العلمانيون: الهجرة نحو الزمن العام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حصون الطوائف المنيعة (5 من 5)
العلمانيون: الهجرة نحو الزمن العام
قرأ أيضا
السنية السياسية: الاشتباه الدولي
حصون الطوائف: المارونية العائدة
بلال خبيز: ذهبت القراءات السابقة إلى محاولة تبيان التناقض البيّن بين الإدعاءات الدولتية الديموقراطية الحديثة التي تستند إليها مشاريع الطوائف وخطاباتها المتعددة والمتناحرة، والقوى التي تتشكل منها هذه الطوائف وتحتكر النطق باسمها. غني عن القول والتوضيح ان ثمة ما لا يمكن جمعه في ادعاء السنية السياسية إمساكها بأعنة مشاريع التحديث في البلد في مواجهة طوائف أخرى ما قبل تاريخية. وايضاً لا يحتاج المرء كثير جهد ليكتشف ان السلاح الشيعي المقاوم ليس هو كل السلاح الشيعي، وليس أصلاً سلاحهم المستقبلي. كذا فإن الخطاب الجنبلاطي لا يستطيع الصمود طويلاً امام تدقيق من نوع كيف تكون القوة السياسية والأهلية التي يقبع وليد جنبلاط على رأسها ويحتكر زعامتها علمانية ومنغلقة في الوقت نفسه؟ بل كيف يمكن ان يستقيم واقع الحال الدرزي شديد الانغلاق مع ادعاءات علمانية منفتحة على النحو الذي يطلقه وليد جنبلاط في المواسم؟ أما المارونية السياسية فليس من قبيل التجني القول انها استثمرت جهد آخرين مسيحيين ومسلمين في ادعائها انها تمسك بزمام الحداثة والمعاصرة، واتصال لبنان بالعالم على نحو لا ينافسها فيه احد.ليس صعباً والحال هذه ان يرد المرء على هذه الإدعاءات رداً مفحماً. لكن الرد المفحم لا يستقيم وحده علماً ومرجعاً. ثمة قوة غائبة عن الميدان. وفي غيابها يستطيع أي كان ان يستثمر انجازاتها على نحو لا ترغب فيه. وفي غيابها يصعب أن يبنى مشترك بين اللبنانيين، يجعل من الدولة السيدة ممكنة التحقق في ظل جوار يحمل مشاريع تتعدى حدوده. ومثلما ان الدولة الجامعة صعبة التحقق في هذا السياق، فإن اتصال مبانيها بالحداثة يبقى مشوهاً ما لبثت تحتكره طوائف محددة وتبني عليه مشاريعها في مواجهة الطوائف الأخرى ونادراً ما تكون في مصلحة البلد. وحين يجري الحديث عن الفيدرالية من العراق إلى لبنان مروراً بالسودان، يتوجس المرء من ان السبب الداعي إلى تعاظم الحديث فيها وانتشاره المذهل من دون روادع، انما يعود في اصله واساسه إلى غياب المشتركات في ظل الدولة الواحدة.
في غياب المشاريع الجامعة، والبرامج السياسية الديموقراطية، لا يجدي الحديث عن توافق او تقاسم او تعايش. والأرجح ان الطوائف المتنازعة تتعايش قسراً لا طوعاً، أما الحديث عن التقاسم ففيه ما فيه من تفتيت لوحدة الدولة الجامعة، وانقلاب عن منجزات الخمسينات والستينات على نحو لا سابق له، على المستوى العربي الأعم.
السؤال الملح في لبنان اليوم هو أين يقع هذا التيار الديموقراطي العلماني اليساري، وكيف يسمح من ناحية أخرى بأن تصادر القوى الطائفية منجزاته؟
ربما يجدر بنا ان نتفحص جيداً أوضاع هذا التيار الغائب، والذي يسمح لقوى ما قبل تاريخية ان تتقاسم ارثه من دون ان يحسن الدفاع عن املاكه. المارونية السياسية تدعي وصل لبنان بالعالم. قد يكون هذا صحيحاً على وجه من الأوجه. لكن اتصال لبنان بالعالم له منذ العشرينات عنوان واحد اوحد، يتمثل باتصال تيار علماني يساري بمعظم القوى السياسية والاجتماعية الحية في أرجاء العالم الأربع. في وسعنا ان نستفيض في تعداد مثالب الشيوعية الآفلة. لكن الثابت ان هذه الحركة التي ملأت عالم القرن العشرين، هي بنت اصيلة للحداثة، من جهة أولى، وداعية لا تكل لعقد أعمق أواصر الصلات بين الشعوب في العالم اجمع. وعلى درجة نفسها من الوضوح لا يمكن لعاقل ان ينكر ان اتصال لبنان بموجبات الصراع العربي الاسرائيلي في ستينات القرن الماضي وسبعيناته كان صناعة يسارية وشأناً من شؤون الديموقراطيين. المستجد والطارئ هو السلاح الطائفي في مواجهة اسرائيل ونصرة القضية الفلسطينية. هذا المستجد ليس شيعياً فحسب، على ما اسلفت المقالات السابقة، إنه ايضاً سني بامتياز، فلم يحدث طوال عمر القوى السنية الأصولية من مصر إلى الجزائر فلبنان فسورية فأفغانستان ان جعلت من القضية الفلسطينية سبباً لحزم عصبها ودافعاً لتجديد خطابها السياسي.
المسألة تتعلق إذاً بحق الأبناء في ان يرثوا اباءهم. لكن ورثة اليسار متفرقين شذراً مذراً، ورزقهم يسيب على ابواب الطوائف ويصبح مادة لسجالات في التفرقة لا التوحيد، وفي الفيدرالية والانفصال عن الدولة الجامعة لا في ما هو مشترك تحت سلطة دولة القانون في كل مكان من العالم العربي.
يمكن بقليل من الجهد ان يلاحظ المراقب ان أسباب انفصال التيار الديموقراطي في لبنان عن إرثه بالغة التشعب والتعدد، لكن المسألة التي اريد ان ابحث فيها بين هذه المسائل تتعلق بضغط العولمة على بنى الدول الجامعة. فالديموقراطيون في العالم أجمع، وفي العالم الثالث على وجه الخصوص، يعانون اولاً ضغط العولمة وشيوع تقنياتها. ومن نافل القول ان العولمة ولدت مسلحة حتى أسنانها شأنها شأن الدولة من قبل، والحق ان سلاحها كان ماضياً وحاداً وبالغ التأثير في جسد الدولة - الأمة نفسها قبل كل جسد آخر. هذا السلاح فك عقل الدولة - الأمة عن جسمها على نحو لا سابق له، هو نفسه الذي اتاح لهذا الجسد ان يفرز مقاوماته الهاذرة، من قبيل ما نشهده اليوم في العراق وفي مدريد ولندن ونيويورك وفي بيروت والرياض والقاهرة وبغداد.
شكلت إطارات العولمة وطناً افتراضياً لكل سكان الأرض القادرين على الدخول في مواطنيته. فالمرء اليوم يستطيع ان يعيش في القاهرة او الرياض ويشتري كتبه وثيابه وأدواته الكهربائية من سنغافورة أو كوالا لامبور من دون ان يتحرك من مكانه، فضلاً عن ذلك هو يستطيع ان يحاضر في علم الاجتماع من بنغلادش لطلاب في نيويورك. والوعود التي تطلقها تقنيات العولمة لا تحصى، إلى حد ان المقبل علينا من تقنيات يتيح لجراح في لوس انجلس ان يعطي توجيهاته لطبيب في غرفة العمليات في دارفور اثناء اجرائه عملية جراحية معقدة. فضلاً عن هذا كله يستطيع المرء اليوم اذا امتلك الادوات والامكانات اللازمة ان يعمل ويتاجر ويعلم من غرفته في شقته عبر العالم من دون اي روادع من اي نوع. هذا يعني من وجه اول ان بعض المناقشات البالغة أهمية تم ترحيلها سلفاً من المكان إلى الزمان. اي ان الأفكار الكبرى لم تعد محلية لبنانية، فقمة ما تصبو إليه المناقشة المحلية في لبنان مثلاً ان تكتشف الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أما أمر تحديد الانقسامات العلمانية التي تنقسم على اساسها المجتمعات شرقاً وغرباً فمتروك للمناقشة على الشبكة، مثلما تترك للمناقشة على الشبكة مهمة تحديد القضايا الأشد إلحاحاً في المناقشة والاهتمام. إذاً لن يكون خبر زيادة الأجور في المملكة العربية السعودية خبراً عالمياً وقضية تستوجب المناقشة على الشبكة، رغم انها تطاول في فوائدها ملايين العرب. وعلى النحو نفسه لا يكون خبر مناقشات مجلس النواب اللبناني أكثر من خبر محلي يقع في المكان ولا يقفز من المكان المحلي الضيق إلى الزمان العالمي الموحد. هذا التبويب النظري يجعل الهجرات من الدولة الجامعة أقوى من ان تحصرها السلطات المحلية بالمطارات والمرافئ والطرق السريعة. والحال فإن كل ما هو محلي ولا ينجح في تجاوز محليته بالعنف او باختراع الصدف المميت احياناً، يصير صناعة محلية. اذاً ليس من قبيل الترف النظري القول ان ثمة في العولمة اتجاها حادا وضاغطا نحو تأسيس رابطة مواطنة عالمية، لا تولي الشؤون المحلية الضيقة، في لبنان او فرنسا مثلاً، اهتماماً يذكر إلا بقدر ما تؤثر هذه الشؤون في الزمن العام وتستطيع ان تستولد الأفكار من ثناياها. الخلاصة
ان ثمة هجرة زمنية يقوم بها القادرون على هذه الهجرة من دولهم وبلادهم إلى هذا الفضاء المتسع. وهي هجرة تفترض ان الاهتمام بنوافل الأمور من قبيل مناقشات الشبكة الهاتفية في بيروت او عمان يمكن ان تترك للبيروقراطيين المتبلدين. والحال فإن ما يجري اليوم في كل مكان من العالم هو هجرة النخب زمناً ومكاناً على نحو متواتر نحو انشاء رابطة مواطنة من نوع ما، لا تعبأ بالحدود المحلية ولا تعبر على حواجز الجمارك. في مكان آخر، يذهب الإرهاب الأصولي إلى اثارة الاهتمام العام جاعلاً من المكان المحلي الذي يقع داخل حدود الدول مختبراً لتجاربه على مدى قدرته على اثارة المناقشة العامة. فيكون العنف العاري سبباً للإدانة العامة، ولا يتورع عن قتل الأطفال في جرائم مروعة او تفجير الأنفاق والجسور ليجعل من مثل هذه الحوادث قادرة بفظاعتها ولا معقوليتها على شد الانتباه إليها وتدخيلها في الزمن العام مع أصحابها ومنفذيها.
خلاصة هذا الاستطراد الطويل، ان العولمة فرضت هجرة على النخب المحلية وجعلت الشؤون المحلية العامة من اختصاص المواطنين المحليين. والحال ليس غريباً حين تهاجر هذه النخب من مواطنها الأصلية ان تسد فراغ هجرتها تشكيلات ما قبل حديثة وما قبل تاريخية في أحيان كثيرة. الدول الجامعة والسيدة في خطر. لا تحتاج هذه الملاحظة إلى مناقشة كثيرة ، يكفي ان ننظر في الحدود التي نشأت في العراق اليوم لندرك المعنى الكامن وراء هذا الخطر. حيث تبدو الحدود الدولية العراقية مائعة وقابلة لكل انواع الاختراقات، من الأردن إلى الكويت فالسعودية فسورية فتركيا، لكن الحدود بين الأكراد والشيعة والسنة هي حدود حقيقية ويصعب اجتيازها في سهولة. هذا يعني ان الميت في هذه الحال هو الدولة بحدودها الجغرافية والقانونية والحي هو التضامن الأهلي العشائري الذي يجمع الناس في بوتقة صافية متجانسة ويطرد من متنه كل غريب او مخالف، او يدفعه إلى السكون التام.
على هذا يصعب على تيار علماني يساري في لبنان، او تركيا او حتى في أي مكان، ان يلم شتات الدولة الجامعة وان يعود إلى مواطنية محلية امام إغراء المواطنة العالمية من جهة وامام ضغط التداخلات المتعولمة من جهة ثانية. الطوائف هي البديل الذي يسبق الدولة زمناً وتاريخاً واجتماعاً. والطوائف ترث ما لا يستطيع التيار العلماني الديموقراطي ان يحافظ عليه. كما لو ان نخب هذا التيار قد تركت أرضاً بوراً وحرقت زرعها ليتسنى للطوائف والقوى الطائفية ان تستثمر هذه الأرض السائبة.