عمر كرامي (1 من 2)
السوري حاكماً ..المعارض محكوماً

بلال خبيز من بيروت: علق النائب والوزير السابق وليد جنبلاط على اعادة تكليف الرئيس عمر كرامي بتشكيل الحكومة اللبنانية بعد اسقاطه في الشارع وفي البرلمان اللبناني بالقول: "عمر كرامي مسكين، استعمل ورمي". يستطيع المرء ان يؤسس لفكرة التأريخ لعمر كرامي بهذه العبارة، رغم قساوتها البالغة. فعمر كرامي دخل الحياة السياسية اللبنانية من بابها العريض بعد اقرار اتفاق الطائف في العام 1989، بوصفه وريثاً شرعياً لزعامة آل كرامي الطرابلسية التاريخية. بعد اغتيال رشيد كرامي عام 1987 اخذ اسم عمر كرامي يكتسب حضوراً متميزاً شيئاً فشيئاً. لكن المحامي الطرابلسي لم يكن قبل اغتيال شقيقه معروفاً في الوسط السياسي اللبناني. فكان حضور رشيد كرامي ساحقاً في طرابلس والشمال وفي بيروت وصيدا ايضاً. وإلى يوم اغتياله كان رشيد كرامي احد ابرز رجالات السياسة في الطائفة السنية، لا يضارع اسمه الا بضعة اسماء اخرى ابرزها على الإطلاق الرئيس الراحل صائب سلام الذي امضى آخر سني حياته في منفى طوعي في سويسرا، والرئيس سليم الحص الذي حقق شهرته السياسية في زمن الحرب اللبنانية وتحديداً في عهد الرئيس الراحل الياس سركيس، الذي اتى به من صفوف التكنوقراط لكنه اثبت جدارة في تحمل اعباء الزعامة السياسية واثبت على مر المراحل انه رقم صعب في معادلة السنية السياسية.
عندما استقرت السيطرة السورية على لبنان بدعم اميركي وعربي في مطلع التسعينات من القرن الماضي، تمت تنحية الحص عن رئاسة الحكومة وكلف عمر كرامي بتشكيل اولى حكوماته. هذه الحكومة وللمفارقات المذهلة سقطت في الشارع ايضاً في ما سمي انتفاضة الدواليب في ربيع العام 1992. في تلك الأثناء واجهت حكومة كرامي صعوبات بالغة، وكان اشدها اثراً على الإطلاق حمى المضاربة على العملة اللبنانية مما جعل العملة الوطنية تتهاوى امام الضغط وترتفع اسعار صرف العملات الاجنبية بصورة جنونية، ومعها اسعار السلع والمنتوجات، مع انهيار حاد في القدرة الشرائية للبنانيين. هذه الحال المتفجرة ادت إلى استجابة منقطعة النظير لأعمال شغب وتظاهرات سيارة ضد الحكومة مما اضطر رئيسها إلى اعلان استقالته والخروج من الحكم. ليكلف من بعده الرئيس رشيد الصلح تشكيل الحكومة التي ستشرف على الانتخابات النيابية التي اجريت في العام نفسه.
حملت هذه الانتخابات عمر كرامي إلى البرلمان اللبناني نائباً منتخباً، وهو كان من قبل معيناً في مقعد شقيقه الذي شغر بعد اغتياله. ولم يلبث ان اقام علاقات متينة مع الرئيس سليم الحص في بيروت جعلته واحداً من اركان المعارضة الحصية لنظام الحكم اللبناني.
كان المراقبون يعرفون ان حكومة رشيد الصلح ليست سوى حكومة انتقالية في انتظار ترتيب البيت الحكومي لرفيق الحريري الوافد الجديد على صهوة علاقاته الدولية المتشعبة وثروته الهائلة. إلى حد ان كثيرين من السياسيين والمراقبين لا يتذكرون هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ لبنان، واحتاج الأمر من الرئيس الراحل رفيق الحريري في احاديث صحافية ومتلفزة كثيرة ان يذكر اكثر من مرة انه لم يخلف كرامي على رئاسة الحكومة، وان ثمة حكومة اخرى اشتغلت واشرفت على انتخابات العام 1992 بين الحكومتين. كان رفيق الحريري من طراز نادر الوجود في لبنان عموماً وكان ساطع الحضور إلى حد ان بعض السياسيين عاتبوا رسام الكاريكاتير الشهير في لبنان، بيار صادق، على تركيز رسوماته وتعليقاته على الحريري متجاهلاً رئيس الجمهورية الياس الهراوي بالقول انه يرسم الحجم بناء على الحضور ويبدو له ان الحريري شديد الوطأة وساطع الحضور إلى حد جعل سواه من الشخصيات السياسية يشحبون في حضوره. لم يلبث الحريري ان اكتسح الزعامات السنية جميعاً من صيدا إلى طرابلس فبيروت، وفي انتخابات 1996 اثبت انه الزعيم الأقوى في وسط الطائفة، ولم يلبث ان اثبت ذلك مرة ثانية في انتخابات 2000 حيث اكتسح مقاعد بيروت كلها، الأمر الذي جعل الرئيس الحص يصرح بعد انتهاء الانتخابات عن اعتزاله العمل السياسي.
لم يسعف الوقت عمر كرامي طوال زمن حياته السياسية في اختبار العمل السياسي عن كثب، فالحريري كان ينافسه في معقله التاريخي طرابلس في الانتخابات النيابية والبلدية، فضلاً عن تمدد تيار الحريري إلى قرى الشمال البعيدة والنائية. كان كرامي يشعر بالخطر الوافد على بيته من كل الجهات. لكن الأعراف والتقاليد السياسية في لبنان حفظت لابن البيت الشمالي العريق مكانته المعنوية وبقي على الدوام احد المرشحين الأقوياء لترؤس اي حكومة مقبلة في حال اعتذر الحريري عن التأليف او اسقط لسبب ما.
هذا القدر الذي وجد كرامي نفسه فيه انسحب على سليم الحص ايضاً، فكان الاخير بديلاً من الحريري حين عمد الرئيس اميل لحود في بدايات عهده إلى التضييق على الحريري وتكليف الحص بعد إيعاز سوري للنواب اللبنانيين لتسميته بديلاً. انتظر الحريري خارجاً عامين كاملين، لكنه في انتخابات العام 2000 اثبت انه الزعيم الأوحد وان معركة كسر العظم التي خاضها مع الرئيس الحص قد تطيح بمستقبل الحص السياسي. عاد الحريري إلى السرايا، وانكفأ الحص منافسه الأبرز. لكن السياسة السورية الحذرة على طول الخط من الحريري والتي لا تأمن جانبه، دعمت خصمه اللدود اميل لحود دعماً غير محدود. خاض الحريري معركته ضد التمديد لكنه رضخ اخيراً للأمر السوري القاضي بتمرير التمديد دستورياً، فصوتت كتلته لصالح تعديل الدستور ومن ثم عمد الرئيس لحود إلى التضييق عليه ليحول دون تشكيله الحكومة فاعتذر في بيان شهير. هكذا جاء عمر كرامي رئيساً للحكومة التي تم اغتيال الحريري في عهدها، والتي اسقطت في البرلمان وفي الشارع على حد سواء. هل هو الحظ السيء يرافقه على الدوام؟
بعد تظاهرة 21 شباط التي نظمتها قوى المعارضة الحاشدة والتي اطاحت بحكومة كرامي، بدا ان تاريخ الرجل قد انتهى نهاية لا يحسد عليها. إلى حد ان مشاعر غضب انصاره في طرابلس، الذين نظموا تظاهرات مسلحة قامت باعمال شغب على رموز المعارضة في طرابلس، بدت منطقية ومفهومة. لكن الزعيم الشمالي السني الذي اعلن في البرلمان ان اخت الشهيد الحريري اسقطته كان يشير إلى نقاط قوة ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار. كان الرئيس كرامي يعلن صريحاً ومن دون مواربة، ان من يستطيع اسقاطه في البرلمان هم السنة. ولن يكون قادراً على الحكم إذا شعر هؤلاء انه يضر بمصالحهم ويقلل من اهمية دور الطائفة واعلنوا ذلك صراحة. ما قاله كرامي غاضباً تحت قبة البرلمان اللبناني يعني من وجه آخر ان التظاهرة لا تستطيع اسقاطه سياسياً مهما كانت حاشدة. إلا إذا اجازتها الطائفة السنية عملاً بأحكام دستور الطائف والأدوار المتوزعة على الطوائف بموجب هذا الدستور منذ 1989 وبموجب الأعراف السياسية منذ تأسيس لبنان. كان الرئيس كرامي يذكر بسامي الصلح رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق والذي منعته التظاهرات السنية من مغادرة المنطقة الشرقية المسيحية من بيروت لأنه والى رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون في لحظة انقسام حاسمة وحاشدة في التاريخ اللبناني في خمسينات القرن الماضي. لم يكن كرامي يريد ان يكرر تجربة الصلح، لذا قرر الاستقالة ما ان سمع كلمة النائب بهية الحريري التي تدعوه فيها إلى الاستقالة وتحمله مسؤولية سياسية ومعنوية عن اغتيال الحريري.
ليس عمر كرامي سوريةً اكثر من غيره. وهو حكماً ليس سوريةً إلا بقدر ما يمكننا اعتبار الرئيس الراحل رفيق الحريري سوريةً. لكن موازين الطائفة السنية السياسية جعلته في هذا الموقع الذي وجد نفسه فيه. وهذه الموازين في حاجة إلى تدقيق طويل من دونه، اي هذا التدقيق، يصعب على المرء ان يفهم ما يجري في لبنان حقاً.
على كل حال أُخرج الرئيس كرامي بتظاهرة حاشدة واعادته ايضاً تظاهرة حاشدة. كانت التظاهرة التي تزعم جبهتها السيد حسن نصرالله تعبر مرة أخرى عن انقسام في الشارع اللبناني لا يستطيع الرئيس كرامي إذا ما اراد الاستمرار في عمله السياسي إلا ان يستغل فرصتها. وكرامي في ذلك لا يجافي تاريخاً عريقاً لزعامة آل كرامي الطرابلسية، فضلاً عن تاريخ الطائفة السنية السياسي في البلد. والأرجح ان الناظر إلى المشهد السياسي في بيروت اليوم يكاد يأخذه العجب إذا ما كان ملماً بعض الإلمام بتاريخ هذا البلد. فأهل السنة في لبنان هم اهل الاتصال بالمدى العربي وهم ضمانة دوام هذا الاتصال منذ رياض الصلح حتى رفيق الحريري. ويكاد يكون مستغرباً ومستغلقاً على الأفهام ان يحتشد جمهور هائل من سنة بيروت والمناطق يهتفون ضد سورية وقادتها ونظامها، في مواجهة جمهور حاشد يتزعم السيد حسن نصرالله جبهته يهتف بالشكر لبشار الأسد. اما طرابلس فلها تاريخ حافل بعلاقتها بسورية الطبيعية والسياسية. والحق ان الرئيس اميل اده، بعد اعلان لبنان الكبير عام 1920،واجه تظاهرة سنية حاشدة في طرابلس تدعو للالتحاق بسورية والانفصال عن لبنان الكبير. كما ان والد الرئيس كرامي الرئيس عبد الحميد كرامي كان معروفاً بعلاقاته الوطيدة بسورية. لكن الزلزال الذي ضرب لبنان عموماً والطائفة السنية خصوصاً باغتيال الرئيس الحريري جعل الأمور تنقلب رأساً على عقب. وغدا فهم التقلبات السياسية عسيراً على كل ذي علم في هذا المجال.
علاقة كرامي بسورية علاقة قديمة، لكنه من اركان الطائفة السنية في لبنان والذين لا يستطيعون ان يكونوا مجرد عملاء. فهم غالباً يقيمون ضمن خيار الطائفة وتوجهاتها الأساسية. ومن نافل القول ان كرامي كان يحتكم في تراجعه وتقدمه إلى موازين الطائفة. فليس من باب المصادفة ان لا يوزر كرامي او الحص في اي حكومة من حكومات الحريري. على النقيض من شخصيات سنية أخرى كانت تدين بالولاء لسورية او للحريري نفسه وكان يمكن توزيرها من دون اثارة اي حساسيات.
اللبنانيون يعرفون جميعاً ان عمر كرامي شخصية سياسية وازنة ومؤثرة على نحو لا يمكن مقارنته بشخصيات اخرى امثال سمير الجسر الموالي للحريري او عبد الرحيم مراد الموالي لسورية. لكنه مع ذلك لم يعين وزيراً في اي حكومة سابقة. المعنى ان الرجل كان محفوظاً على الدوام بوصفه يستطيع ان يملأ الفراغ الذي يتركه الحريري في حصة الطائفة السنية من جبنة السلطة. لهذا لا يمكن اعتباره سوريًا بالمعنى الذي صورته الأحداث الأخيرة. وان كان لا يضارع الحريري وزناً وقوة حضور. وربما يمكن القول ومن دون خوف ان عمر كرامي كان ضرورة لسورية في مواجهة الحريري لكنه اكبر المتضررين من اي تحالف يعقده الحريري مع سورية ممثلاً للطائفة الوازنة.
غداً:
السنية السياسية في ميزان لبنان.