الدراما التي صهرت المجاز بالرمز (2-2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
(2/2)
الرؤية الإخراجية
الدراما التي صهرت المجاز بالرمز (1-2)
علي كامل من لندن: إن الثيمات الثلاث التي نسج منها عرض مسرحية Under Milk Wood تمثلت في: "الحب، الحنين، الزمن". أما الخيط الرئيسي الذي يخترق هذا النسيج فهو "الحلم".
(الحب)
الحب الرومانتيكي يتجسد هنا في العلاقة القائمة بين الآنسة برايس والسيد أدواردس، فهما يحبان بعضهما البعض فقط عبر تبادل الرسائل، مكتفيان بعلاقة حب غرامية دافئة، ويحلم أحدهما بالآخر كل مساء.
الحب الأيروتيكي يرتسم بجلاء في سلوك الشخصيتين السيد والدو والمومس بولي غارتر، اللذين لايستطيعان كبح غرائزهما الشهوانية بالمّرة، فالسيد والدو يحلم وهو يطارد الفتيات منذ صباه، ويتهمه الجيران أنه والد الطفل الذي أنجبته بيتي موريس وتزعم الكثير من نساء المدينة بأنه متزوج بهن. إلا أن هذه الأيروتيكية تتخفف بعض الشيء عند بولي غارتر المومس، فعلى الرغم من أنها لاتستطيع التحكم بعواطفها الجنسية أو سلوكها غير المبالي، إلا أنها مع ذلك تحمل في داخلها مشاعر عميقة لحب متواصل مع شخص متوفى يتردد أسمه في أغنيتها وهو ويلي وي الصغير، الشخص الذي أحبته حقاً.
التهويمات الجنسية نجدها أيضاً في شخصيات أخرى مثل مَي روز كويتج ونوغود بويو. فالشهوانية لمَي روز كوتيج تعكس ذاتها في رموز فرويدية من خلال مراقبتها للماعز في حقول البرسيم. ولأجل التخفيف عن كبتها الجنسي تتخيل أنها كانت فتاة سيئة السمعة محكوم عليها باللعنة بسبب مآثرها الجنسية. إنها تستلقي في حقول البرسيم على الدوام ترسم دوائر بأحمر الشفاه حول حلمتيها وتقول للماعز: "إنتظروا. سأرتكب المآثم لحين أن أنفجر".
أما نوغود بويو عشيق ليلي سمولس فهو يضطجع في قاربه متناسياً العالم يحلم أنه يغوي فتاة تركية.
النزعتان الرومانتيكية والأيروتيكية نجدهما ممتزجان معاً في العلاقة بين غوسامير بينون وسنباد سيلرس، فبالرغم من صدق وعذوبة عواطفهما المتبادلة إلا أنهما لن يلتقيا مطلقاً بسبب نزعتيهما المتناقضة لمغزى الحب، فسنباد شخص غامض مثالي يعاني بصمت، أما غوسامير فهي تحلم بعلاقة جنسية معه لاغير لكنها لاتستطيع البوح له بذلك بسبب عدم قدرتها على إختراق قيود الأعراف السائدة. لذا تجد أن حبهما يغلي داخل سجنيهما، كلّ على حدة.
أما في ما يتعلق بنوع الحب الذي يعقد آمالاً على الموتى فهو يتجسد بجلاء في شخصية القبطان كات وشخصية بيسي بيكَهيد (صاحبة الرأس الكبير). فالأول كان قد أمضى أوقاتاً سعيدة مع حبيبته المتوفاة روزي وكان حبهما ذي نكهة شعرية، وهو مثل السيد والدو عرف الكثير من النساء في حياته، إلا أن حبه لروزي تواصل حتى النهاية. مع ذلك وعلى الرغم من موتها لكنه مازال يتوق إليها، فهو يبكي ويتوسلها في أحلامه أن تخرج من قبرها ثانية لتعود إليه. أما بيسي بيكَهيد فهذه المرأة لم ترَ الرجل الذي أحبته طوال حياتها سوى مرة واحدة حين قبلهّا وغاب، إلا أن تلك الذكرى كافية أن تمنحها متعة تلك اللحظة وأن تكون بمثابة تسويغ لها لمواصلة الحياة.
الشخصان الوحيدان السعيدان وسط الجميع هما السيد تشيري أوين وزوجته اللذان يعيشان معاً بتسامح ووّد متبادلين. الكراهية كنزعة ضديدة للحب نجدها متجسدة هنا هي الأخرى من خلال الشخصيتين السيد بوخ والسيدة أوغمور بريتشاردس، فهما نموذج صارخ للبغضاء. فخطط معلم المدرسة السيد بوخ لتسميم زوجته المناكدة تقدم هنا بطريقة تتماهى و أسلوب التضليل الكوميدي التقليدي ذلك الذي يتضمن نوعاً من المبالغة المولييرية. فحين يجلب السيد بوخ قدح الشاي صباحاً لزوجته نسمعه يهمس لنفسه: "تفضلي ياعزيزتي هذا القدح من الزرنيخ". أو يصفها في مكان آخر بـ "موس الحلاقة".
أما إستبداد السيدة أوغمور بريتشارد وبرودها الجنسي فقد دفع بزوجيها إلى الأنتحار. ثمة إحساس عام من أن الحب يمكن أن يجلب معه الحزن والمعاناة عادة أكثر من السعادة، إلا ان فقدان هذ الحب وتحوله إلى بغضاء كما هو في حالة السيدة أوغمور أو السيدة بوخ لايمكنه أن يجلب معه سوى التعاسة والمرارة.
إن الحب يتخذ هنا له أشكالاً متباينة تبعاً لأختلاف طبائع الناس وأمزجتهم حيث لايوجد شكل ثابت واحد لعلاقات الحب، مع ذلك يمكن القول أن العرض عموماً كان يستحم حقاً في نهر من الحب دافىء وشفيف.
الحنين
هذا الحنين يتجلى بوضوح من خلال شغف الشخصيات بمدينتهم الحلمية لاريجاب، فماري آن سيلرس تشبهّها بالأرض المختارة، والشاعر جينكنس يعلن عن عشقه المطلق لها مفضلاً إياها على جميع المدن الأخرى في العالم، وهذا بالطبع يعكس إلى حد ما المشاعر الشخصية لديلن نحو مدينته لافارنا.
ثيمة الحنين هذه تتردد في جميع مفاصل العرض ولكن بمستويات متباينة، فالديالوغ الأول بين القبطان ورفاقه الغرقى ينتهي برسالة حنين يتذكرون فيها الأشياء العزيزة إلى نفوسهم وشوقهم الشديد إلى تلك الأبتهاجات اليومية يوم كانوا أحياء.
وفي موقع آخر نسمع القبطان وهو يندب فقدانه لحبيبته روزي مستدعياً بعذوبة ذلك العالم الشعري الذي تقاسماه يوماً معاً. في النهاية نعثر عليه يبكي عند قبرها، لكن صوت بكاءه لايستطيع إختراق صمت القبر، فما فقده هو شيء أبدي.
أما الحنين إلى الطفولة فهو يتجلى في رؤيا ماري آن سيلرز التي تحلم أنها تعوم في أحواض من الأصداف وتأكل حلوى التفاح السحرية في جنة عدن. فذكرياتها التي يبعثها الحلم هنا تشبه إلى حد ما حكايات أطفال فانتازية. كذلك مشهد الفتاة الصغيرة وهي جالسة على العشب تلعب بحبات البازلاء وبالقرب منها إمرأة عجوز تعزف على آلة الهارمونيكا، هي صورة أخرى لأستدعاء عالم آمن بريء وصافٍ.
لقطة جميلة أخرى مشابهة نعثر عليها في حلم إيفانس ذه ديث وهو يسرق الجَزَرْ من أمه وسط الثلج قبل خمسين عاماً، هذه الرؤيا التي تتناقض بشكل حاد مع الشخصية المكبوحة التي أصبحها إيفانس في الآخر.
أغنية بولي غارتر ذاتها رغم أنها مضحكة وفاجرة إلى حد ما، إلا إن حنينها إلى الطفولة حزين إلى أبعد الحدود.
الزمن
إن الزمن في الدراما التقليدية هو زمن كرونولوجي يتدفق عادة نحو الأمام أو بشكل أفقي تساوقاً وجريان الحبكة ونمو الشخصيات وتغيرّها في النهاية. أما هنا فالزمن يدور في حلقة واحدة محورها الماضي، زمن يبدو ثابتاً دون حركة ومع ذلك فهو يدور على ذات المحور. فساعة المدينة وساعة الحانة أجراسها صامتة وعقاربها ثابتة على زمن واحد. ليس هذا حسب إنما العرض نفسه يبدأ في العتمة وينتهي في ذات العتمة.
إن مادفع الشاعر إلى تثبيت الزمن هذا هو بلاشك ترميز لحنينه وشوقه إلى زمن مضى، زمن مفقود، زمن مشدود بتلابيب الماضي. بكلمة أخرى، إنه زمن الشاعر، زمن يبتكره الفن حين يعجز عنه الواقع.
مجازات صور وأجراس كلمات
إذا كانتUnder Milk Wood قد وصفت بأنها قطعة تصويتية وأنها لاتصلح للمسرح قدر ملائمتها لفن الألقاء، فإن معالجة المخرج البريطاني روجر ميتشيل جاءت لتدحض ذلك الوصف، فلقد إستطاع هذا الفنان البارع من خلال مايمتلكه من حساسية ومخيلة شعريتان أن يعيد للكلمات أجراسها وصورها مشيّداً بذلك جسراً حميماً يصل بين ضفتي المرئي والمسموع لتعبر من خلاله مواكب صور هذه الملحمة الشعرية ومجازاتها الألقة ولتحّلق بنا في رحلة ساحرة في فضاءات"لاريجاب" الشبيهة بلعبة أطفال، تلك المدينة التي إبتكرتها مخيلة الشاعر لتكون بمثابة مجاز بصري موسيقي مصغر لطفولته.
إن مايثير المتفرج ويشد إنتباهه نحو العرض هو تلك المعالجة السينوغرافية المدهشة لفضاءات الأحلام، فمصمم الديكور وليم دادلي شيّد لنا مدينة حلمية تعوم في الهواء تتدلى من أعالي المسرح بواسطة أسلاك. فكل شيء يحّلق فوق رأس الحالم: الكنيسة، ساعة القلعة، حانة المدينة، أسّرة النوم، خيول الغابة، الديك المعدني الذي يشير إلى إتجاهات الريح، الفنار الذي يرشد السفن وزوارق الصيد، وأخيراً قرص الشمس البرتقالي الذي يعلن مغيبه قدوم الأمسية الأولى لنبحر في أحلام القبطان الأعمى وهو يغفو على سريره الفضي السابح في الهواء.
هذه اللوحة الأنطباعية هي بمثابة معادل بصري يعكس مناخات القصيدة ونكهتها، هذه المدينة السكرى وهي تتأرجح بين السماء والأرض وهذا العالم الفنتازي المعّلق بأجنحة من حلم يتأرجح بين الموت والحياة.
إن كثافة عدد الشخصيات وكثرة الأماكن تطلبّ حلاً إخراجياً غاية في الدقة. فلأجل حل معضلة هذا العدد الهائل من الشخصيات (عددها تسع وستون شخصية)، إختار روجر ميتشيل طاقماً تمثيلياً مكوناً من ثلاثة وعشرين ممثلاً ليلعب كل واحد منهم أكثر من دور. أما تعدد الأماكن وكثرتها فقد تمت معالجتها من قبل دادلي نفسه الذي صمم مسرحاً دواراً يشبه صحناً طائراً يأخذنا عبره في رحلة سحرية نطل فيها على كل أرجاء مدينة "لاريجاب" الخيالية. ليس هذا حسب، إنما إستطاع أن يلج بنا إلى عالم الموتى أيضاً وذلك عبر توظيفه الحيز الذي يقع تحت خشبة المسرح. فحين يتذكر القبطان بحارته الغرقى وحبيبته الميتة روزي تنشطر خشبة المسرح الرئيسية وترفع نحو الأعلى بواسطة عتلات كهربية ليظهر الموتى وهم يخرجون من داخل قبورهم تسحبهم حبال تدلت نحوهم من سقف المسرح ثم يعومون في الفضاء مثل لاعبي سيرك.
إن إستخدام جوف المسرح الذي هو نادراً مايستخدم بسعة كهذه، أحال لوحة بعث الموتى هذه إلى ما يشبه كومة الرمل التي يخرجها النمل إلى السطح حين يحفر منازله تحت الأرض.
إن عرض المشاهد وحركة الشخصيات إستعار شكل المونتاج السينمائي والمونتاج داخل اللقطة على وجه الخصوص. فسعة خشبة المسرح منحت المخرج إمكانية تحريك شخصياته ومشاهده بطريقة ملحمية تذكرنا إلى حد ما بلوحات الرسام الهولندي بروغِل، فمثلما كانت الثيمات المختلفة للرسام تحتشد في لوحة واحدة، كذلك المشاهد والشخصيات هنا، فقد توزعت جميعاً بشكل أوركسترالي.
أما عرض الأحداث فلم يخضع لتسلسل طولي تقليدي إنما كانت تلك الأحداث تبنى وتتهدم في نفس الوقت، تماماً مثلما كانت صور الشاعر ديلن توماس، تبنى وتتهدم، فكل صورة لديه كانت تحمل في داخلها بذرة وجودها وفنائها في ذات الوقت.
إن عرضاً ضخماً كهذا إستدعى بالطبع وجود ممثلين حالمين وخلاقين يتوافر لديهم ليس مراس في فن التمثيل حسب إنما سعة في الخيال وملكات أخرى في جماليات كالرقص والأيماء والغناء والترتيل والتحكم بالحناجر لخلق الهارموني بين الأداء والأيقاع والتعاقب. شيء يكاد يقترب من لغة الموسيقى والرسم إلى حد ما. ومع ذلك لابد لي من الأشارة هنا بشكل خاص إلى جاذبية وجمال وفطنة بعض الممثلين لاسيما منهم نيكولاس مكَافي الذي لعب ببراعة دور الصوت الأول، وآنتوني أدونيل الذي لعب دور القبطان كات، وآلان ديفيد (السيد بوخ)، ولويس بريكون ريتشارد (غوسامير بينون)، ونيريز هيوز (الآنسة أوغمور)، وروبرت بليث (أورغن مورغن)، و شيرلي كنغ بدور السيدة مورغن.
لاشك إن عرضاً ساحراً كهذا سيغوي الكثيرين حتماً بعد مشاهدته إلى إعادة قراءة النص مرات ومرات وربما في قراءة جميع نتاجات هذا الشاعر الألق.
لابدّ لي في الآخر أيضاً أن أختم ماقلت، بأن ماشاهدته كان حقاً أشبه بقصيدة نابضة كتبت للتو، أو لوحة إنطباعية مازالت ألوانها ندية لم تجف بعد.