كل هذه الفعاليات الثقافية.. كل هذه الجعجعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كل هذه الفعاليات الثقافية...كل هذه الجعجعة
الحصيلة: جمل لا غير
ما كتبه الشاعر عبدالقادر الجنابي في إيلاف عن الفعالية التي ستُنظم في برلين في منتصف ديسمبر 2005 وبداية فبراير 2006، باسم الثقافة العراقية، هو مناسبة تستدعي التوقف عندها، لمناقشة كل تلك الفعاليات المشابهة، التي تُنظم هنا أو هناك باسم الثقافة! وفي حالتنا العراقية وبعد كل ما جرى من حروب ودمار وتزييف، نحتاج بالفعل إلى نقاش صريح ولاذع، يقوم فيه كل واحد منا بتسمية الأسماء باسمها. وسأتحدث عن هذه الفعالية، لأنني أنا الآخر دُعيت للمشاركة فيها.
لم أعرف السيدة كاترين ديفيد من قبل، وقد سمعت بها للمرة الأولى، عن طريق إيميل أرسلته لي محررة أدبية صديقة أميركية تعيش في شيكاغو، وقبل معرض فرانكفورت الدولي للكتاب لهذا العام، تخبرني فيه الصديقة (التي هي الأخرى لا تعرف كاترين ديفيد)، عن رغبة هذه المرأة بدعوتي للمشاركة في هذه الفعالية المذكورة (أنظر للإيميل الموثق مع هذه الرسالة الذي حمل عنوان: في البحث عن نجم والي وفاضل العزاوي)، وكيف أن كاترين وفريقها النسائي في برلين يُقدرون كتاباتي، وأنهم يجدون أنفسهم مضطرين للجوء للصديقة في أميركا للعثور على عنواني (كما جاء في الإيميل)؛ أمر أثار الإستغراب عندي – بعد أن أثار الفضول عندي في الوهلة الأولى – لإعتقادي أنهم لم يكونوا بحاجة للإتصال بأميركا، من أجل الحصول على رقم تلفوني وعنواني، وكانوا إكتفوا بالإتصال بدار نشري الألمانية أو بإحدى الصحف الألمانية التي أكتب فيها، وخاصة صحيفة زوددويتشه تزايتونغ الواسعة الإنتشار، ولكن كما يبدو لغاية في نفس يعقوب، قاموا بذلك (أحتفظ بظني لي)! وعندما إتصلت بي شريكة كاترين "هيلا بيلغ" (التي لا تعرف اللغة الألمانية رغم إقامتها وعملها في برلين: كتبت لي إيميل مطابق لإيميل عبدالقادر الجنابي!!)، بعد حصولها على عنواني، لتخبرني انها سترسل لي تذكرة طائرة للقدوم إلى برلين من أجل لقاء كاترين دافيد للتباحث معها في شؤون الفعالية؛ أقول الحق، أنني ترددت بالسفر إلى برلين، أولاً: لضيق الوقت عندي، ثانياً: لم أجد سبباً مباشراً يستدعي السفر بالفعل، وتبذير تكاليف يُمكن الإستفادة منها في دعم الثقافة في العراق، كما يدعي اصحاب المشروع، ثالثاً، كان من الممكن مناقشة هذه الأمور في التلفون؛ لكن المرأة أصرت على مجيئي! ذهبت، وفي إعتقادي أنني بالفعل سألتقي بتنظيم جديد من نوع آخر، وبأنني أمام فعالية ستختلف عن باقي الفعاليات، كما أفصح الإيميل، بكل ما إحتوى عليه من أبهة وفخامة وهو يوثق للفعاليات التي نظمتها وتُنظمها هذه المرأة المعجزة كل عام ولكل بلد عربي!!!
لكن عندما إلتقيت كاترين ديفيد، والنساء المنظمات رفيقاتها (لا تتحدث أي واحدة منهن الألمانية، ولحسن الحظ تتحدث بعضهن اللغة الإسبانية اللتي أتحدثها أيضاً)، ثبت لي، أن كل هذه الجعجعة بلا طائل، وهي ليست من أجل الثقافة العراقية، إنما هي فرصة لمنظميها بالترويج عن أنفسهم. من الضروري المرور هنا مروراً عابراً على هذه النشاطات بشكل عام. فأنا أعرف ومن تجربة إقامتي الطويلة في ألمانيا (25 عاماً)، كيف أن الناس هنا (لا أعتقد أن الأمر يختلف في بلدان أوروبية أخرى!) تستغل الكثير من الأزمات والحروب في البلدان الأخرى، لكي يقيموا مشاريع خاصة بهم، وكيف أن من يطلقون على أنفسهم بالخبراء، يتحدثون عن البشر والثقافة هناك، وكأنهم أكثر معرفة من سكانها الأصليين. ثقافات كثيرة تُكتشف اليوم، وتوضع على المشرحة، وكأن هذه الثقافات لا همّ لها غير إنتاج العنف، أما دعوة مثقفيها، فيحمل هدفاً واحداً فقط: تأييد ما يذهب إليه المنظمون، أن تلك الثقافة فارغة، لا تملك مشاريعاً كبرى، غير الإختلاف بينها واالترويج للعنف. ليس من الغريب إذن، أن نعثر في هذه الفعاليات على الأغلب، على مثقفين من الدرجة الثالثة أو أقل! ذلك ما حدث لأغلب الفعاليات التي نُظمت باسم الثقافات غير الأوربية؛ وما حدث ويحدث للثقافة في العراق لا يختلف عن بقية الثقافات.
ذلك هو الإنطباع الذي منحتني إياه كارين ديفيد عند الحديث معي بما يتعلق بشؤون الثقافة في العراق. إذ وعلى مدى أكثر من ساعتين، لم تتوقف المرأة من الحديث وبإسهاب عن الوضع الثقافي والمثقفين العراقيين، بل راحت تريد أن تعلمني، كيف، أن هؤلاء المثقفين لا يطيقون بعضهم البعض، وكم هو من الضروري أن يبينوا إختلافهم ونفورهم من بعض أمام الألمان! وكان عليّ أن أذكرها، أن طائرتي ستقلع بعد ساعتين، ولا أملك الوقت الكافي لنقاش أمور هي في ظني، ليست لها علاقة بالفعالية. ثم إذا كان الهدف من الفعالية عرض خلافات العراقيين وصراعاتهم، وأنها تعرف كل شيء عن ثقافتنا، ناهيك عن إنتهائها من وضع قائمة بالأسماء (أحتفظ بالقائمة اللتي تحوي على ما يقارب 49 رجلاً) فما هي أسباب دعوتي إلى برلين!
إضافة إلى ذلك، فإن ما أثار الدهشة عندي، ليست خلطة الأسماء العجيبة والغريبة، التي حملتها القائمة التي رأيتها أمامي، والتي إقترحتها كاترين ديفيد والمنظمات معها، إنما كانت هذه القائمة وللغرابة خالية (باستثناء اسم واحد على ما أظن)، خلت تماماً من الأسماء النسائية!! 49 مدعو من الرجال!! هل يُعقل ذلك، وكان عليّ أنا تذكيرها، أن قانون الإدارة المؤقت في العراق وبكل سيئاته، ضمن مشاركة 25% بالمائة من النساء في كل الهيئات الحكومية، فكيف تنظم هي الأوروبية مع فريقها النسائي فعالية تستثني منها مبدعات عراقيات، وهنّ كثيرات، وتحتفي بفحول الثقافة العراقية؛ وكأن الثقافة العراقية ممثلة بذكورها "النشامى" وحسب!!! ولم أسمع جواباً على ذلك، غير أن تقول لي، إحدى المنظمات، بأنهن لا يعرفن أية مثقفة، وسيقبلن أي إقتراح أقدمه!! وإذا كان الأمر اثار بعض الغرابة عندي في البداية، فإنه تلاشى تماماً في النهاي، عندما رأيت الشعار الذي وضعوه للفعالية العراقية: جمل يسير على الطريق السريع!! نعم جمل لا أكثر ولا أقل. ومن الطبيعي في غرف هؤلاء، أن شعباً يرعى الجمال، ليست فيه مثقفات. وكان من العبث أن أفهم فنانات الحداثة حول كاترين دافيد: أن زهى حديد هي المبدعة رقم واحد في مجال المعمار عالمياً!!!
الأكثر إضحاكاً من ذلك، هو أن منظمات الفعالية، وكاترين ديفيد بالذات، حسب تصريحها لي، في لقائي بها في برلين، يهدفن من الفعالية أن تتحول إلى مناسبة للنقاش بين المثقفين المعارضين للحرب من مثقفي الداخل، والمثقفين الموالين للحرب في الخارج!!. وأستغربت المرأة، عندما قلت لها، من أين جائت بهذه المعلومة، التي تقول بأن مثقفي الخارج مع الحرب؟ وبدت مضطربة، عندما أخبرتها، بأنني لا أعتقد أن هناك مثقفاً عراقياً مع الحرب، لقد شبعنا جميعاً من حروب النظام، والصحيح هو: أن هناك مثقفين ضد الديكتاتورية والحرب والعنصرية، ومثقفين روجوا وما يزالون يروجوون للديكتاورية والعنصرية والحرب. القسم الأول دعوا وكافحوا لإسقاط للنظام وحرصوا على تثبيت ثقافة بديلة، ثقافة سلام في نصوصهم التي كتبوها، والقسم الثاني، كانوا أبواقاً للنظام والعنصرية والحرب، والقضة ليست قضية داخل وخارج! على أية حال، عندما عرضت عليّ قائمة المشاركين، (ربما باستثناء اسمين أو ثلاثة)، بدت لي حتى في هذه النقطة، غريبة في اختيارها للاسماء؛ فقد خلت القائمة أيضاً مما أسمتهم المنظمات مثقفي الداخل، أي على عكس الشعار الذي رفعته الفعالية.
وحتى إذا نحينا كل هذا إلى جانب، فالمرأة تطير كما يقول برنامج عمل الفعالية الذي في حوزتي، شرقاً وغرباً، من أجل لقاء عراقيين والتشارور معهم بصدد المشاركة بالفعالية!!! مع العلم بأن من الممكن التشاور مع هؤلاء تلفونياً، أو عن طريق الإيميل!! أما قضية المدعو شمة فهي قصة تثير الرثاء بحد ذاتها. بالتأكيد، أن الموسيقى العراقية تملك موسيقيين آخرين لا يقلون موهبة عن "الرفيق" شمة، إن لا يتفوقون عليه، في الموهبة وفي النظافة الإنسانية والإبداعية، فنانين لم يروجوا للحرب والديكتاتورية والعنصرية، إنما سعوا أكثر لبذل كل ما في وسعهم لكي يقدموا فناً رفيعاً يؤسس لتقاليد جديدة في الغناء والموسيقى، تقاليد ترسخ لمضامين إنسانية واشكال إبداعية حديثة، ولم يلجأوا إلى دعاية سياسية غوغائية لتقديم فنهم، مثلما لم يعتمدوا على مؤسسات تروج لهم في داخل البلاد أو في خارجها. أنه من غير المفهوم، أن يتم الترويج لشمة هذا في هذه الفعالية! لدرجة أنهم حجزوا له مسرحاً خاصاً له لوحده، على عكس فطاحل الشعراء الآخرين، سواء من جماعة كركوك أو غيرهم من ذكور الثقافة العراقية البائدة، الذين سيقرأون على شكل جماعات، في يوم واحد أو يومين!
لكل تلك الاسباب وغيرها، بدا لي من العبث المشاركة بمثل هذه الفعاليات، التي يتحول فيها المبدع إلى أحد أفراد القطيع. وعندما صارحت كاترين ديفيد ورفيقاتها المنظمات، بأنني لا أملك: لا الرغبة ولا الحماس للمشاركة في هذه الفعالية، التي هي مضيعة للوقت بالنسبة لي، بدت النساء خائبات جداً، وكأنهن توقعن مني التصفيق مباشرة! كان من الصعب بالنسبة لهن، معرفة، أن فعاليات مثل هذه لا تخدم غير أولئك الذين يقومون بتنظيمها، أما الشعراء الذين سيقرأون قصائدهم في برلين، فلا أحسدهم على المشاركة في تلك الفعالية، انهم مثل من يغني في الحمام!
نجم والي
عبد القادر الجنابي: لاآكل من هذا الخبز