أصداء

قصة الطائفية في العراق 2

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عرس الوطنية وهزيمة الطائفية


شتان ما بين رمضان الذي يعيشه العراقيون اليوم وذلك الرمضان البهي الذي عاشوه قبل ثمانين عاما ونيف..
لي أن أصف شهر رمضان سنة 1920 بأنه عرس للوطنية العراقية وهزيمة للطائفية، وللعراقيين أن يفخروا بأنهم قاموا في ذلك الشهر بما لم يقوموا به من قبل أبدا، وأن يخجلوا من أنهم قاموا في ذلك الشهر بما لم يقوموا به بعد ذلك أبدا. لقد قدمت المبادرات الشعبية الفريدة في هذا الشهر دروسا جلية نحتاج اليها اليوم حاجة جدية. سأوجز في السطور التالية وقائع هذا الشهر ودروسه.

قصة الطائغية في العراق 1

حين فرضت الدول الإمبريالية "الإنتداب" البريطاني على العراق سنة 1920 تكونت حركة وطنية رافضة للقرار. كان الجدل المحلي آنذاك يدور حول السبل المطلوب إنتهاجها لتفعيل حالة الرفض وطرح بديل وطني. فتنبه الناشطون الى إن ثورة وطنية شاملة لا تقدر أن تصنعها إنتماءات ما قبل وطنية، وإن المطالبة بإستقلال البلاد لا يقدم عليها فرد ينتهي وعيه عند العشيرة والطائفة. فأقروا في منهاجهم بأن حركة النضال من أجل الإستقلال يجب " أن تبدأ قبل كل شيء بتوحيد كلمة العراقيين على إختلاف مللهم ونحلهم وأن تبذل أقصى ما يمكن من المجهودات للقضاء على كل بواعث الإفتراق في الدين والمذهب ". إن عبارة "قبل كل شيء" الواردة في المنهاج تشير الى إعتبار الحركة الوطنية آنذاك أن معركتها ضد الأمراض المحلية سابقة، ومهيئة لمعركتها ضد الإحتلال الأجنبي، والنجاح في الحرب على الطائفية يمنح الشعب جدارة خوض حرب الإستقلال، أما عدم النجاح فيها (ناهيك عن عدم خوضها) فيحكم على حرب الإستقلال بالفشل مقدما. إن هذا التمرحل الذي توصل اليه رواد الوطنية العراقية لم يكن ذكيا فقط وإنما منسجما منطقيا مع التاريخ: فالرابطة الوطنية كما نعلم مرحلة متقدمة على الروابط الزراعية كالعشائرية والطائفية والمناطقية. كما ليس لنا أن ننكر دور الظروف العامة، المتمثلة بوجود إحتلال أجنبي، في هذا التوجه. فالتنبه الى خطر الطائفية على الوطنية لم يكن إبتكارا ذاتيا فقط وإنما فرضه الظرف السياسي. أو قل هو من تلك المرات التي تكتشف فيها حركة وطنية متطلبات الواقع وتبدي إستجابة منطقية لها. لهذا لم يكن غريبا أن يؤتي هذا التوجه ثماره بوقت قصير جعل مس بيل ـ سكرتيرة المندوب السامي البريطاني ـ تعترف في إحدى رسائلها بأنه " قد وضحت للوطنيين خلال مدة من الزمن الحاجة الى تكوين جبهة متحدة من الطائفتين الإسلاميتين، وتغلبت المساعي بصورة موقتة على التعصب الشديد الذي يفرق بين الطائفتين السنية والشيعية ".
أما أكبر البراهين على منطقية وصواب هذا التوجه فهو إنه أدى، الى جانب عوامل عديدة أخرى، الى ثورة كبرى عمت كل العراق وكلفت بريطانيا ثمنا باهضا وأجبرتها على إعادة النظر في سياستها في العراق. قامت الثورة في السنة ذاتها، وستعرف فيما بعد بـ "ثورة العشرين".
دروس من رمضان
على صعيد التطبيق إبتكر الناشطون الوطنيون في هذا الشهر ممارسة إجتماعية فريدة تجمع بين مجالس المولد النبوي السنية ومجالس "التعزية" الشيعية! حيث يجتمع بعد الإفطار جمهور غفير من الطائفتين في جامع سني مرة وجامع شيعي مرة على التعاقب، فيلقي احد وعاظ السنة خطبة ثم يعقبه شيخ شيعي فيتلو مقتل الحسين.. الأمر الذي لم تشهد له بغداد مثيلا من قبل.. ولم يتكرر بعد ذلك الى اليوم (ما روته هيفاء زنكنه عن هذه الممارسة في روايتها "مفاتيح مدينة" حقيقي وليس خيالا). معنى هذا إن السنة صاروا يشاركون أخوانهم الشيعة في الممارسات المصاحبة للتعزية الحسينية كالبكاء وضرب الصدور (اللطم) حتى إن أحد الظرفاء روى أن بعض اللاطمين السنة أصيبوا في اليوم التالي للمولد/التعزية بألم في صدورهم لأنهم لم يتعودوا على لطم الصدور من قبل!
لا أدري كيف أصف الذكاء السياسي الحاد لمبتكري هذه الفعالية، خصوصا بالمقارنة مع سياسيي هذه الأيام سواء في العراق أو في بلداننا العربية! فأولئك لم ينشغلوا بالكلام والشعارات عن العمل في الشارع، أعني العمل في الواقع لتحريكه الى أمام، وقد حركوه بالفعل! لقد ضربوا في الحقيقة عصفورين بحجر واحد: فمن جهة أيقضوا مشاعر الإنسجام الإجتماعي والوحدة الوطنية، النائمة في أعماق الفرد العراقي، ومن جهة أخرى ألحقوا ضررا سياسيا كبيرا بالبريطانيين أصابهم بالهلع الذي عبرت عنه مس بيل قائلة: " نحن قلقون، إذ لا ندري هل نستطيع أن نخرج من رمضان من دون أن يقع إضطراب... إن المتطرفين إتخذوا خطة من الصعب مقاومتها: وهي الإتحاد بين الشيعة والسنة، أي وحدة الإسلام، وهم يستغلون ذلك الى أصعب الحدود. فهناك إجتماعان أو ثلاثة إجتماعات تقام في المساجد للإحتفال بهذا الحدث الذي لا مثيل له". لابد أن القارئ يرى الآن الفرق المهول بين ما كان يجري بين مساجد السنة والشيعة قبل ما يزيد على ثمانين سنة وبين ما يجري بينهما اليوم.. هذا لكي نحسب فقط كم سنة رجعنا الى الوراء.
درس آخر كبير يقدمه لنا رمضان 1920 هو إن المحتلين وأعوانهم يكرهون ويخافون وحدة الطائفتين، لأنهم يتوقعون منها أن تتوجه ضدهم، وكأنهم على علم بالمنطق المذكور آنفا من إن المرحلة التالية للروابط الزراعية ستكون حتماً الرابطة الوطنية، أي إجتماع كلمة السكان على طلب الإستقلال. هذا ليس كلاما حماسيا من عندنا وإنما أوردته مس بيل في إحدى رسائلها، واصفة تطير أحد "وجهاء" بغداد من هذا التقارب الطائفي لأنه يعني ـ بالنسبة اليه ـ سيطرة الأغلبية الشيعية على غيرهم...

محاورة درامية!
إذن ومثلما يحدث مع المواد الكيمياوية فقد تجمعت كل العوامل المختلفة، الرئيسية والمساعدة، في لحظة تاريخية ليؤدي تفاعلها مع بعضها الى الإنفجار الكبير. حدث ذلك يوم 30 حزيران 1920، في عز الصيف العراقي الشهير، الفصل المفضل للعراقيين لتفجير الثورات! أول من قام بالثورة كانت إحدى عشائر السماوة وتدعى الظوالم (لدوافع طائفية صرف سينزع صدام هذا الفخر من أهالي السماوة ويمول إنتاج فيلم بعنوان "المسألة الكبرى" ينسب إنطلاقة الثورة الى العشائر السنية شمال بغداد!). أثناء تلك الأجواء المتوترة أقام الكولونيل لجمن، الحاكم البريطاني للواء الدليم، وليمة لوجهاء اللواء. وإذا بالوليمة تشهد محاورة فريدة ذات شحنة درامية عالية، بين لجمن والشيخ ضاري رئيس عشيرة زوبع (السنية). وأهمية هذه المحاورة في السياق الذي نحن فيه هي أنها تختزل كل الدروس التي ذكرناها آنفا، وكل المعاني التي تتضمنها العلاقة بين الطائفية والسياسة. حيث يبدو لجمن هنا يحاول بخبث، في سياق منع ثورة الشيعة في الفرات الأوسط من الإنتشار شمالا حيث العشائر السنية، مخاطبة العامل الطائفي عند السنة، كاشفا عن الضرر الذي تلحقه الوحدة الوطنية بالمحتلين وعن مصلحة الأخيرين في تدميرها. نورد هنا نص الحوار الذي رواه أحد أبناء الشيخ ضاري لأهميته في وقتنا هذا بالذات:
" قال لجمن أنه يود الوقوف على رأيهم باعتبارهم من أهل السنة في ما يطالب به الثوار الشيعة من إقامة حكومة مستقلة.
ضاري: ليس في الإسلام سنة وشيعة بل هو دين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة.
لجمن: الحكومة البريطانية حائرة في أمركم لا تدري هل تشكل حكومة شيعية أو سنية.
ضاري: العراق ليس فيه شيعة أو سنة بل فيه علماء أعلام نرجع اليهم في أمور ديننا.
لجمن: أنتم عشائر والأجدر بكم أن تكونوا مستقلين.
ضاري: إن علماءنا حكومتنا، وقد أمرنا القرآن بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر منا، فإذا اعتديتم عليهم فإننا سننتصر لهم ونحاربكم بجانبهم.. والأولى أن تلبوا ما أرادوا. "

كل العراقيين يكفّرون التكفيريين
حصل هذا سنة 1922 وقد تسبب فيه الوهابيون أنفسهم حينما أغاروا على العشائر العراقية جنوب مدينة الناصرية فقتلوا ما يقارب السبعمائة إنسان ونهبوا آلاف الحيوانات وكل ما طالت أيديهم، الأمر الذي أنزل الرعب في السكان وأعاد الى الأذهان مذابح الوهابيين السالفة. فقرر شيوخ العشائر ورجال الدين عقد مؤتمر في مدينة كربلاء لوضع خطة للدفاع عن البلاد، ودعوا الملك فيصل لحضوره، وقد رحب الملك بالدعوة الأمر الذي أثار توجس المندوب السامي البريطاني فضغط عليه وجعله يعتذر عن الحضور باعثا أحد الوزراء لينوب عنه. كما دعى المؤتمر علماء السنة الى المشاركة، فاجتمع هؤلاء في بغداد للتداول في أمر المعتدين الوهابيين وهل يجوز قتالهم، وإتفقوا على إعتبارهم خوارجاً يجب قتالهم. وقال منظم المؤتمر الشيخ عبد الوهاب النائب: " إن إخواننا الجعفرية قد صمموا على الإجتماع وإعطاء القرار بهذا الخصوص، ولما لم يكن بيننا وبينهم خلاف في أي شيء فكلمتنا واحدة ". أورد هذا القول فقط لكي يتأمل القارئ في الفرق بين لغته واللغة التي يستخدمها اليوم رجال الدين المسيّس من الطائفتين. والشيخ النائب هو الذي إنتخبه المجتمعون رئيسا لوفد السنة الى مؤتمر كربلاء، محملينه الفتوى التي أصدروها بوجوب قتال " من يدّعي الإسلام ويحكم بشرك من خالف معتقدهم من جماعات المسلمين مستحلين قتالهم ودماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم بغير سبب وقد هجموا على بلاد المسلمبن عداءً وبداء ".
إن المشهد الذي نقرأه هنا عن التكفيريين الذين يعبرون الحدود لقتل العراقيين يتكرر بتطابق عجيب هذه الأيام وبشكل يومي، ما عدا فتوى علماء السنة بتكفير التكفيريين فهي وليدة تلك الروح الوطنية (الحقيقية لا المزعومة) التي طرحت الطائفية أرضا بالضربة القاضية في اوائل عشرينيات القرن الماضي، فمن المتوقع أن لا نسمعها اليوم في زمن نهضت فيه الطائفية ولم تكتف بطرح الروح الوطنية أرضا وإنما داستها بالأقدام...
حين خرج وفد علماء السنة من جامع الفضل ببغداد للتوجه الى كربلاء ودعه الناس بالأعلام والطبول. وفي كربلاء وجد الوفد أن وفدين سنيين آخرين قد سبقاه الى هناك: واحدا من الموصل والآخر من تكريت. وإنعقد المؤتمر في نيسان 1922، ودام خمسة أيام أصدر بعدها بيانا أكد على مقاتلة الوهابيين "الخوارج" بالجيش النظامي العراقي، الذي كان يومذاك ما يزال في طور التأسيس، وتلك كانت إشارة قوية ضد الجيش والوجود البريطانيين، الأمر الذي أثار سخط البريطانيين وحلفائهم المحليين. كتب علي الوردي: "إن الوثائق السرية التي أمكن الحصول عليها مؤخرا تدل دلالة واضحة على إن صراعا شديدا حدث بين كوكس (المندوب السامي البريطاني) والملك فيصل حول مؤتمر كربلاء، فقد كان الملك يؤيد المؤتمر..، بينما كان كوكس يرتاب من المؤتمر ويخشى من عواقبه ويعتبره دسيسة من البلاشفة والأتراك لإثارة العراقيين ضد الإنكليز".
لقد كان نجاح المؤتمر تأكيدا على أن الوحدة الإجتماعية تمنح شعورا بالقوة الجماعية وبالسيادة، وهو شعور موجه تلقائيا وحتمياً ضد الوجود الإجنبي.

سمير طاهر
samir_tahir@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف