ثقافات

"غارديان" تنعى الفيلسوف الجزائري محمد أركون

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إيلاف من لندن: ظهرت هذه المقالة في صحيفة "غارديان" البريطانية في 20 من الشهر الحالي وكاتبها هو الأكاديمي السوداني الدكتور محمد محمود، الاستاذ سابقا بجامعة الخرطوم وجامعة تفتز ببوستون والمقيم حاليا في بريطانيا.

في حضرة المفكّر

رحل محمد أركون يوم الثلاثاء 14 سبتمبر / أيلول عن عمر ناهز الثانية والثمانين، وبرحيله فقد حقل الدراسات الإسلامية واحدا من أهم ركائزه وصوتا تميز بالشجاعة والفرادة. وإذا أردنا تلخيصا لمشروع أركون الفكري والأكاديمي

في رحيل المفكر محمد أركون

فلعل ما يلخصه هو عنوان كتابه "نحو نقد العقل الإسلامي" الصادر عام 1984.
وبذرة هذا المشروع تكمن في انجذاب أركون منذ فترة مبكرة لفلسفة الاستنارة وقيمها وللمُثُل السياسية والاجتماعية للثورة الفرنسية. هذه الأفكار والقيم والمثل أفرزت الخميرة الفكرية التي أخرجت مشروعه الفكري للوجود وأنضجته. وفي دراسته للاستنارة رأى جوانبها المعقدة، رآها كميراث أوروبي أنتجه تاريخ أوروبي خاص ولم يستنكف عن الاعتراف بذلك. إلا أنه، وبالإضافة لذلك، رأى شيئا آخر عندما نظر لتاريخ الفكر الإسلامي وهو أن الحضارة الإسلامية حملت في أحشائها نزعة إنسانية كان من الممكن أن تؤدي لولادة استنارة إسلامية.
ولقد ترعرعت هذه النزعة الإنسانية وازدهرت في (العصر الذهبي) للإسلام الكلاسيكي، أي الفترة الممتدة من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر، وهي فترة شهدت ازدهارا كبيرا في العلوم الدينية والعلوم الطبيعية والآداب والفنون. ولقد رأى أركون أن صعود العقل والمكانة البارزة التي احتلها بفضل هذه النزعة الإنسانية لم يؤدِ لازدهار العلوم الطبيعية فحسب وإنما كان له أيضا أثره الذي امتد حتى للعلوم الدينية. فقد أتاح لهذه العلوم استلهام وسائل القياس العقلي، مما ساعد في تطورها واكتسابها لدرجات عالية من التعقيد. إلا أن هذه النزعة ما لبث أن تم إجهاضها وكاد أن يتم محوها محوا تاما من صفحات تاريخ الفكر الإسلامي بعد القرن الثاني عشر.
ولقد كان من الطبيعي أن يتساءل أركون: أين مكمن المشكلة، ما الذي حاد بمسيرة الحضارة الإسلامية وجعلها تفقد بوصلتها وتدخل في عصر تدهور وانحطاط طويل منذ القرن الثالث عشر حتى عصرنا الراهن؟
شكلت محاولة الإجابة على هذا السؤال العمود الفقري لكتابات أركون ومادة مشروعه وهي محاولة بدأت مبكرة وأنتجت بعض أهم أعماله مثل "مساهمة في دراسة النزعة الإنسانية العربية" الذي صدر عام 1970 و "دراسات في الفكر الإسلامي" الذي صدر عام 1973.
ولقد كانت لأركون دعوة متميزة بين أقرانه في مجال الدراسات الإسلامية وهي الدعوة لما أسماه "الدراسات الإسلامية التطبيفية". وما عناه أركون بذلك هو التعامل مع المادة الإسلامية استنادا على منهج انتقائي ينفتح على مصادر ومناهج مختلفة للمعرفة مثل العلوم الاجتماعية وخاصة علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) والفلسفة واللسانيات. ولأن تدريب أركون الأكاديمي كان تدريبا محوره النص فقد كان من الطبيعي أن تشكّل النصوص المادة الأساسية لدراساته. إلا أن وعيه بالبعد الاجتماعي للنصوص واتساقه المنهجي مع دعوته لإسلاميات تطبيقية حدا به دائما لوضع النصوص في سياقها التاريخي ولتحليلها كتعبير عن الوعي التاريخي الذي أنتجها.
ومثل هذا المنهج في التعامل مع النصوص يصبح بلا شك منهجا مثيرا للجدل عندما يتعلق الأمر بالنص القرآني، وهي محاولة طرقها أركون في كتابه "قراءات في القرآن" الصادر عام 1982. ولذا لم يكن من المستغرب أن تعرّض أركون للهجوم والاتهام بالمروق والهرطقة.
ولقد رأى أركون مشروعه كمشروع لا تقتصر قيمته على مجال الدراسات الإسلامية فحسب. رأى أن المنهج النقدي يجب أن يكون أيضا منهجا قادرا على نقد نفسه وقادرا على إدراك مواطن ضعفه وقصوره. وبذا فإن المنهج النقدي يصبح عملية مستمرة ومنفتحة. وعلاوة على ذلك شدّد على الطبيعة المقارنة لهذا المنهج عندما يتم تطبيقه في مجال الدراسات الإسلامية، بمعنى أنه ليس من الممكن أن ندرس الإسلام خارج إطاره التوحيدي وبمعزل عن اليهودية والمسيحية. كان يرى أن تطبيق مثل هذا المنهج من قبل الدراسين في البلاد الإسلامية سيؤدي لتحرير الدراسات الإسلامية ولتحرير الدارسين أنفسهم وربما يساهم، عبر ذلك، في تحرير المجتمعات الإسلامية.
لم يقتصر نشاط أركون على المجال الأكاديمي وامتد للمجال العام وللقضايا التي تمس المواطنين في المجتمعات المسلمة وتؤثر على حياتهم. ولقد اهتم بشكل خاص بقضية التعليم ورأى جذر انتكاس المجتمعات الإسلامية في أزمة التعليم. فبدلا من أن يصبح التعليم وسيلة لاكتساب المعارف وللتحرر من الخرافة أصبح في أغلب البلاد الإسلامية وسيلة لإشاعة ما وصفه بـ"الجهل المؤسَّس". ولقد تلازم انتشار مثل هذا النوع من التعليم مع صعود الخطاب الإسلامي وهو أمر حدث حتى في البلاد التي لا يحكمها الإسلاميون.
ولد أركون في بلدة تاوريرت في تيزي أوزو بمنطقة القبائل الأمازيغية في الجزائر عام 1928، وبعد إكمال تعليمه الابتدائي انتقل مع أسرته لوهران. وكان انتقاله هذا مصدر صدمة كبيرة حيث أحس على التو بعزلته اللغوية كمتحدث بالأمازيغية وكان لابد له من تعلم العربية والفرنسية. ولقد سعى أبوه لإخراجه من المدرسة ليساهم في مساعدة الأسرة، إلا أن إصراره على إكمال دراسته وتدخل خاله حالا دون ذلك. وبعد إكمال دراسته الجامعية في الجزائر ذهب لإكمال دراساته فوق الجامعية للسوربون التي ما لبث أن انضم لها كاستاذ جامعي في مجال الدراسات الإسلامية.
تقاعد أركون عام 1995 وما لبث أن انتقل للدار البيضاء، مسقط رأس زوجته المغربية ثريا اليعقوبي التي تزوجها بعد طلاقه من زوجته الأولى الفرنسية. ولقد أصبح أركون فى العقود الأخيرة من حياته نشطا في اجتماعات الحوار بين الأديان وصوتا متميزا فيها إذ كان يدعو لقبول مبدأ المساواة بين الأديان.
وفي عام 1996 تم منحه وسام جوقة الشرف الفرنسية، وكانت دعوته عام 2001 لإلقاء سلسلة محاضرات جفورد بجامعة أدنبرة من أكبر مظاهر تشريفه الأكاديمي. إلا أن أركون، وبكل أسف، لم يتلق هذا التشريف في بلده إذ دفن في الدار البيضاء وسط تظاهرة كبيرة ولم تتجرأ السلطات الجزائرية على السماح بدفنه في الجزائر خوفا من رد فعل الإسلاميين.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف