا الام، ان انفذ بتفان واخلاص اوامر الزعيم موسيليني، وان ادافع عن ايطاليا، وعن مبادىء الدولة الفاشية بكل شي املكه، حتى بدمي، وعاشت ايطاليا وعاش الدوتشي ".

تركك العجوز المالطي بعد ان قرأ لك ديباجة الرسالة وهو يضحك في كمه، لانه احس بما تعانيه من حرج للورطة التي وضعت نفسك فيها، خاصة لوجود هذا القسم الغريب الذي لا يأتي على ذكر ليبيا من قريب او بعيد، رغم ان فر ع الشبيبة الليبية هو الذي يطالبك بترديد هذا القسم. ثم تذكرت ان ورود اسم ليبيا في القسم لن يكون منسجما مع منطق الاشياء، لان المصالح بين ليبيا وبين ايطاليا قد تتعارض، كما حدث في زمن المقاومة الشعبية، فالى أي جانب يقف عضو الحزب الفاشي، انه حتما سيقف الى جانب ايطاليا الفاشية وحزبها وزعيمها ضد اية مقاومة او جهاد. هاهو الحزب الذي ظننته قطعة خشب تقفز فوقها، لتنجيك من الغرق في مستنعقات القتل والحرب، لا يكشف الا عن مزيد من الاوحال والاوساخ.
ووسط هذا الاحساس بالهوان اشرقت في ذهنك فكرة تنجيك من وطأة هذه المعاناة، وتنآى بك عن هذه العالم الفاسدة القاتمة الكاتمة على القلب، هي فكرة الهروب الى الصحراء. انك لن تكون اول، ولا آخر اللاجئين اليها. فيها بدأت ومنها انطلقت واليها تعود. ستذهب الى اعمق اعماقها، حيث لن يستطيع احد من هؤلاء الايطاليين واعوانهم ان يهتدي الى وجودك فيها، بل لن

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف