التاريخ والتنوير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حفزت رؤية التنوير التطلع نحو منهج "الحضارة " انطلاقاً من مبدأ التكامل ما بين البعدين الفردي والجماعي. وهكذا تبلورت الرؤية للتآلف ما بين الموجهات المتطلعة نحو التاريخ والعالمالعمق والسطح، الداخلي والخارجي. ولكن يتبقى السؤال الأهم متعلق، بطبيعة الأهداف المرتبطة بالفرد العميقة أو الداخلية. انطلاقاً من المحدد المرتبط؛ "غاية الحضارة " والمدى الذي يكمن فيه، تركز أوجه أنشطتها وفعالياتها فيه. وإلى أي حد يمكن الوثوق بتجديد العلاقة القائمة ما بين المنجز الخارجي للحضارة وحالة التكامل الروحي بالنسبة للفرد.
كانت الأديان الشرقية القديمة، قد استندت في رؤاها حول الكون انطلاقاً من أصل واحد ممثل بالجانب الأخلاقي. من هنا كانت النظرة المتعارضة مع الحياة، حيث التركيز على الباطن (الأخلاقي) مقابل إهمال للخارجي (الحضاري) فالإيمان الأكثر حضوراً كان يبرز في وحدة الوجود والحلول.وهكذا انبنت تعاليم كونفشيوس ت 479ق.م في الصين و "بوذا " ت 480ق.م في الهند. أما الأديان السماوية فأنها استندت إلى رؤية قوامها ثنائية "الطبيعي والأخلاقي ". وباعتبار التنازع ما بين المبدأين،أقرت الأديان السماوية بأن النتيجة النهائية ستكون لصالح الأخلاقي، باعتباره قوة باطنة، وهكذا فأنها ستكون في مكانة أسمى من المبدأ الطبيعي. اعتماداً على مبدأ (الأيمان) كقوة أخلاقية تكون دافعيتها "فوق الطبيعة "، حيث الكمال المنشود. من هنا تم حصر فكرة التقدم بروحية متفائلة نحو إصلاح العالم في غاية عليا. وباعتبار التفاعل ما بين الباطن والظاهر، الأخلاقي والطبيعي، فأن عملية التحول الطبيعي، لابد أن تتوجه نحو تنظيم البنية الاجتماعية.
على صعيد الشواغل العقلية التي اهتم بها الفكر الأوربي، لم يكن الأمر قد تخطى مسألة العلاقة ما بين ثنائية " الأخلاق - الطبيعة " التي طبعت توجهات الأديان السماوية. وإذا كانت الغاية قد تحددت لدى الثانية، فأن الفلسفة الغربية بقيت تتطلع في توجهات متباينة عبر اتجاهات متعددة،كان الأبرز منها؛ الأخلاقي،الطبيعي،إنكار العالم والحياة، لكن تبقى مادة الدرس والتشريح متعلقة بالثنائية القائمة بين الأخلاق والطبيعة. وجاء عصر النهضة ليهيئ الاحترازات العقلية، من خلال توجيهها نحو المباشرة في التعامل مع الطبيعة، بعد أن كانت مشغولة بتتبع المقولات العقلية والمناظرات الفلسفية. وهكذا صارت التجربة هي الأساس في توجيه العقول نحو استنباط القوانين والخضوع لمدركاتها في سبيل التغيير والحفز نحو الأمام لابد من التأكيد هنا إلى أن عصر النهضة، لم تتبلور فيه الاتجاهات العقلية بشكل نهائي أو حاسم. بل بقي يمثل حالة من المخاض في سبيل بلوغ ولادة الأفكار الجديدة. وبفضل القوانين التي استنبطها العلم التجريبي، وزيادة التطلع لاكتشاف الطبيعة بشكل واسع. برزت فكرة حرية الإرادة، التي وثقت التوجهات الإنسانية في السيطرة على الطبيعة لينبثق عنها، شعور بفكرة التقدم المقرون بالتفاؤل.
كان (رينيه ديكارت) ت 1650من رواد النزعة العقلية التي تطلعت نحو الفصل ما بين الفكر والجوهر المفكر، وبين المادة والجوهر الممتد. وفي ضوء هذه العلاقة، يمكن للعقل أن يصل إلى الحقيقة من خلال الأفكار المتعلقة بالحدس والاستنتاج. أي توطيد أواصر العلاقة ما بين الفكر والعقل المبتنى على الحكمة. وعلى ذات المنهج تتبع "باروخ سبينوزا " ت 1677 فكرة الوصول إلى الحقيقة، من خلال الفصل ما بين الفكر الديني والفكر العقلي. وبهذا يكون توصل إلي نوعين من الفكر؛ الأول ويستند إلى الشريعة الأخلاقية وقوام مفاهيمها من صنع الخيال وتكون موجهة إلي العامة حيث القوى العقلية البسيطة. أما الثاني فأنه يستند إلى أصحاب القوى العقلية الفائقة، ولابد أن تكون لهم حرية الرأي من خلال استخدام الفكر العقلي. وقد جسد فكرة العقل،في فكرة الدولة التي تجعل من الأفراد خاضعين لقوانينها من أجل ضمانة تحقيق الفضائل الأخلاقية وتطورها. واستناداً إلى مفهوم الضرورة المنطقية المطلقة،حدد" سبينوزا " معالم العلاقة المفهومية بين (الله، الإنسان، الطبيعة) رافضاً الانفعال الحسي، ومشدداً على أهمية الاتحاد العقلي المجرد في الحقيقة الأزلية والسرمدية. انطلاقاً من فكرة أن الأهواء نقص في الوجود، وان العقل زيادة في الوجود. والغاية الأهم في كل هذا الوصول إلى مضمون الحرية حيث السعادة في غاية مراحلها. منطلقاً في تحديد مستويات المعرفة؛ الحسية القائمة على الأهواء والانفعالات، والاستدلالية الموصلة لفكرة الحقيقة، والحقيقية الأولى التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق حب الله والحدس حيث السعادة القصوى.
أما "كانط " ت 1804 فقد نظر إلى فكرة الأخلاق باعتبارها دافعا نحو التكامل الذاتي للإنسان، رافضا أن تكون مجرد "وسيلة، " بل مشدداً على أن تكون "غاية " فالأخلاق كامنة في الإنسان، وهي المسؤولة عن تحرر الإنسان من الحواس، انطلاقاً نحو العالم الأعلى، وهكذا فأن الأخلاق لا تقوم إلاعن طريق بناء الذات وسعادة الآخر. وكان (فختة) ت 1814 قد ربط بين الذات والمعرفة جاعلا الذات شرطاً للمعرفة، وبالمقابل جعل من الطبيعة شرطاً لممارسة الذات الحرية والتقدم. ومن أجل الوصول إلي التكامل لابد لهذه الذات من العمل لتحقيق الحرية .وصولاً إلى المثل الأعلى، انطلاقاً من الخضوع إلى القانون الأخلاقي الذي سيكون في مفترق الطرق الموجهة إلى فرعين؛ المتوجهة نحو الأهداف العليا التي تلتقي فيها النفس والأفكار. أو التطلع نحو الغرائز الحسية. وقد آمن "فختة " بأن كل أمة لها ثقافتها الخاصة المميزة ، والتي تمثل حلقة متممة في التكوين التاريخي للمجتمع البشري.
ترتكز تطلعات "هيغل " ت 1831 إلى أن التاريخ في وحدته يستند إلى أساس عقلي مطلق، وأن التطور يسير على مر الزمان، من خلال نظرتة إلى أن العالم في حالة من الحركة والتغير المفضي إلى التطور الدائم "مبدأً الصيرورة "وانطلاقاً من وحدة الفكر والوجود، أقام "هيغل " فاصلاً بين الفكرة والتصور، على اعتبار أن الفكرة تمثل المعرفة الكلية المطلقة والحق، في حين أن التصور لا يتجاوز اللحظة،لكنها لحظة موحية لانطلاق الفكرة. وقد عمل جاهداً نحو ترسيخ مفهوم المثالية من خلال الربط بين الواقع والمعقول. فالفكرة هي المطلق، والمطلق هو الذات الكلية، محدداً في ذلك ثلاث مراحل لأطوار الفكرة المطلقة؛ الأول ويتمثل في عنصر التفكير الذاتي "المنطق"، والثاني في المظهر الخارجي لمقولات التفكير الذاتي "فلسفة الطبيعة "، والثالث في الفكر والتاريخ "فلسفة الروح".
كانت غاية فلسفة "هيغل " متوجهة نحو "الحق "، وعليه تطلع نحو دراسة معنى الوجود، من خلال الارتكاز إلى دراسة القوانين الحاكمة للوقائع في التاريخ، وهكذا وضع يده على فكرة نقض النقيض وصولاً إلى التطور الدائم. فالموضوع يفضي إلى نقيض الموضوع، وباتحاد الأول مع الثاني ينتج " مركب موضوع " ليصبح هذا "المركب "موضوعاً، وهكذا دواليك. ومن هذه الجدلية تمكن أن يصوغ فلسفته للتاريخ، عبر نقل فكرة (الوجود) إلى عالم الواقع. فالمطلق حين صنع العالم كانت غايته (الوعي لذاته) فأدراك ذاته يتم عن طريق مخلوقاته، وأن معنى العالم يكمن في عالم الروح .