أصداء

قصة الطائفية في العراق 3

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الطائفية في عهد صدام


يرينا إستقراء الأحداث الداخلية في العراق ما بين صعود نظام البعث وسقوطه أنه لم يحدث قط أي إحتكاك طائفي على مستوى المجتمع، بينما حدثت إصطدامات طائفية عديدة وكبيرة على مستوى السياسة. وأجرؤ على تلخيص الفترة المذكورة من هذه الناحية بأنها كانت فترة عمل متعمد ومتواصل من قبل حزب البعث والإسلام السياسي معاً لإستغلال العامل الطائفي في المجتمع لمصلحتهما، ما يعني قيامهما بزرع بذور الحرب الأهلية في رحم المستقبل،

قصة الطائفية في العراق 1

قصة الطائفية في العراق 2

سواء أكان إولئك الساسة عالمين بهذه العاقبة أم جاهلين.
سنة 1957 تأسس حزب الدعوة الإسلامية على يد الشيخ محمد باقر الصدر وبمباركة الحوزة العلمية في النجف، هادفا على الأمد البعيد الى تأسيس دولة ومجتمع إسلاميين. ولنكن صريحين هنا: إن جعل الدولة الإسلامية هدفاً في بلد متعدد الطوائف هو وصفة للتقسيم. ولا أدري كيف فات مؤسسي الحزب، وفيهم مفكر نابغة مثل محمد باقر الصدر، هذا الأمر وتخيلوا إمكانية تأسيس دولة وفق المذهب الجعفري في بلد ثلث سكانه العرب ونصف سكانه جميعا هم من أبناء مذاهب وأديان أخرى! فلتأسيس مثل هذه الدولة ثمة سبيلان فقط: إما قمع المكونات الأخرى، أو تقسيم البلاد.
كفّر حزب الدعوة الشيوعيين، والبعثيين، وأشياء كثيرة في الحياة المعاصرة وأراد بناء حياة أخرى و"تغيير المجتمع والفرد" وفقا لقواعد الدين الإسلامي وإقصاء كل ما عداها، كما تذكر مقالة تعريفية على موقعه الإلكتروني.
سنة 1968 إستولى حزب البعث على السلطة، آتيا بأطروحات علمانية قومية وتطبيقات فاشستية، الأمر الذي أَدرَجه بيسر في فئة "الكفار" بمنظور حزب الدعوة. لقد كان الصراع بين الحزبين حتمياً لأن كليهما شموليان لا يرضيان بأقل من إمتلاك كل الواقع العراقي و"تغييره"، أي قولبته حسب فكر كل منهما. لقد كافح البعث جميع التياراات الإسلامية وليس فقط الشيعية: فتنظيم الإخوان المسلمين كان محضورا، والإنتماء للبهائية وللوهابية كانت عقوبته الإعدام. غير إن حزب الدعوة كان أكبر وأخطر تنظيمات الإسلام السياسي طوال السبعينيات والثمانينيات، كما تبينها المحطات التالية:
سنة 1973 تكون حلف علماني من البعثيين والشيوعيين موجه ضد الإمبريالية العالمية و"الرجعية المحلية"، لكن السلطة رغم ذلك إختطّت سياسة "التبعيث" (إكراه المواطنين على الإنضمام إلى حزب البعث ووضعه شرطا للتوظيف، الدراسة، السفر وغير ذلك).
سنة 1977 نفذ حزب الدعوة عرضا للقوة في مدينة النجف تمثل بمظاهرات معادية للسلطة، إنتهت بتصفيات جماعية.
سنة 1979 إنهار تحالف البعث ـ الشيوعي؛ صعد صدام الى السلطة؛ وضع الشيخ محمد باقر الصدر تحت الإقامة الجبرية بالتزامن مع قيام الحكم الإسلامي في إيران.
سنة 1980: إيران الشيعية على الحدود وحزب الدعوة في الداخل وكلاهما يطلبان رأس صدام! وإنسياقا للطبيعة الهجومية للأخير لم يقف منتظرا مصيره وإنما بادر بالهجوم كوسيلة للدفاع: فقتل الشيخ الصدر وشقيقته في زنزانتهما، وأعلن الحرب على إيران، ونشر قرارا بإعدام كل من ينتمي الى حزب الدعوة!
هل كانت حربا طائفية؟
هل كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988) حربا طائفية؟.. رغم إعتراف صدام مرة بأنه كان هو المبادر الى شن الحرب "للدفاع عن الأمة... الخ" إلا إن مسألة من هو الطرف المبادر بالحرب ستغدو بعد التحليل مسألة شكلية. فتحول الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة الى دولة، وحالة ثورية، يقودها خريج الحوزة العلمية في النجف وأحد أعلامها، آية الله الخميني، شكل إغراء كبيرا لحزب الدعوة في العراق على إسقاط سلطة البعث. ولم يكن هذا سرًا فقد رفعت إيران شعار "تصدير الثورة" فيما كانت إذاعة طهران العربية تحرض العراقيين يوميا ضد نظام الحكم.
طائفياً كان قرار الحرب صعبا على النظام لكون غالبية الجنود هم من الطائفة الشيعية، فكان لابد من بذل مجهود ثقافي وقمعي مركّز لكي يتم إقناع هؤلاء بمحاربة إخوانهم في الدين والطائفة. فإستُعينَ لذلك باستثارة الدافع الوطني تارة والقومي تارة أخرى؛ إلا إن الدافع الذي أثبت نجاعته أكثر من أي شيء آخر كان هو سلطة الخوف. فقد تمت تربية الخوف لدى الجنود وكل الشعب عن طريق الإعدامات العلنية للهاربين من الجيش التي كانت منظمات الحزب تقوم بها في المناطق السكنية، وعن طريق عسكرة كل المجتمع، وتركيع أفراده بلا إستثناء، وممارسة الضبط الجماعي بالترويع اليومي وبشكل قل مثيله في تاريخ الشعوب.
من ناحية العلاقة القانونية بين البلدين كانت نتيجة الحرب هي التعادل، أي العودة الى وضع ما قبل الحرب؛ أما نتيجتها السياسية الداخلية فكانت بلا شك إنتصاراً لصدام على حزب الدعوة وكل القوى التي راهنت على هزيمته. وكان قد نشأ في المنفى الإيراني أثناء الحرب تنظيم سياسي شيعي آخر هو "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق"، أشد رجعية من حزب الدعوة ويتميز عنه بولائه الصريح لنظام إيران.
إنتفاضة آذار 1991
أحدثت هزيمة الجيش العراقي في حرب الكويت إنتفاضة شعبية عفوية عمت معظم المدن. لم تباغت الثورة النظام فقط وإنما حتى الأحزاب المعارضة له، التي كانت مبعثرة في المنافي وجبال كردستان. غير إن الفصيل المعارض الأقرب جغرافيا والمتربص كان هو "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" المتمركز في إيران والذي لم يكن بالأصل جزءاً من تجمع المعارضة العراقية بل وكثيرا ما وقف عقبة في طريق توحيد تلك المعارضة (فقد رفض مثلاً المشاركة في مؤتمر لها بدمشق إلا بشرط إنسحاب الحزب الشيوعي منه، بدعوى إنه حزب ملحد! ووقتها أبدى الحزب المذكور نزاهة وطنية فانسحب من المؤتمر لكي يفسح الطريق أمام مشاركة "المجلس الأعلى")، فسلل عناصره الى العراق وإستغل عفوية الإنتفاضة وإفتقارها الى قيادة ليمسك بدفتها ويوجهها وجهة طائفية منغلقة ومتخلفة، فتحولت هتافات الجماهير من رفض الحروب والمطالبة بالعدل والديموقراطية الى المطالبة بحكومة شيعية و"لا وليّ إلا علي، نريد قائد جعفري!".
حين إنفجرت الجماهير آنذاك كانت تعرف لماذا إنفجرت ولكنها لم تعرف الى أين تمضي.. إن قيام هؤلاء الطائفيين بصبغ إنتفاضة المظلومين بصبغتهم هم قد دفع ثمنه المظلومون كما هي العادة، فقد إنسحب مسلحو "المجلس الأعلى" الى مستقرهم في إيران ما أن إقتحمت قوات الحرس الجمهوري المدن المنتفضة، تاركين سكان هذه المدن بين يدي جلادين (غالبيتهم من متعصبي السنة) يتسابقون لنيل مباركة صدام عبر إرتكاب المذابح التي خلقت ظاهرة المقابر الجماعية. فقد صور النظام لقواعده العسكرية والمدنية الوضع بأنه "مؤامرة إيرانية" بالتنسيق مع "غدر" داخلي شيعي، مبرراً بذلك طائفيته بطائفية أعدائه.
لقد لعب السلوك المتخلف للأحزاب الشيعية في إنتفاضة 1991 دورا في تصعيد الميل الطائفي لصدام شخصيا ولأجهزة نظامه، أكثر من السابق. فقد شعر صدام وقتها بأهمية التعاضد الطائفي وحتى العشائري بوجه العدو الشيعي المتربص، عبر عنه بتجميعه كل حلفائه العشائريين بمن فيهم أولئك الذين كان "زعلانا" معهم. ومن هنا بدأ مسيرة الإنغلاق على نفسه..
إنغلاق حتى النهاية!
سأرسم هنا صورة لهذا الإنغلاق لكي أبين فقط موضع الطائفية الحقيقي في منظومة صدام حسين، وذلك بإزاء التهويل الذي يمارسه البعض لهذه النقطة لتبرير طائفية مقابلة تمارس اليوم.
منذ إشتداد الحصار الدولي على العراق في التسعينيات، وما أحدثه من إشتداد الصراع الوحشي على المال والفساد العلني في جميع مستويات الدولة، جرى التخلي عن أولوية الحزب ومحوريته في السياسة الداخلية، وإقتصر دوره على إلهاء العامة، فيما تم التركيز على منظومة السلطة نفسها: فصار المنصب الإداري، مصحوبا بالقدرة المالية، أقوى من "الدرجة الحزبية". ثم أُدخِلَتْ هذه المنظومة في المصفى الطائفي فأعطيت الأولوية بالثقة للطائفة السنية. ثم أدخلت هذه الطائفة في مصفى جغرافي لتقتصر الثقة والإمتيازات على عشائر وبلدات معدودة في شمال الوسط. ثم يُصَفّى أبناء هذه المناطق ليتبقى أبناء عشيرة صدام وأقرباؤه. وأخيرا يصفى هؤلاء لتتبقى حلقة صغيرة لا يتجاوز أعضاؤها أصابع اليدين كانت تتحكم بكل شيء في العراق وبكل فرد فيه؛ فقد تحولت الدولة كلها الى أسرة صدام، وأسرة صدام الى دولة: أركان نظامه وأصحاب المناصب الأشد حساسية في الدولة هم ولداه وإخوانه وأصهاره، والباقون مجرد ديكور. وذلك لأنه، بعد سلسلة "خيانات" وإنشقاقات، كان صدام قد تجاوز التوجس بـ "الطائفة المعادية" الى التوجس بكل الناس خارج أسرته الصغيرة. كان عليه أن يدفع ثمن ذلك في الفصل الأخير من حكايته: حيث إنفض عنه الجميع، وتركوا جيشه، بل وشمتوا به، ما أن دخلت القوات الغازية البلاد...

سمير طاهر
samir_tahir@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف