نجيب محفوظ: رائد الرواية العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أروع خصب عربي في التعبير عن الواقعية الاجتماعية
"على الكاتب أن يجد إيقاعه العميق وان يستوحي نسيجه من نبض مجتمعه الحقيقي "نجيب محفوظ
لمناسبة رحيله رحلة النهاية
تاريخ طويل مثقل بالاحداث لم يزل يمشي على الارض المصرية الطيبة، وما كان بحاجة الى عكاز لو عاش في غير زمنه من القرن العشرين! رجل برز من أعماق مصر الفاطمية الحقيقية ليصور بقلمه أبرع مشاهد حياتها الملونة والمتحركة بكل تناقضاتها والمتنوعة على اشد ما يكون التنوع والحركة والتلوين.. وليعبر أيضا عن أدق خلجات
انني اقول بأن نجيب محفوظ هو ابرز كاتب مصري معاصر خبر واقعه الاجتماعي وزاوجه بالسياسي المصري.. مستلهما اياه ومعبرا عنه في جملة هائلة من التعبيرات الحقيقية.. فضلا عن ذلك كله، فان الرجل لم يقتصر على لون واحد فقط من الوان الرواية، فقد ابدع في التاريخية، وجسد ضالته الاساسية في الاجتماعية، وغدا حرا منطلقا في كتابة السياسية.. وكل رواياته مفعمة بالعاطفة المشبوبة.. وبقي اسمه على مدى اكثر من نصف قرن يدور على الافواه خصوصا وانه لم يبخل بما يمتلكه من ثقافة وفلسفة حياة على الناس. وآخر ما يمكنني التقديم له: ان الرجل بقي طوال حياته ابن مصر الحقيقي صريحا ومتواضعا.. منفتحا على ابناء مجتمعه قاطبة، اذ لم ينغلق عليهم او يأسر نفسه في برج عاجي من فوقهم.. حادثهم وعاشرهم وجالسهم في كل مكان، وخصوصا في ابرز المقاهي القاهرية التي كان يرتادها يوميا. وقد قال لي يوما: ان هذه العادة عنده اثمن لديه كثيرا من جائزة نوبل العالمية التي كرّم بها!
وقفة مختزلة عند حياته:
ولد نجيب محفوظ في حي الجمالية بالقاهرة، وهو أحد احياء منطقة الحسين العريقة، وذلك في 11 ديسمبر / كانون الاول 1911، واسمه الكامل: نجيب محفوظ عبد العزيز ابراهيم احمد الباشا واصل اسرته من مدينة رشيد على ساحل البحر المتوسط. عاش نجيب في حي الجمالية، وهو حي فاطمي قديم توارثت الاجيال الحياة الشعبية فيه كابرا عن كابر وهو يكتنز بالمأثورات الاصيلة والتقاليد والاعراف المحلية التي تركت في تفكير نجيب محفوظ اثارها الكبرى والتي عبر عنها في ادبه ومضامينه التي احتوتها رواياته وقصصه، فلقد استلهم منها المواد الاساسية كاملة في كتابة " خان الخليلي " و " زقاق المدق " و " بين القصرين " و "
ملف رحيل نجيب محفوظ: مقالات، متابعات وذكريات
قصر الشوق" و " السكرية ".. كما اخذ الرجل مفهوم " الحارة " واستخدمه رمزا لمجتمعه المتماسك في كل تناقضاته في الزمان والمكان، اذ ان الروح المصرية الحقيقية لا نجدها الا في الحارات والحارات الشعبية بالذات. وانتقل نجيب محفوظ مع اسرته من حي الجمالية الى حي العباسية الذي كان اعلى مستوى من الاول وارقى اجتماعيا وثقافيا وقد تعرّف فيه على شعراء وادباء ومثقفين، منهم كل من: الاديب احسان عبد القدوس والدكتور أدهم رجب وغيرهما.درس في المدارس وتأثر وهو طالب في كلية الاداب بالجامعة المصرية يدرس الفلسفة بكل من الاستاذين المعروفين: الشيخ مصطفى عبد الرازق استاذ الفلسفة الاسلامية في كلية الاداب والاستاذ سلامه موسى الصحفي والكاتب الشهير وقد اخذ عن هذا الاخير نزعته التجديدية وتطلعاته الى الحضارة الحديثة وانبهاره بالغرب وحماسه لفكرة العدالة الاجتماعية، وتبني الاعجاب بمنتجات الغرب واوروبا بشكل كبير.. فضلا عن اهتمامه بالشخصية المصرية التي تميزت بها مصر الفرعونية القديمة. تخرج في قسم الفلسفة بكلية الاداب جامعة فؤاد الاول العام 1934. وانخرط بعد ذلك في سلك الوظيفة العمومية، فاشتغل مدة في وزارة الاوقاف وبقي فيها سنوات ثم انتقل للعمل بمؤسسة السينما واحيل على التقاعد بداية العام 1972، بعد أن شغل وظيفة مستشار وزير الثقافة المصرية لشؤون السينما.
لقد كتب العديد من القصص والروايات التي اخرج بعضها سينمائيا، ومن اشهرها: " القاهرة الجديدة " 1945، و "خان الخليلي" 1946، " زقاق المدق" 1947، " بين القصرين" 1956، " قصر الشوق" و " السكرية" 1957، " اللص والكلاب" 1961، " السمان والخريف" 1962، " الطريق " 1964، " الشحاذ " 1965، " ميرامار " 1967، " المرايا " 1972، " الكرنك " 1974.. وغيرها. ولقد مثّل الادوار التي رسمها ابرز الفنانين المشهورين في كل من الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. ولقد كانت له صولة مع الازهر الذي اعترض اعتراضا شديدا على روايته " اولاد حارتنا " التي سحبت من الاسواق، واتهم محفوظ باتهامات خطيرة!
حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للاداب العام 1988 فكان اول مبدع عربي ينال هذه الجائزة العالمية، وتعّرض لمحاولة اغتيال العام 1994، ولكنه نجا منها.. ومن ابرز صفاته التي لابد لي ان اسجلها هنا انه محبا للنكتة وشديد التواضع ويهوى الموسيقى والطرب الاصيل والعشرة الدائمة، يرتبط ارتباطا عضويا بالناس من خلال المقاهي ويعتبر من اصدقائها الحقيقيين ومن ابرز المقاهي التي ارتادها: مقهى عرابي في حي الجمالية لأكثر من عشرين سنة، وكازينو الاوبرا ومقهى ريش ومقهى الفيشاوي وغيرها.
لقاء مع نجيب محفوظ في ساعة من الضحى في كروبي:
لقد كنت قد زرت القاهرة اكثر من مرة منذ عهد بعيد، وغبت عنها سنوات طوال ولكنها لم تغب عني وعن وجداني ابدا حتى في اللحظات القصار.. وكانت آخر زيارة لي لها في مطلع العام 1990 وكنت برفقة وفد علمي للمشاركة في واحد من المؤتمرات الاكاديمية.. وكنت تواقا جدا كي اعيش كل زمني في مصر الكنانة اذ من عادتي ان يختفي النوم من جفوني ايام السفر لا في الليل ولا في النهار من اجل ان يكون كل وقتي معبأ للمشاهدة ولقاء الاصدقاء وزيارة ما اود زيارته. كنت امشي الهوينا في واحد من امهات شوارع القاهرة رفقة الزميل الدكتور عبد الجبار عبد مصطفى (قتل ـ رحمه الله ـ في ديسمبر 2003 بالموصل من قبل عصابة اجرام وكان رئيسا لقسم العلوم السياسية بجامعة الموصل) ، واذ بي المح على البعد الاستاذ نجيب محفوظ يتهادى على عكازه باتجاهنا.. قلت للاخ مصطفى: انه نجيب محفوظ.. دعنا نسلم عليه، فتمنع قليلا بسبب حيائه.. شجعته ووقفنا فجأة امام رائد الرواية العربية، فسلمنا عليه طويلا وقد سعد جدا بلقائنا كعادته مع الغرباء دوما.. وسألته ان استطعت ان اراه في اليوم التالي فوعدنا خيرا بعد ان سألني من اكون ومن اين أتيت.. وافترقنا مع طيب من الكلام الجميل واذكر جيدا انه عّلق تعليقا رائعا على اسمي الذي وجد فيه من حلاوة الموسيقى وجمال المعنى فشكرته شكرا جزيلا.
وجدت نفسي اصحو مبكرا بغرفتي في فندق نبيله كايرو في حي المهندسين لاسرع من اجل مجالسة نجيب محفوظ، وقد وصلت كروبي قبل الوقت بدقائق ولمحت الرجل يزحف بهيئته البسيطة مع تطلعات معارفه اليه من كل حدب وصوب. استقبل كل منا الاخر بفرحة طاغية وجلسنا كل منا قبالة الاخر.. لم يشرب في ذلك الصباح الجميل الا رشفات من الماء في حين كنت احتسي قهوة الصباح الداكنة.. وجدته من اللحظات الاولى متشبث بافكار سلامه موسى التي كان قد تأثر بها تأثيرا كبيرا.. وبدا لي انه كان يتوقع ان يصيبه مكروه من نوع ما من قبل اولئك الذين برزوا ضد قيم الحداثة في المجتمع خصوصا وان له سابقة من نوع ما عندما وقف الازهريون ضده في عقد الستينيات وكان لهم تأثيرهم في ايقاف نشر "اولاد حارتنا " في جريدة الاهرام!! وقد سألته عن معلومات تاريخية تخص سيرته الذاتية، فأكد لي انه الابن السابع في اسرة كبيرة ولكنه الوحيد بين الاناث، وقد تشرّب تفكيره بقيم سيادة الذكور في المجتمع من خلال رؤيته العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا العربية.. فكان ان خلق بطلا رمزيا ذكوريا في المجتمع اسماه بـ " سي السيد " الذي يحمل كل تناقضات الحياة الاجتماعية! لقد طغت شخصية احمد عبد الجواد في الحياة وسرت في مفاصلها، ليس في مصر لوحدها، بل لقد غدت هذه الشخصية رمزا اجتماعيا للذكورية في ارجاء العالم العربي كله!
قال لي: كنت اود واطمح ان احصل على شهادة الدكتوراه في علم الجمال! ولكن الادب ومشاغله في الحياة شغلني عن تحقيق امنيتي! كما بدا لي وهو نادم على زواجه الذي جاء متأخرا، اذ ذكر لي بأن ذلك قد حدث العام 1955 وعمرة 44 سنة.. وهو يؤمن بأن ابداعه قد مر بمراحل مهمة كانت اولاها: مرحلة كتابة القصة القصيرة التي استلهمها من حي الجمالية، وثانيهما مرحلة كتابة الرواية التاريخية التي استلهمها من التاريخ الفرعوني، ثم مرحلة كتابة السيناريوهات السينمائية التي اكسبته خبرة لا تضاهى، ودخل نجيب محفوظ مرحلة تأمل طويلة بعد نيله جائزة الدولة التقديرية، وكان يخلو لنفسه طويلا عندما يكتب.. قال لي أنه يقف عند احداث معينة يسمعها او يراها، ويحاول ان يتخيلها ويبدأ بتوزيعها على مهل مع خصب اختياراته للصور والمشاهد والاشياء والكلمات والرموز وتوصيف الجزئيات. لقد ولدت عنده مرحلة جديدة مستحدثة جدا في كل من " اللص والكلاب " و " الطريق " و " السمان والخريف ".
قال لي بأن اقسى يوم في حياته كان ممثلا بهزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967 وصمت صمتا حزينا كابي الهول لمدة عامين كاملين.. وهذا ما يقره كل معارفه، اذ تجرع الرجل فيهما حزنه والامه.. ولكنه عاد من جديد ليبدأ مرحلة جديدة ولكنها غرق فيها بمنتهى التشاؤمية والترميز.. لكنه استوعب الحياة من جديد وصفا تفكيره في السبعينيات من اجل ان يقدم " الحرافيش " و " رحلة ابن فطوطة " فوصل الى قمة شهرته، وبدأت بعض اعماله تترجم الى لغات اخرى. وسألته عن سر توغله الرائع في خضم المجتمع وجزئياته الحيوية وتوصيف العلاقات في المجتمع على افضل ما يكون.. فقال: لا يمكننا ان نبقى مزيفيّن ازمانا طويلة، علينا ان نكشف كل صور مجتمعاتنا وما لها وما عليها وفي ادق تعابيرها من دون خجل ولا وجل! وفعلا، لقد جمع نجيب محفوظ في تعبيره وتوصيفه الروائي كل التناقضات الاجتماعية والسياسية، وكان بارعا في تفكيكها وتعريتها امام الجميع! ناهيكم عن براعته في خلق الشخصيات الروائية التي نجح في غرسها بقلوب الناس، ومنها: شخصية سي سيد (= احمد عبد الجواد) وغيرها من الشخصيات الدرامية الفذة والمعبرة عن سايكلوجيات المجتمع العربي كله.. وهذه ميزة لم يحصلها اي روائي عربي آخر في العصر الحديث. قال لي: كنت حّرا في كتابتي الروائية بحيث استخدمت العامية المصرية التي كانت جاذبة للقراء الذين وقفوا لأول مرة على ما صورته لهم من الحقائق.. عن المرأة وعن الرجل وعن الشيخ الطاعن وعن الشاب المراهق وعن الجار والجيران وعن القروي وعن العامل والفلاح.. عن الطالب وعن التاجر.. الخ
كان اللقاء قد امتد لاكثر من ساعتين تخلله كلام في السياسة وخصوصا عن مصر عبد الناصر، كما تخلله كلام عن كل من طه حسين وتوفيق الحكيم.. لم اجد نفسي الا والناس من اصدقائه يحيطون بنا وهم يبتسمون ومن عادة الاخوة في مصر رسم ابتسامة خفيفة على الوجوه وهي من اجمل القيم الاجتماعية واسماها في هذا الوجود.. نهضت وودعت الرجل الذي اثرى نهضتنا العربية الادبية والثقافية المعاصرة بكل الابداعات الخصبة.. عدت ادراجي وانا جذل يملئني الحبور وبدأت اسطر في اوراقي مشاهد الرؤية في ضحى ذلك اليوم الرائع الذي لا ينسى ابدا.. أطال الله في عمر نجيب محفوظ ومتعه بالصحة والعافية.
هذا ما كنت قد سجلته في مذكراتي قبل سنوات.. واعيد نشره اليوم لمناسبة رحيل نجيب محفوظ نحو الخلود. سيبقى اسم نجيب محفوظ واعماله رائجا متداولا في كل الاوساط نظرا لما سجله الرجل من ابداعات مثيرة للاهتمام فضلا عن كونها تعد صورة اجتماعية لها مصداقيتها يمكن للمؤرخ في قابل الايام الاعتماد عليها في معرفة طبيعة المجتمع المصري في القرن العشرين.. رحم الله نجيب محفوظ، فلقد اسدى افضل الخدمات الى مصر والثقافة العربية.. وعلى الاجيال القادمة ان تتعلم كثيرا من مدرسة هذا المبدع.
(فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل: نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية ـ نشر متسلسلا قبل سنوات في مجلة الاسرة العصرية، وسينشر الكتاب لاحقا في مجلدين اثنين).