أخبار

حصون الطوائف المنيعة (1)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حصون الطوائف المنيعة (1)
السنية السياسية: الاشتباه الدولي

إقرأ أيضًا:


رجال سورية في لبنان

زوال الهيمنة السورية:
متى يزيل اللبنانيون أسبابها

عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح(1)

جميل السيد: CIA لبنانية تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية(2)

اسعد حردان: العلماني القوي(3)

ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)

كريم بقرادوني .. الرجل الثالث (5)

غازي كنعان .. المايسترو (6)

إيلي الفرزلي.. الولاء غير المشوب بشائبة(7)

سليمان فرنجية: الجغرافية تتحكم في التاريخ(8)

عبد الرحيم مراد العروبي على طول الخط(9)

ميشال المر خط الدفاع الأول(10)

سامي الخطيب رجل المراحل الانتقالية(11)

إرسلان يطمح لدور أكبر(12)

عاصم قانصو السياسة في اوقات الدوام الرسمي(13)

اميل لحود:
* انتخبه حافظ الاسد قبل انتخابه لبنانيًا(14)

*افخاخ المستقبل(15)

عمر كرامي:
*السوري حاكمًا..المعارض محكومًا(1)

*السنية السياسية في ميزان لبنان(2)

بلال خبيز:

كان يوم 14 شباط من العام 2005 تاريخيًا في تاريخ السنية السياسية في لبنان. في ذلك اليوم اغتيل ابرز زعماء البلاد مع عدد من مرافقيه في جريمة تفجير مروعة. كانت لهذا الاغتيال كما يعرف الجميع اثار مروعة على البلاد برمتها. ليس من نافل القول ان الآثار امتدت من الاقتصاد إلى السياسة فالثقافة وصولًا إلى الاجتماع بما يشبه الزلزال. ثمة بعد الحادثة الكبرى ما يمكن اعتباره قطعًا مع تواريخ سابقة، واتجاهات عامة. قطع يكاد يشبه في حدته الانقلابات الحاسمة. خرجت بيروت، بقضها وقضيضها لتشييع الراحل الكبير. هذا الخروج في حد ذاته أثمر نتيجتين كبريين على الأقل. الأولى تمثلت في الاعلان الصريح من الطوائف والمذاهب والقوى السياسية والاجتماعية كافة غيرتها على البلاد وتطلبها العيش فيها، وانضباطها تحت سقف سلمها المهزوز. والثانية تمثلت في الخيبة الكبرى التي أصابت التاريخ السني السياسي في البلاد ومحاولة الطائفة الكبرى مواردا وعددًا الالتفاف على الفجيعة الكبرى والمبادرة المستعجلة إلى ترتيب شؤون البيت اللبناني على وجه السرعة.


لم يخل الأمر من ارتباك بيّن على مستوى الأداء السياسي لوجهاء بيت الطائفة الأكبر في لبنان. مثلما لم تخل ردود الفعل على الحدث الجلل من ارتجال كان ولا يزال في غير محله، وإن كان بعضهم ما زال يحاول تثميره في صالح الطائفة ودورها الراجح.


في المستوى الأول على المرء ان يسجل ايجابية كبرى يمكن البناء عليها، حيث تداعى اللبنانيون من طوائفهم ومناطقهم كافة للتظاهر في بيروت وتحت العلم. كان في ذلك ما يثبت ان الخلاف مهما قويت وشائجه ومهما تعددت منابعه واصوله، لا يستقيم إلا تحت العلم. فلم يلجأ "حزب الله" الذي تزعم مظاهرة 8 آذار إلى العصيان في المناطق واعلان نفسه خارج سياق السلطة والدولة وأهلها. مثلما ان تظاهره تحت العلم اللبناني ترافق أيضًا مع تشديد من أمينه العام الذي زار وسط بيروت للمرة الأولى في ذلك اليوم، على كون المتظاهرين تحت الرايات اللبنانية في ساحة رياض الصلح، ليسوا كل اللبنانيين وان كان الحشد الهائل يغري الناظر بالقول ان هذا ليس لبنان وحده، بل هو لبنان وبعض سوريا. بل ان هؤلاء، ورغم الأعداد الهائلة التي تصطف وتهتف وتلوح بالأعلام، ليسوا إلا جزءًا من اللبنانيين فيما الجزء الآخر يتظاهر في الساحة الأخرى، في بيروت أيضًا وتحت قبة المسجد الجامع الذي بناه الراحل وتحول مدفنًا له.
كان التظاهر الشيعي الحاشد يعلن انه ينتظم تحت حد العلم رمزًا لا محيد عنه، وداخل أسوار المدينة الكبرى تاليًا وأمرًا واقعًا. لكن هذا التظاهر كان يضمر من جهة أخرى ان بيروت التي يمكن الاحتشاد فيها، هي بيروت المدينة المفتوحة لكل القوى، وهي بيروت عاصمة الوطن، حين يكون الوطن وطنًا حقًا. وفي وسعها مهما ضاقت شعارات المتظاهرين أن تستوعب ما يجري وان تحوله في ما يضر المتظاهر ويفيد البلاد، او في أسوأ الاحوال في ما يفيد المتظاهر والبلاد على حد سواء. لكن هذا التظاهر المشهود لم يؤخذ في البلاد على معناه الآنف الذكر. ذلك ان هذا المعنى ما كان له ليستقيم ويصلب عوده إذا لم يؤازره تيار حاشد يمثل ما هو مشترك بين اللبنانيين حقًا وفعلًا.


والحال كنا امام مظاهرتين بالغتي الأهمية. الأولى تمثلت في تشييع الرئيس الحريري حيث احتشدت المدينة الأكبر في لبنان تحت راية الاعتراض على الاغتيال الذي يطاول عموم البلاد وليس جهة من جهاته. والثانية عنت من دون كثير لبس وغموض دخول العاصي والخارج والطرفي في المتن تحت العلم، مستظلًا المدينة الأكبر. لكن المظاهرتان سرعان ما انزاحتا عن هذا المعنى إلى معان اخرى بدت في غير صالح البلاد، بما هي بلاد ووطن وكيان.


اعقبت المظاهرة الكبرى التي تزعمها "حزب الله" مظاهرة دعا إليها تيار "المستقبل" والقوى السياسية – الطائفية المتحالفة معه على خوض معركة التفلت من قيود الهيمنة السورية الثقيلة على البلاد مقدرات وسياسة وتوجهات. احتشد السنة والموارنة والدروز ومعظم أهل الطوائف الأخرى في مظاهرة حاشدة في 14 اذار، في مطلع الاسبوع الذي اعقب مظاهرة "حزب الله" الحاشدة. تزعم السنة هذا المهرجان الحاشد، وانتظمت الطوائف الأخرى فيه تحت راياتهم وخطابهم. وأثمر التزعم والانتظام هذان نتيجتين بالغتي التأثير في مستقبل لبنان: فمن جهة أولى كان المحتشدون يعترضون على مظاهرة "الوفاء لسورية" التي تستعد للخروج من لبنان، وكانوا يعاودون تحديد خطوط التماس الطائفية بما لا يقبل الجدل والشك، من جهة ثانية.


الكثيرون تحدثوا عن اغتيال معاني 14 اذار. لكن أحدًا لم يعلن ما طبيعة هذه المعاني وما كان يجب ان تنتجه حقًا وفعلًا. لكن المرء وهو يستعيد تلك اللحظات الحرجة لا بد أن يلاحظ ان التظاهرة نفسها، هي تتويج اغتيال أي معنى للماضي أو للمستقبل لما سمي ثورة الاستقلال. حيث ان اجتماع عدد من طوائف لبنان تحت راية سنية لا لبس في هويتها، ليس أقل من اعادة ترسيم الحدود الحاسمة بين الطوائف على وجه محدد. كانت المظاهرة مثابة الرد على احتلال "حزب الله" حيزًا من أحياز العاصمة لزمن قصير، قال فيه قولته وأعلن فيه خطابه. ليصار إلى تأكيد ان هذه المدينة لها مراجع وتستند إلى حدود واضحة، وتملك أيضًا خطوط تماس يجب إعادة رسمها وتأكيدها مرة اخرى وأخيرة. وعليه أرادت مظاهرة 14 اذار ان تطرد خصمين من المدينة نفسها، النفوذ السوري من ناحية أولى، واحتمال ان يملأ "حزب الله" ومن معه فراغ هذا النفوذ عنوة وبخلاف رغبة أهل المدينة وناسها ومتنفذيها ووجهائها.


الدفاع عن بيروت ليس أمرًا مستغربًا على "تيار المستقبل" ومن يمثل وما يمثل في لبنان. فمشروع الحريري تركز في وسطها التجاري. وعلى هذا الوسط عقدت كل آماله في تحقيق دور حاسم من أدوار السنية السياسية الحديثة التي احتكر رفيق الحريري الأب تمثيلها في بيروت، وأتى اغتياله ليسمح لورثته باحتكار الزعامة على الطائفة السنية في مدنها الكبرى فضلًا عن القرى والأقاليم. والحق إن الاستناد إلى بيروت والدفاع عنها ليس دفاعًا غير مشروع على الإطلاق، لكنه لا يصدر عن هوى حداثوي أصاب الطائفة وزعمائها على حين غرة، ولا يمثل استفاقة على ضرورة تجنب شرور الطائفية، مثلما يحلو للجميع القول في لبنان، وسعي حثيث لتجاوزها نحو تحقيق الهوية الوطنية الجامعة والتي تصهر اللبنانيين في بوتقتها الشاملة.


الدفاع عن بيروت في وجه الغزوة التي مثلتها مظاهرة "حزب الله"، هو دفاع عن صفاء المدينة الطائفي، وعن الامتيازات التي يتيحها استمرار هذا الصفاء فاعلًا ومنجزًا ونقيًا للطائفة ودورها في المستوى اللبناني الأعم.


تمثل بيروت المدينة الوحيدة التي يمكن ان تحوز شروط المدينة التامة في لبنان. ويغلب على أهلها الأصيلين الانتماء إلى المذهب السني، فضلًا عن مذاهب متعددة أخرى مسيحية واسلامية، ولعل الطائفة الارثوذوكسية ابرزها في مستوى الدور الاقتصادي والتاريخي. لكن ما يميز السنة في لبنان انهم يشكلون غالبية أهل المدن الساحلية الكبرى، من طرابلس إلى صيدا فبيروت، وحتى مدينة صور التي يغلب عليها الجوار والسكن الشيعي. لكن بيروت تمتلك خصائص بالغة الأهمية تميزها عن بقية المدن اللبنانية تمييزًا حاسمًا. فهي العاصمة والمدينة الأكبر، والمركز السياسي والمالي والاقتصادي والإعلامي والثقافي. وفي اختصار شديد، بيروت هي بيضة ميزان لبنان، يبنى على ازدهارها ازدهار البلد وعلى حربها حروبه وعلى سلمها سلمه. فضلًا عن هذا كله إن بيروت من جهة ثانية هي المدينة الاكثر اتساعًا لهجرات اللبنانيين إليها من الأرياف والمدن الأخرى. في طبيعة الحال تنتج من هذا الدور الحاسم والمركزي الذي تؤديه بيروت في المستوى اللبناني الأعم نتائج بالغة الاهمية ينبغي تسجيل أبرزها على نحو دقيق.


بيروت هي المركز السياسي، وهذا يعني في ما يعنيه انها تضم السفارات والوزارات ومؤسسات الدولة الأكبر. مع ما يفترض هذا الأمر من انتعاش اقتصادي لأهلها وسكانها. ثم ان بيروت هي المركز المالي، مع ما يعنيه ذلك ايضًا من تركز للثروات داخل حدودها، ثم انها ايضًا المركز الاقتصادي، وذلك يعني ان الخبرات الاقتصادية والعلمية تهاجر إليها من الأرياف والمناطق. فضلًا عن الدور نفسه الذي يعنيه كون المدينة هي المركز الإعلامي والثقافي. هذا كله يفترض أن ممولًا او مستثمرًا يريد الاستثمار في لبنان، سيختار بيروت مقرًا لأعماله. ففيها تتركز الخبرات البشرية، والمدينة نفسها تتمتع بأفضل شروط البنى التحتية في لبنان، وبما ان المؤسسات والدوائر الرسمية تتركز فيها ايضًا فإن المستثمر يفضل ان يباشر معاملاته في أقرب الدوائر إليه، ثم انها مفتوحة على البحر والبر والجو. مطارها هو المطار الوحيد في لبنان، ومرفأها كذلك تقريبًا. والحال إن تركز الاستثمارات من كل نوع في بيروت يعني بداهة ان مالكي عقاراتها يفيدون افادة عظمى من هذا الدور. وقد لاحظ احمد بيضون وهو يرصد بعض التحولات في شارع الحمراء الشهير في بيروت، ان بعض المحلات التجارية في هذا الشارع سرعان ما تتغير وظائفها بسبب الكساد الاقتصادي الذي كان يضرب البلاد. فالمحل نفسه يكون هذا الشهر مختصًا ببيع الهواتف الخليوية، بعدما كان في الشهر الذي سبقه مطعمًا ثم يتحول في الشهر التالي محلًا لبيع الألبسة النسائية. هذا التبدل لا شك انه يعود في اصله واسبابه إلى كساد يصيب التاجر او صاحب المطعم، فيضطره إلى بيع ممتلكاته وحصر خسائره. لكننا في الاحوال كافة نعرف ان صاحب العقار لم يتغير وهو يتسلم ايجار المحل كل شهر من التاجر الذي يتغير بحسب نجاحه او فشله. هذه الملاحظة تعني في أول ما تعنيه ان الرابح الثابت في هذه المعادلة هو مالك العقار الأصلي. والحال إنه من المعبر اقتصاديًا ان يقع المطار في بيروت وليس في بعلبك مثلًا ما يعني ان اهل بعلبك وملاك عقاراتها سيفيدون حكمًا من نشوء مؤسسة على هذا القدر من الأهمية الاقتصادية في مدينتهم. مثلما انه لو استقرت الجامعة الاميركية في الشمال مثلًا لساهمت مساهمة فاعلة في إطلاق حيوية اقتصادية ما بتأثير الجامعة ودورها. والحال إن تركز هذه المرافق جميعها في بيروت ، يجعل معادلة الربح والخسارة جائرة على نحو ما. ثمة ملاك العقارات الرابحون على الدوام، وثمة المستثمرون الذين قد يربحون وقد يخسرون بحسب الشروط الاقتصادية والسياسية التي تخضع لها استثماراتهم. لكن الأمر لا يقتصر على هذه النتيجة البالغة الأهمية وحدها. بل ينبغي النظر إلى المعنى الآخر الذي يعنيه تركز المرافق في بيروت دون غيرها. فالمستثمر الذي ينجح استثماره في هذه المدينة هو مستثمر خسرته منطقته وربحته بيروت. أي أن التاجر الكسرواني الذي تنجح تجارته في بيروت يفيد بيروت وأهلها ويصعب أن يفيد كسروان وأهلها.


والحال إن احتكار تمثيل بيروت سياسيًا بالغ الأهمية في المعادلة اللبنانية الداخلية. لأن هذا الاحتكار يشمل في من يشملهم كثيرون من نخبة اهل المناطق والقرى والمدن الأخرى. اي ان السياسة التي تدير بيروت وتدار بموجبها هي سياسة تؤثر على اصحاب البنوك والرساميل والتجار الكبار، وهم تاليًا ينسجون وشائج وصلات وعلاقات وثيقة مع بيروت وزعمائها على نحو لا فكاك منه. فتخسرهم طوائفهم، وهم بعض مواردها البالغة الأهمية وتربحهم بيروت، ومن يمثلها في السياسة والقانون. والمثال نفسه ينسحب على الثقافة والسياحة والإعلام.


من هذا المورد بالضبط، تكتسب السنية السياسية ثقلها الراجح في المعادلة السياسية اللبنانية. ومن هذا المورد ايضًا تتلبس المذهبية الطائفية لبوس الحداثة واتصالها بالعصر. وحيث ان القوى الديموقراطية والعلمانية تعاني نحولًا وضعفًا شديدين في اعقاب حرب اهلية اكلت امالها وطموحاتها واحلامها الكبيرة، فإن المستثمر الوحيد لكل الجهد الذي يقع في المشترك بين اللبنانيين اقتصادًا وثقافة واجتماعًا يستثمر في مواجهة القوى الطائفية الأخرى على نحو واضح، ويجعل من السنية السياسية تنجح في استثمار الالتباس بين محليتها الضيقة والدولة الجامعة. في وقت تظهر فيه القوى الطائفية الأخرى كما لو انها طارئة على البلاد وينبغي استئصال شأفتها وكسر شوكتها ليتسنى للدولة الجامعة ان تسود.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف