اللاعنف في الإسلام (4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الدفاع عن النفس الفردي في مواجهات مع عيارين وأشقياء وزعران في مناسبات سرقة ولصوصية وتحرش واعتداء وما شابه يجب حلها عن طريق الدولة التي مهمتها هذه الأعمال، وإلا تحول المجتمع إلى غابة، فإن غابت الدولة قام الفرد بما يسد هذا الفراغ لحين حضور رجل الدولة. وحديثنا هو عن التغيير السياسي أن الدولة أو المجتمع لو أراد اعتقال أو تعذيب أو سجن فرد ما، قام ضد الدولة وعارض الوضع السياسي، فلا يلجأ إلى القوة ضد الدولة، بل يتحلى بالصبر وضبط النفس، أو الهجرة في الحالات التي لم تعد تطاق، ويأس صاحبها من إمكانية التغيير في ظل وضع سياسي مشئوم، والقرآن حض على الهجرة في هذه الحالات، كما جاء في قصة أصحاب الكهف، الذين ضنوا بكلبهم أن يعيش في مجتمع وثني، وهذا الكلام ليس نكتة، ففي ليلة واحدة أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بإعدام كل كلاب القاهرة لأنهم أزعجوه بنباحهم، فحصلت مذبحة قضت على ثلايين ألف كلب ويزيدون؟
أما ماعدا ذلك فطريقة التغيير الاجتماعية التي مارسها الأنبياء جاءت على نحو واضح في الاية من سورة الأنعام (الآية ):
"ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين" فهذه الطريقة، والاستمرار فيها، هي طريقة صناعة الحكم والمجتمع في الإسلام، الذي أرجو أن أوفق لتوضيحه، وكذلك صيانته حين الانحراف، فلا تحل المشكلات بالدم والسيف كما حصل في التاريخ الإسلامي وما زال.
ولب المشكلة هنا أن من غير الإوضاع بالسيف والقوة المسلحة ونجح في ذلك ارتهن للقوة فأزال الطاغوت ليجلس محله فلا تزداد الأمور إلى مسخا وخسفا.
وهناك طرق ثورية في التغيير، كما أن الديموقراطيات الحديثة ترى أن الثورة المسلحة وقتل الظالم شيء مشروع، كما حدث مع الثورة البلشفية والفرنسية والأمريكية، أما طرق الأنبياء فمختلفة.
وهناك نقطة أشكلت على الأخ الذي أشرنا إليه فيما سبق، هي موضوع اجتياح الشعوب وكيف تدافع عن نفسها وهي نقطة قوية مما جاء في مقالته.
قال:" و حضارة الإنكا في أمريكا الجنوبية كانت حضارة راقية مسالمة ذات مدن ضخمة و أنظمة ري متطورة، و لم تُبادئ الغزاة الإسبان بأذى يذكر، بل إنها حاولت مد أيدي التواصل إليهم مراراً، فكيف صمد اللا عنف أمام همجية العنصرية الأوروبية؟ لقد دمّر الأوروبيون حضارة الإنكا بالكامل، و قتلوا آخر ملوكهم بعد أن أعطاهم من الذهب ما لم يتخيلوا وجوده في أزهى أحلامهم، و انقرض شعب الإنكا و بادت لغته و دمر تراثه، و لم يبق منهم اليوم إلا شراذم مضطهدة معزولة. و قد انتشر لدى الحركات العنصرية الأوروبية أن مسالمة هذه الشعوب المقهورة و استكانتها إلى مصيرها ما هي إلا لاقتناعها بتفوق الجنس الأبيض، فكان اللا عنف دعوة مفتوحة لمزيدٍ من العنف و لمزيدٍ من الإجرام من قبل الطرف المعتدي"
وهذه المعلومة التي جاء بها الأخ تعرج قليلا؛ يخيل للجاهل من سحره أنها تسعى وهي حبال؟ فلا حضارة الانكا مدت يد المسالمة، ولم تكن تعيش فيما بينها بسلام، ولم تمارس اللاعنف في وجه العصابات الأسبانية، وهنا الخطأ مضاعف ثلاث مرات.
وأنا تتبعت هذه الفكرة وفكرت فيها مليا. ويجب استيعابها ضمن بانوراما جديدة للفهم الإنساني. وحضاة الازتيك والانكا كانت دموية جدا، ولم يكن لمائة رجل أن يدمروا حضارة يعد أهلها بالملايين، بل كانت تمارس القتل على نحو جنوني، ومما يذكر أن حكام الازتيك كانوا يذبحون في أيام العيد لمدة بضعة أيام ثلاثين ألفا من خيرة الشباب من الشعوب المجاورة، وهو أمر تحققت منه قناة الديسكفري، وكورتيس تغلب عليهم من الانشقاق الداخلي. وتحريض بقية الشعوب المظلومة المضطهدة ضدهم، فلما استطاع جمع كلمتهم قضت بسهولة على حضارة الازتيك وينطبق نفس الكلام على بيزارو وحضارة الأنكا وملكهم هواتا هوالبا الذي خنق وشنق. وهو نفس الأمر الذي فعله الاسكندر مع مملكة الفرس، وينطبق على الفتح الإسلامي لمصر الذي تم على يد أربعة آلاف جندي؟
ونحن هنا نناقش موضوعا مختلفا وإذا كان لابد أن يقحم في موضوع الدفاع عن النفس، فهذا شيء مختلف عن الجهاد، والجهاد غير القتال فيجب التفريق بين المصطلحات، كما يجب التفريق بين الجهاد والخروج الذي مارسة الخوارج، وهو موضوع يجب التعرض له أيضاً، وهناك لبس وغموض في كثير من المفاهيم. وأنا في هذه المقدمة أحاول ضغط الأفكار ما امكن مثل كبسولة دواء.
الجهاد غير القتال. والقتال قد يكون من الجهاد وقد يكون من عمل الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا. فحين ينضبط القتال كطاقة لهدف قد يخدم موضوع الجهاد. وهنا يشبه الجهاد عمل إطفائيات الحريق على المستوى العالمي في صراع الدول بين بعضها البعض، فهذا هو الجهاد، وله شروطه، فهو ليس أداة بيد فرد أو حزب أو جماعة بل يجب ممارسته بيد دولة وصلت إلى الحكم برضا الناس، ويسخر ضد الظلم، أي أنه "دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الناس أينما كانوا ومهما دانوا" وهو مايكرره القرآن عن (رفع الفتنة عن الناس) كما هو في حكم أنظمة المخابرات في الأنظمة الثورية العربية وغير الثورية فالكل يستحم في نفس العين الحمئة، ومن هذا الجانب فإن جاز الجهاد فهو ضد هذه الأنظمة التي تفتن الإنسان من قوى عادلة ولو كانت غير مسلمة، ولو أن أمريكا فعلت نفس الشيء في كل العالم لدخل الناس في دينها أفواجاً، ولكنها تنصر إسرائيل، وتدعم الديكتاتوريين في كل مكان، وتريد التوسع والهمينة، وتلعب دور فرعون المستكبر في العالم، الذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، وهو الذي اختلط على المدعو أورهان، حينما استشهد بالآية من حيث لم يستوعب معناها، أن رفع الفتنة عن الناس تعني فتنتهم. وهو معنى اختلط عليه تماما. فالقرآن قال قاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله، وليس قاتلوا الناس حتى يكونوا مسلمين على الطريقة العربية الأعرابية؟ أي رفع الإكراه عن الناس حتى يكونوا أحرارا في اعتناق ما يشاؤون، وهذا المفهوم في القرن السابع للميلاد كان تقدمياً جداً، ولم يتعرفه البشرية إلا في عصور التنوير.
إن القرآن ينطلق من مبدأ: (لا إكراه في الدين) دخولا وخروجا، وهذا يعني أنه لايوجد قتل للمرتد كما نص عليه فقهاء العصر المملوكي. ويمكن للإنسان أن يخرج من الدين ثلاث مرات بدون أن تخرج روحه مرة واحدة. كما جاء في سورة النساء.
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا" ولكن لم يقل أخرجوا أرواحهم بحد السيف، وهو ما فات على أورهان المبرمج على عداء الإسلامي أيديولوجياً، وعلى عدم الاستفادة من القرآن. ولا يعرف القرآن. ولم يطلع على القرآن. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله؟؟.
ومفهوم قتل المرتد الذي يشكل فضيحة أخلاقية سوف نتناوله فيما بعد في مقالة خاصة موسعة والذي كان سلاحا أمويا وسلطويا عبر التاريخ لاستئصال أي نسمة تفكير وخلية عصبية تشع بالخير الأخلاقي. وهي مصيبة اتفقت عليها كل المدارس الإسلامية القديمة ووافقهم فيها بكل أسف الغزالي الراحل حين وافق على قتل (فرج فودة) ولكن أن تتم ليس بيد الشباب المتحمس فقد كان عملهم (افتئاتا على الدولة) على حد تعبيره، فأي دولة وأي شباب؟؟
ومشكلة الحداثيين والتحديثيين وأضرابهم أنهم لايعرفون الثقافة الإسلامية ويحاربونها عن جهل وسطحية، ومعهم الحق في بعض الزوايا، ولكن مثلهم مثل من يريد استئصال ثألول من الأنف بالمنشار أو المقص بدون تخدير. وهذا ينطبق على الأصوليين الذين لم يستوعبوا صدمة المعاصرة فهم يستقبلون رياح العولمة الباردة بدون دثار وحطب ونار.
اللاعنف في الإسلام (3)