ثقافات

موت شاعر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ليس من الغريب أن يكتب المرء عن موت شاعر، لكن من غير المألوف أن تكون شاهدا على صراعه مع الموت، حاضرا في هذا الصراع كما لو كنت جزءا منه، ترى أمامك حَدَمة هذا الصراع أو تراجع حدته، وتشعر بنفسك واقفا الى جانب الطرف الأضعف، الطرف الإنساني الذي غالبا ما يكون خاسرا في النتيجة. هذا ما حصل معي أئناء إقامة الراحل

نصر جميل شعث، يحيى الشيخ وباسم النبريص: شهادات

وفاة سركون بولص

مراسلات بين توفيق صايغ وسركون بولص

سركون بولص في ألمانيا، فكنت كلما التقيه على انفراد أشعر بحضور الآخر الذي يراقب بسخرية نقاشاتنا، ويتطلع الينا بتشفي حين نحاول إسترجاع ذاكرة بغداد. هذا الآخر أنتصر من جديد، وها هو ذا يرحل الى مملكته، تاركا لنا ظلال الحزن الأسود وكآبة الأيام المقبلة، مصطحبا معه طفلا أصر حتى النهاية على الإحتفاظ بعناد الطفولة لحماية روحه الشاعرية تجاه هجمات الواقع المعاش. لقد عايش سركون الذي كان في داخله أبعد ما يكون عن الحدث السياسي اليومي كوارث العراق بكل حضورها، وذلك منذ اللحظة التي وجد فيها نفسه مضطرا لمغادرة هذا البلد ولحد رحيله المفاجيء، وكان توقيعه على البيان المؤيد لإسقاط نظام صدام الذي أصدرناه قبل إسقاط "صنم بغداد" تعبيرا عن حنينه العميق لهذا البلد، قبل أن يكون تعبيرا عن قناعة سياسية. وفي كل لحظة من حياته كان حلمه يستقر في بلاد الرافدين، حيث يرقد أجداده وأجدادهم في وديان تصب في عروق هذا البلد. كان لبغداد حضور دائم في حواراتنا: بغداد المقهى، بغداد الشارع، بغداد السينما وبغداد البهجة المسروقة، مدينة كلما أمتلكنا وهم الإقتراب منها، أبتعدت عنا.
في بغداد كان سركون واحدا من مجموعة محدودة من الأدباء المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية. وكان غالبا ما يغادر المقهى متجها الى المركز الثقافي السوفيتي الذي كان يحتوي على مكتبة موسيقية كبيرة، ليقضي ساعات عديدة في الإنصات الى سنفونيات رخمانينوف وريمسكي كورساكوف وغيرهم، وربما كان عشقه للموسيقى لا يقل عن عشقه للسينما، عشق أستمر حتى في أحرج لحظات الألم، وما زلت أذكر الأمسيات التي قضيناها في أستوديو مؤيد الراوي في برلين في مشاهدة أفلام قديمة، سبق لنا وأن شاهدناها في العراق، هل تذكر كم كانت تسحرنا سوزان هيوارد فيثلوج كليمنجارو، حيث تتربص الضباع بكاتب على وشك الرحيل، أو الساحرة آفا غاردنر في موغامبو، ومنافستها في حب كلارك غيبل غريس كيلي؟ وهل سنلاحق سبنسر تريسي في دفاعه عن صيده بمواجهة الكواسج في "الشيخ والبحر". لقد مررنا بكل دور السينما في بغداد، وترك سركون عليها بصماته قبل أن يغادر المدينة، وحولنا في برلين أستوديو مؤيد الراوي الى سينما منزلية، نستعيد فيها ذكريات مدينة أصبحت على وشك أن تفقد ذاكرتها الحضارية. وفي كل مرة كنت أرى في عينيه تألقا يخرجه من قيود الألم ورحلة الحزن الطويلة. في هذه اللحظات التي أصبحت موت شاعر بريشة طالب حسين نادرة كان سركون يعود الى ما كان عليه في العراق، شاعرا لا هم له سوى إنتهاك الحدود والتوجه نحو المطلق.
سركون يحتضن برلين، كما كان يحتضن بغداد أو كركوك أو الحبانية، وهو دائما شاعر المدينة، وربما كان يتجول في شوارع بابل، كما تجول في شوارع برلين. وربما كان إنشداده الى المقاهي القريبة من النهر في برلين وسواها هو إمتداد لما كان يفعل في العراق، على مقربة من الماء، في قلب المدينة.
ولا أدري لماذا مازلت لحد هذه اللحظة أتصور سركون بحارا يدور حول العالم من مكان الى مكان، دون أن يجد ما يستقر عليه، مثله في ذلك مثل "الهولندي الطائر" في أوبرا فاغنرالذي لم يلق ميناءا يحط فيه. إلا أنه كان على عكس الأخير، منغمرا في القصيدة التي كونت حياته وخططت لها حتى اللحظة الأخيرة. حين ألتقيت سركون بعد فراق يزيد عن عشرين عاما في "بيت الثقافات في برلين" كان يرتدي بذلة بحار. تعرفت عليه حينها، رغم كونه ملتحيا، ربما بسبب البذلة، فقفزت من مقعدي متجها نحوه للترحيب به. كان أول ما قاله لي: "كيف أستطعت أن تتعرف علي؟"
في المقهى البرليني "على الشاطيء" يوجد كرسي يتذكر سركون، وهناك نادلة مازالت تستفسر عنه، إذ كان قد صورها قبل سنوات عدة وقال لها: "صورتك هذه سترحل معي الى أمريكا."
في وقت سابق كنت إحاور سركون عن مالكولم لوري وروايته الكبيرة "تحت البركان". كنت أحلم، ولهذا الحلم ما يبرره، أن يقوم سركون بترجمة هذا العمل الملحمي، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق هذا الحلم قبل رحيله.
في آخر لقاء معه حاولت أن أرتدي جبة الواعظ، حين طلب مني أن آتيه بزجاجتين من البيرة، فتطلع سركون نحوي بغضب: "لا أريد سوى أن أطفيء النار في جسدي. ثم من يمنحك الحق في أن تقدم لي النصح؟ هل أنت أكبر مني سنا؟"
في تلك اللحظة بدا لي كما لو أطلت علي من عينيه عشرات القرون من تاريخ العراق، رغم أن فارق السن بيننا لا يتجاوز ثلاث سنوات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف