عن الشرق: الثراء الوثني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بوذا وشبنهور:
كتب الأستاذ: منصور النقيدان هنا في إيلاف، مقالة مثيرة في فكرتها، سأضيف هنا على الطرف المتعلق بإعادة الاعتبار للحضارات الشرقية عامةً وللحضارة الصينية بشكل خاص؛ تلك الدعوة التي يعود ندرة من نادى بها عربياً إلى انهمام جماعي- له مبرراته الحقيقية- بالحضارة الغربية وبكل تفريعاتها، غير أننا وعبر استعراض سريع لقياس التأثير الذي صبغته النزعة الروحية الشرقية على بعض سياقات الفلسفة الغربية نعثر على تلاقح فكري غنيّ لم يكتب له الاستمرار والترويج، فصدى البوذية حضر مثلاً في كتابات الفيلسوف الألماني "شبنهور" خاصة في الشق الخلاصي، والانزواء نحو التفكير الخالص زد على ذلك أن تشاؤم شبنهور الفلسفي فيه إلحاح على "الفناء الكلي من لوازم الحياة كطريق نحو إيقاف سلسلة التوالد" تلك الفكرة هي نفسها مرحلة "النرفانا" التي وضعها "بوذا" قديماً كوصية ثامنة ضمن وصاياه المعروفة بـ"الوصايا الأخلاقية".
زرادشت فارس، وزرادشت نيتشه:
حضر طيف فارس في توظيف نيتشه لاسم "زرادشت" حيث أطلق نيتشه اسم "زرادشت" على الناطق بأفكاره التي يريد أن يصنع من خلالها "الإنسان الأعلى" وفعلاً -كما يقول هيدغر- فقط جسّد نيتشه عبر زرادشت طريقة تعبير عُليا لأفكاره عن الإنسان الأعلى، وفي مقولة أخرى رأى هيدغر أن "زرادشت نيتشه هو المبشر بالعود الأبدي، والإنسان الأعلى" زرادشت الفارسي (560 ق.م) لا علاقة له بزرادشت نيتشه، فالأول أسس ديانة توحيدية ذات ثنائية واضحة وهي ديانة "أهورا مزاد (الإله الأعظم) ويطلق عليها أحياناً "المزدكية" بينما نطق زرادشت نيتشه بأفكار مختلفة ذات صبغة إلحادية صارمة ساهمت في التأثير على مسار التفكير الفلسفي وأدخلت الإنسان المفكر في مرحلة أخرى، وتفجرت فلسفة نيتشه عن مدارس شتى وساهمت في التأثير على مختلف فنون الحياة فنيتشه فيلسوف "حياة" حاول أن يغير جذور طريقة تفكير الإنسان منذ أن وجد. وسنجد غير نيتشه وغير شبنهور الكثير من الفلاسفة الذين جذروا من علاقتهم بكافة الحضارات. ألم يدرس كلود ليفي ستراوس "الأساطير" بأسفارٍ هي الأضخم، ويتغزّل بالبرازيل بعد زيارته لها وقد بهرته بأساطيرها وألوانها وطفرتها الأسطورية، قام كلود ليفي ستراوس بتعريف الأسطورة بقوله: (هي قصر أيديولوجي مبنيّ بحطام خطاب اجتماعي قديم).
نيتشه ضد البوذية:
غير أن الجديد لدى نيتشه يكمن تحديداً في ربطه بين "الفلسفة المثالية" وبين "الأخلاق المسيحية" وهو الانتقاد الأشد حدة حينما وصل بين فلسفات تأسيسية حديثة وبين جذورها المسيحية، كما جعل من "زرادشت" -الذي يُنشد وصاياه على رأس الغابة- "الناطق من رحم الطبيعة" لذا كان بجواره "النسر" و "الثعبان"، لم تكن علاقة نيتشه وثيقة بالحضارات الدينية، لكنه كان على ارتباط بالجزء المطمور من الحضارات، من هنا ارتبط اسمه "بالتفكيك" لأنه زحزح المراكز على حساب الأطراف، هذا مع هجومه المستمرّ على "البوذية" وذلك لتأسيسها للضعف والاستسلام فالبوذية تناقض فلسفة القوة التي يؤسس لها نيتشه، في المقابل أثنى نيتشه- في الصفحات الأخيرة من كتابه "عدو المسيح"- على "الإسلام" وذلك لتأسيس الإسلام لمبدأ القوة عبر تشريع "القتال" وهاجم المسيحية التي رأى فيها تأسيسات نظرية للتطبيع الديني مع "الضعف". يأتي امتداح نيتشه للإسلام-ربما- نكاية بالمسيحية، وإلا فنيتشه في الأغلب الأعم يردد النص الأبرز في نقده لكل الأديان قائلاً:"إن الديانات التي سادت سيادة تامة حتى اليوم قد أسهمت إسهاماً واسعاً في إبقاء النموذج الإنساني على مستوى سافل" وفي مكانٍ آخر اتهم نيتشه المسيحية الغربية بـ"المسؤولية عن بناء المجتمع الصناعي الحديث بمساعدة البرجوازية الصاعدة".
يمكن أيضاً أن ننظر إلى "الثقافات الشرقية" على أنها حضارات ذات بعد "سكوني" ليس من ضمن استراتيجيتها "التوسع" أو "التبشير"-كما في المسيحية- أو "الدعوة"-كما في الإسلام- بل هي ذات مدد روحي، فهي ذات تعاليم مرتوية روحياً، وهو ما ميّز الحضارة الشرقية حيناً من الدهر أنها حضارة "قلقة" تسكن الأسئلة وتألفها، ولا تحاول الخروج منها، على خلاف النموذج الغربي الذي يكسّر الأسئلة تكسيراً، ليصنع إجابات هي بدورها تفرز أسئلة أخرى، في الغرب مكمن "النشاط" هذا هو الأساس، كما أن طبيعة التفكير الشرقي يمكن رصد ملامحه عبر بعض النماذج.
في الهند، انشقاق البوذية عن الفيدا:
إذا كانت بدايات الفلسفة في الهند تاريخياً تعود إلى "الفيدا" القديمة جداً، ووفق كتب التاريخ فإن أقدم خطّ وجد لها يعود إلى (1500 ق.م) برزت وهي تؤسس للعبادة الذاتية، وقد أسس "الكاهن" أدبيات تربط بين العلم الديني والعلم الأسطوري، وحتى نهاية العصر "الفيدي" لم يشهد التاريخ الفكري تلك الفترة أيّ شخصيات أو مدارس، إلى أن تخلّصت الفلسفة شيئاً فشيئاً من سلطة "البرهْمان" =الكهنة، حينها تغلغلت وسط الطبقات الشعبية وبشكلٍ يشبه ما سيحدث في أوربا بعد فترة طويلة، الانشقاق عن التفكير "الفيدي" وانقسم الناس بين من يرى في "تعاليم الفيدات" القداسة وبأن المكتوب هو من النصوص الموحى بها، وبين من يرى فيها سلطة ليست وحيدة، وسميت الأولى بـ"الصراتية" والثانية "بغير الصراتية" ويدخل في الأنظمة غير الصراتية "البوذية، واليانِسْماوية" كأنظمة لا تعترف بسلطة الفيدا المطلقة وإنما الجزئية.
سيكون هذا الانشقاق مهماً في التميهد البطيء لقبول نسبي ستتمتع به الفلسفة في الهند لقبول الأفكار الغربية، وهو ما حث بالفعل، إذن كان في الهند "حضارة" ذات حركة طبيعية، تذكرنا بالحتمية التاريخية، على قاعدة "انجلز" الشهيرة: "يشق التطور طريقه في آخر المطاف طريقاً لنفسه رغم الأعراض الظاهرة والخطوات المؤقتة إلى الوراء"، والهند الآن هي أكبر مستودع ديانات ولغات في العالم برغم الإهمال التاريخي لكل ذلك الغنى الفكري والعقدي ولكل مناطق الغنى الوثني.
في الصين، تطوير الكونفيشوسية بالين-يانغ:
في الصين-التي تطرق لها صديقي منصور- حركة فكرية خفيّة، وكانت فرحتي كبيرة بإعلان قناة الجزيرة في العام الماضي تخصيص أيام من "الصين" لكنني صدمت باهتمامهم السطحي في أمور شكلية وعادات لن تروي غليل المتعطش، كل شيء عربي بعيد-حتى الآن- عن الصين، في الصين تحركت الفلسفة على أشدها وأصبح النص "الكونفشيوسي" أحد النصوص التي تفرعت عن نظريات أثّرت على "الواقع" الصيني، كما هي التعاليم والتأسياسات في الدولة والأخلاق، كتابات-ظاهرها الحكمة والتعاليم- وباطنها التأسيس لرؤى كونية، كما هي نظرية (ين-يانغ) وهي النظرية التي "استعانت" بالكونفشيوسية وبالطاوية من أجل بناء نظرية كونية أوسع وذلك وفق عملية حسابية وشكلية ليس هذا موضع بسطها. ليست الكونفشيوسية وحدها-بل حتى الطاوية- الأدبيات التي تستند إلى كتاب لتاتو كينغ القرن الخمس (ق.م) أسست للأخلاق ولطريقة الحياة "الفردية".
استطراد ضروري:
إننا لا نقول أن الطاوية أو البوذية أو الكونفوشيوسية تؤسس لتنوير كبير كما قد يتوهم البعض، بل كانت تأسيساتها مثل كأي تأسيس يطمح إلى رسم خط محافظ، وكونفوشيوس (479 ق.م) كانت تعاليمه ذات ترتيب سلالي لمرويات أقدم عهداً أما مضمون عقيدته فهو قبل أي شيء آخر تأمين فلسفة أخلاقية وسياسية محافظة. لكن الذي يمكن الاستفادة منه من ذلك العرض هو تفتق تلك العقائد عن خطوط فكرية أخرى انشقاقية استطاعت أن تنحّي السلطات العقائدية من التحكم بالفرد والحياة، كما استطاعوا أن يخرجوا عن "الفهم القديم" وأن يكتبوا تفاسير ذات صبغة انشقاقية وتحررية وتنويرية للتفسير الرئيسي، كما هو الحال في الأنظمة الغير صراتية ومنها البوذية وفي الطاوية أيضاً التي وجد من ضمن معتنقيها من اهتم بفلسفة اللغة والمحاججة بالمنطق.
أوربا ليست وحدها في انشقاقها "الفكري" عن التعاليم السكولائية، و"الديني" عن الكنيسة، و"السياسي" عن استبداد الحاكم الفرد، في الشرق أيضاً صنعت "انشقاقات" هادئة مرت بهدوء وسلام وجددت من نفسها وفكرها. لقد استطاعت العقائد الشرقية رسم سير انشقاقية عن التفاسير السائدة، في تاريخ الإسلام كل المحاولات التطويرية فشلت وأخفقت، وحتى القرن التاسع عشر ارتدّت محاولات التنوير إلى مستنقعات فكرية تغذي فطريات العنف والإرهاب الديني.
فهد الشقيران
كاتب سعودي.
shoqiran@gmail.com
التعليقات
أطلب العلم ولو الصين
كركوك أوغلوا -لماذا لم يتم ذكر البوذية والكونفيوسية والشنتوية(اليابان),وغيرها, عدا الزرادشتية, وهل الصحابي سلمان الفارسي صلة بالموضوع ؟؟!!00