ادب القضاة ـ 5 ـ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الحلقة الأولى / الثانية / الثالثة / الرابعة /
حسين جميل
جبهة عريضة انحسر عنها شعر فاحم لتزداد اشراقا وصفاءا؛ ووجه طوال تحد منه عينان سوداوان فيهما بريق ذكاء حاد؛ وقامة مديدة يميزها تناسق رياضي رشيق. سرعته في المشي دليل احترام للزمن. وصوته الجهوري العارف بميزات النطق بالحروف من اسرار استحواذه على مستمعيه؛ لكن علمه وادبه وثقافته الواسعة هي الاسرار الاخرى التي وضعته في مكانة الاعلام البارزين. شخصية متوزانة في سلوكياتها ومبادئها؛ ما فرط يوما بحق الوطن؛ ولا تجاوز على قيم امته العربية ووشائجها؛ بل كان في جميع ادوار حياته صوتا مدويا في المحافل؛ ينتصر لارادة الجماهير ويقف الى جانبها في السراء والضراء. و قد يتساءل الكثيرون كيف تسنى له ان يكون بهذا الاعتدال الوطني؛ لا يتزحزح عنه ولا يميل به الشطط ذات اليمين وذات الشمال!!؟
بالرجوع الى تأريخ نشأته؛ نراه وقد ترعرع في كنف عائلة تعززت باعلى مناصب الافتاء؛ ومارست شرف القضاء؛ وعاش في محلة بغدادية شعبية ( قمبر علي ) فأخذ قسطه الوافر من الاختلاط بأبناء الشعب والافادة من عاداتهم وتقاليدهم ونخوتهم وشهامتهم ومروءتهم؛ فأذن... الافتاء... منحه الافق الواسع في الموازنة الصائبة في الرأي؛ والقضاء... منحه بعد النظر والجولان في آفاق النصوص والتمسك بالاصح والاقرب للعدل؛ ومعايشة البسطاء... زودته بخزين لا ينضب من التمسك بحقوق الانسان والدفاع عن المظلومين من ابناء الطبقات المسحوقة... كل هذا وذاك استوعبه واستودعه ضميره من خلال موقف وطني اشمل.. يعنى بالمصلحة العليا للبلاد؛وما انخراطه في قيادة المظاهرات الشعبية العارمة لمنع الفريد موند من زيارة العراق والذي ادى الى قرار طرده من دراسته الثانوية بشكل نهائي مع نخبة اخرى من شباب الكليات والمعاهد؛ كعزيز شريف ووديع فتح الله وادهم مشتاق وعبد القادر اسماعيل وفنان الشعب ـ بعدئذ ـ عزيز علي وغيرهم ببعيدة عن صفحات تاريخ العراق المعاصر؛ والتي جاءت تفصيلا في مذكراته الرائعة ـ شهادة سياسية ــ.
اما التحاقه بحقوق دمشق بعدئذ فقد كان اثره بارزا في تطور رؤيته العربية الشاملة؛ اذ شرب من منبعالنضال العربي الباسل ضد الاحتلال الفرنسي في العشرينات من القرن الماضي؛ بعد ان نهل من جهاد شعبه العراقي الذائد عن حرمة الوطن ضد الاحتلال البريطاني في ثورة العشرين المجيدة. اذن هذه وغيرها هي التي صيرت من شخصية حسين جميل قدوة في التوازن ما بين وطنيته وعروبته؛ مابين حقوق شعبه العراقي المتطلع للحرية والاستقلال وبين آمال ومطامح امته العربية في الانعتاق .
لقد ظهرت كل تلك الملامح الصافية ليس من حيث بناء الشخصية الذاتية وحسب بل من خلآل النتاج الثقافي السياسي الذي ابرزه امام الجمهور في الصحافة العراقية يوم اقدم ومجموعة من الوطنيين على اصدار جريدة (الاهالي) حيث رفعت في افتتاحياتها الأولى التي كتبها بامعان وتبصر ذلك الفتى الوطني جملة مباديء عصرية متطورة اساسية منها.... ،الدفاع عن حقوق الوطن في الاستقلال ؛ و الحرية والكرامة والرفاه الاجتماعي والتوجه الاقتصادي المستقل؛ وبناء صناعة عراقية متطورة وتركيز زراعة تمتد من شمال العراق الى جنوبه على اسس عصرية تؤمن بالاكتفاء الذاتي ثم التصدير بعدئذ.
كما ان ذات الملامح ظهرت واضحة ايضا في ممارسته العالية المنضبطة لمهنة المحاماة؛ حيث برز فيها كاحد فرسانها اللامعين في مختلف القضايا الجزائية والحقوقيةالتي توكل فيها ؛ بل وعرفته نقابة المحامين بعد ذلك من النقباء االاجلاء الشامخين لاربع دورات ( 1953 ــ 1957) حيث نهض بالمهنة ودافع عنها وشارك في مؤتمراتها داخل العراق وخارجه فجعل من نقابة العراق مثالا يحتذى به في الاحترام والتقدير ا؛ اضافة الى ما قدمه لابناء المهنة من عون واسعاف وتطمين . لقد كان حقا في هذا المجال التربوي نقيبا معلما؛ شد من ازر المحامين الشباب وفتح عيونهم على كثير من حقائق ووقائع هذه المهنة المقدسة بكل صبر وجلد واريحية وايثار. ومما لا انساه في هذا الصدد؛ هو يوم زارني النقيب الاستاذ حسين جميل لاول مرة عام 1954 في مكتب المحاماة الذي افتتحته في مدخل العاقولية المطل على ساحة الامين ( الرصافي حاليا) بعد تسجيلي في نقابة المحامين مباشرة؛ فقد فوجئت به وهو يدخل علي مهنئا بممارستي العمل ومبديا لي بعض النصائح الثمينة التي افادتني كثيرا في مسيرة حياتي المهنية؛ ومن لحظتها تأكدت باني كسبت شخصية وطنية ذات مستوى رفيع يمكن الركون اليها والاعتماد عليها في العمل العام.. ولقد علمت؛ في حينه؛ انه زار كل المحامين الشباب الذين فتحوا مكاتب لهم في بغداد؛ بل و طلب من وكلاء النقابة في المدن الاخرى القيام بالمهمة ذاتها تشجيعا ودعما لهؤلاء الفتية الذين فضلوا مهنة المحاماة على غيرها من المناصب التي عرضت عليهم آنذاك.
لقد تواصلت لقاءاتي بالاستاذ حسين جميل في مناسبات عدة منها؛ في بيته العامرالمقابل لجامع الشهيد في السعدون؛ او في مكتبه قرب القصر الابيض؛ او في مكتبة المثنى حيث يجمتع عدد من الادباء والشعراء والباحثين والاكاديميين؛ اسبوعيا؛ كالدكتور علي الوردي؛ والدكتور حسين امين؛والاساتذة مكي السيد جاسم وعبد القادر البراك وحارث طه الراوي والدكتور عبد المجيد القصاب.... الخ وكنت في كل مرة التقيه انهل مزيدا من علمه وفضله وسعة معرفته وتجربته.
لقد نال حسين جميل مكانة لائقة بين جمهرة المحامين العرب ايضا؛ حيث انتخبوه امينا عاما لاتحادهم الواسع لاربع دورات متتالية كان آخرها عام 1958؛ وفي اثناء توليه هذه المهمة الصعبة عمل جاهدا على وضع قواعد قانونية ومهنية ذات مستوى رفيع في تحديد المسؤوليات والضبط الاداري مما اهل الاتحاد لان يأخذ مكانة اقليمية ودولية متميزة برزت جلية في مشاركاته الجادة في مختلف المؤتمرات والفعاليات القانونية الاخرى . وقد استطاعت مجلة القضاء ( لسان حال النقابة ) في تلك الفترة الزاهرة ان تسجل على صفحاتها الكثير من النتاجات القانونية والخطابية والندوات والمحاضرات التي شارك فيها شخصيا ؛ والتي بذل فيها من الجهد والوقت ما عزز التفاعل المنتج المتطور ما بين النقابة من جهة والاتحاد العربي والمنظمات ذات الطبيعة المشتركة من جهة اخرى .
ان الاعتدال الذي اتسمت به شخصية حسين جميل هو الذي قادها الى تولي القضاء عام1933؛ فقد وجد من العسير عليه تقبل نشر الافكار المتسمة بالحدة والحدية التي كان يصر على تدبيجها بعض اعضاء جماعة الاهالي في الجريدة التي كان هو صاحبها ومديرها المسؤول؛اذ ظهر له واضحا ان اسلوب التوزان الذي كان يبديه لم يجد نفعا في ايقاف ذلك النوع من التعصب المتشدد؛ وازآء ذلك فقد وجد ان التخلي عن المسؤولية هو الحل الوحيد امام ذلك ا التفرد بالاراء؛ فترك الجريدة وانصرف للمحاماة اولا ثم تولى منصبا قضائيا على مرحلتين؛ الاولى حينما عين حاكما لبداءة الحلة ثم عانه حتى تشرين الثاني عام 1936 ؛ اما المرحلة الثانية فكانت في تموز 1937 حيث عين حاكما لبداءة البصرة ثم حاكما منفردا للديوانية 1941 فصلح الكرخ 1943 فنائب لرئيس اجراء بغداد 1944 واخيرا حاكم بداءة بغداد 1945 حيث قدم استقالته في عام 1946 لينصرف الى الحزب الوطني الديمقراطي عند تأسيسه. ان مثابرته وعلمه القانوني الغزير وقدرته الادبية ساعد ته في تلك الفترة على ان يكون من ابرز القضاة ثقافة وعدلا؛ وقد سجلت له قراراته القانونية المعتبرة التي اصدرها آنذاك صفحة ناصعة في سجل القضاء العراقي دللت على عمق المثابرة والتجربة والثقافة القانونية التي تحلى بها هذا القاضي البارع.
في عام 1946 تولى حسين جميل سكرتارية الحزب الوطني الديمقراطي؛ ثم اصبح نائبا في البرلمان لعدة دورات كان آخرها عام 1954؛ كما اصبح وزيرا للعدل عام 1949؛ ثم وزيرا للارشاد في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ليومين فقط؛ حينما قدم استقالته الشهيرة على اثر قراره بتعطيل جريدة طريق الشعب لمخالفتها التعليمات بحسب اجتهاده ؛ في حين اصدر رئيس الوزراء الزعيم قاسم من جانبه امرا مضادا قرر فيه الغاء ما اتخذه الوزير بشأن الجريدة والسماح لها بالصدور ثانية.
نشر حسين جميل عددا وفيرا من البحوث والدراسات والمقالات القانونية والشذرات الادبية في مختلف المجلات والصحف العراقية والعربية اضافة الى كتبه المطبوعة وابرزها : انكلترا في جزيرة العرب 1930؛ قضاء محكمة التمييز1938؛ دعوة الى اصلاح دستوري 1951؛ الحريات العامة والحركة الوطنية 1952؛ الاحكام العرفية 1953؛حقوق الدفاع للمتهم 1955؛حق النقد 1958؛ العراق الجديد 1958؛ عراق ما قبل الثورة 1959؛ نحو قانون عقوبات موحد 1965؛ فكرة توحيد القانون الجنائي للبلاد العربية 1967؛بطلان الاسس التي اقيم عليها وجود اسرائيل على الارض العربية 1968؛ حقوق الانسان والقانون الجنائي 1971؛ الحياة النيابية في العراق 1983؛ في سبيل انشاء محكمة عربية لحقوق الانسان 1983 العراق : شهادة سياسية 1987؛..... الخ وهو في كل نتاجه ناصع البيان؛ سلس العبارة؛ يؤطر جمله بايات من الحكمة والامثلة والمنتخبات الشعرية احيانا .
ولو رجعت الى خطبه البرلمانية ومحاضراته وكتاباته ولوائحه ودفوعه لهالك ذلك الكم الغزير حقا الذي اتسم بعمق في الرأي وبعد في النظر؛ وصدق في االروآية . و من هنا فأني اتطلع الى طلبة الماجستير والدكتوراه من الذين رعاهم ووجههم ذلك الاستاذ الجليل؛ لكي يعكفوا على كل ذلك النتاج ؛اضافة الى الهوامش واالملاحظات التي كان يعلق بها على المطالعات والقرارات الكثر سواء اثناء توليه نقابة المحامين او الامانة العامة لاتحاد المحامين العرب او وزارة العدل او الارشاد؛ كما اشير هنا الى كنز ثمين من المذكرات اليومية التي كان يدونها منذ زمن مبكر في مفكرات صغيرة يجددها سنويا و يحملهامعه في حله وترحاله حيث كان يكتب فيها كل الملحوظات والامثال والحكم وموجز القرارات .. الخ لكي يعود اليها؛ مستعينا بها على نسيان قد يأتي دوره يوما ما؛على الرغم مماا شتهر به من ذاكرة لا ينازعه فيها الا القلة النادرة من افذاذ هذه النعمة.
و لعل ما يسهل على الباحثين عملهم هو مكتبته الضخمة التي احتوت على عدد كبير من المصادر القانونية والموسوعات والقواميس والمعاجم وكتب الادب ودواوين الشعر القديمة منها والمعاصرة وقد نظمت وجلدت بشكل جذاب ومتقن اضافة الى اضابير الدعاوى التي توكل فيها؛ او الشركات الكثر التي وضع لها مشاريع تأسيسها او اصول المقالات والتعليقات والمذكرات التي جهز لها اضابير خاصة مميزة... الخ . لقد كان مكتب محاماة حسين جميل الذي احتل بناية عامرة واسعة في السعدون قرب وزارة التربية ( حاليا ) نموذجا فريدا في حسن تنظيم مكاتبه التي اعتمدت في مراجعها على اسلوب الكارتات المبوبة شأن المكتبات العامة وحينما نقل كل ذلك الى بيته لم يغير كثيرا في اسلوب التنظيم والحفظ والارشفة ؛ وبالتالي فان ما يكتب من رسائل حول هذه الشخصية الفذة سيكون ميسورا جدا؛ لتوفرها من جهة؛ ولدقة محيطها الذي دارت فيه من جهة اخرى؛ واني على يقين بان دراسات عن حسين جميل او نتاجه تعتمد الموضوعية والرصانة سيكون لها موضع مرموق على الصعيدين الاكاديمي والشعبي؛ بل ان الامر سيتعدى ذلك الىالباحثين الآخرين الذين سيولون هذا الجانب اهتمامهم الاوسع فيصدرون بحوثا متنوعة عن هذه الشخصية الرائدة التي كانت وستبقى موضع فخر واعتزاز في ضمير التاريخ الوطني العراقي المعاصر.