ثقافات

شاعرٌ يرجم الزمن: فيليمير خليبنكوف مثالاً

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

أحمد محمد أمين: قبلاً، قدّم لنا الجنابي شاعراً يجهله أكثرُ القرّاء: فيدنسكي. التقطه بمهارة من غضون الذاكرة المنسية. والآن وضعنا جناً الى جنب مع ثاني المنسيين من مستقبليّ الشعر الروسي خليبنيكوف..تُرى كم شاعراً ورساماً ومسرحيّاً ما زالوا قيدَ النسيان؟ وقبل سنين عرفنا المبدع : د. فاضل الجاف بالمسرحي الروسي الطليعي النابغ " مَيَرهولد " ، مبتكر فيزياء الجسد . والانَ، يُعرّفنا الجنابي ب" فيلمير خليبنيكوف" .الذي تنهمرُ قصائدُه ، بكلّ غرائبيتها، مثلَ الرجوم التي ثقذفُ بها الملائكةُ الجِنة. انّ مقدمته، أو دراسته، عن هذا الشاعر مستوفية ٌ شروطها المعرفية والتعريفية به . فخلال قراءتي هذا السفر الجميل، أحسستُ أني أجتابُ دغلاً شائكاً أتعبني وضيّعني ، ومع ذلك لبّت نداء متعتي وقناعتي.
أمّا شعرُه ففيه الشططُ والعجبُ والدهشة ُ والإبتكارُ واستقدامُ غيرِ المأهول المجهول الى المأهول الشاخص. وربّتما كان شاعرُنا هذا يُشبهُ فيدنسكي في بعض قصائده وضرباته الإيماضية والعلمية ِالطرح ، المشوبة بالغموض. فلا هو بفيلسوف ولا بجغرافي ولا برياضي . بل شاعرٌ يجرّ ما لا قِبَلَ للقصيدة به الى ساحتها. مثل القصة الحداثية التي خلعت الثياب الواقعية شكلاً وموضوعاً .وتوغلت في الحلم والعلم والمُخيلة السديمية . تأخذُ من سخونة كلّ حياة أدواتها التعبيرية . لكنّ الجنابي خلّانا نرى" خليبنيكوف" جوّابَ آفاق طليعيّاً ،حياة ً وشعراً ، يتحلقُ فوق أفضية غرائبية . ليس الشعرُعنده مثلَ الخبز يتناوله المرءُ كلما داهمه الجوع . بلهُ شرارة ٌ تنفجرُ من قيعانِ الذات ، ومتونِ الطفولة ، وشقوق المُخيلة والحلم والذاكرة. ولأنّ الإنسان كائنٌ ذو كينونة حيّة. يأكلُ ويشربُ ويتناسلُ ويجولُ في دروب الحياة ، فما يبدعه ، شئنا أم أبينا، واقعيٌّ وإن لم ينتم ِ الى الواقع، حتى ولو توارى وراء ما يبصره النظر ، غير مكثرث ٍ بما هو معتادٌ ومعيش في آن ٍ . الشاعرُالخلّاقُ غيرُ معنيّ ٍ بما يراه ، لكنْ يلتقطُ عدته ممّا يخلفه المرئيُّ من تبعات ، وما يُخفيه وراء قناعه .وما يُمكنُ تأويله ممّا يتمرأى له من نبضات الحياة ، أو خللَ قراءاته وتجواله عبر المدائن.
شاعرنا صوفيٌّ وعبقريّ ومجنونٌ، حاملُ معولِ الدهشة والذهول يُقشّرُ تجاعيد ثوابتنا المتهتكة والمستهلكة ، يُرينا ما لا نراه بالرؤية المُجرّدة . فلنسمعْ قوله : أمّا أنا ، فلشجاعتي / ساُكرمُ بنصب ٍ غريب / لكنّه لم يُكرّمْ بهذ النصب. بل مات كمداً في عزّ الشباب. وغدا نسياً منسيّاً في جدث منسيّ. لكنّ الذين كانوا وراء زمنه اكتشفوه وصفّوا شعره من الصدأ والغبار والظلمة، فهو القائلُ: أعطتْ روسيا الحرية لآلاف الآلاف / أمّا أنا فخلعتُ ثوبي / كأني به يُشبهُ تلك الحرية بثوب خَلِق ٍ نزعهُ ورماه على الرصيف .من هنا يبدأ مسارُ تمرّده هائماً على وجهه بلا إنضاط أوتوازن .
وأظنّ كلّ الظنّ أنه كرّسَ شعره للسخرية الفاجِعة . المدّثر بلامبالاة سوداء. وإنْ لم يكنْ ساخراً تراجيديّاً فكيف يقولُ : عندما تموتُ الشمسُ تنطفيءُ /عندما يموتُ الناسُ يبدؤون بالغناء/ أمّا قصيدته " السنون" فطرحٌ كوميديّ فنطازيٌ فاجع بحدسيته الحسّاسة تارةً ، وبعدميته الفوضوية العابثة تارة ً اخرى : السنونُ، الشعوبُ ، والاُممُ/ تفرُّ دوماً / فرارَ الماء الحيّ / في المرآةِ التي تبسطها الطبيعة ُ / شباكٌ هو النجم / والصيدُ نحنُ / وفي الظلّ أشباحٌ من الآلهة /.. وكلُّ شاعر ٍ ألمعي خصيب الغورهو، في نظري ، مجنونٌ عاقل، يتغلّبُ بمفهومه الفرداني على مفاهيمنا النمطية ، هو كينونة ٌ قلقة تراوحُ بين مدٍّ وجزر . وأيُّ أبداع هو انفلات ٌ من الصحو المُتبلد الى فضاء الجنون وبؤر الهلوسة ، يمنحنا ما يتمظهرُ له من حياة خارج الاُطر الموضوعية .واذا لم يكن ممسوساً فلن يوسوس مع نفسه :/ أنا متأكّدٌ أنْ لا شخصَ من حولي يفهمني / وانْ لم يكن ذا خيال جامح فلن يقول عنه مايكوفسكي : / إنّ سيرة خليبنيكوف نموذجٌ للشعراء ، ومذمة ٌ لممتهني الشعر...ولا نزالُ نعتبره معلمنا في الشعر. والفارس الأروع والأصدق في معركتنا الشعرية / .وأتساءلُ بأسى : اذا كان شاعرنا بهذا المستوى الأرفع تضاهي قامته الإبداعية قامات أفضل الشعراء، فلمَ اُهملَ ذكرُه، وقُمع شعره، واُزيل اسمه من واجهة زمنه ؟؟ . وهذه المقاطع التي منحنا إياها الجنابي لا يُمثلُ، حصراً، كلّ شعره. تُرى ما الذي ضاع من شعره ، وماذا أتلفوا منه ،أيّاً كان إيقاعه ومغزاه السياسي والفكري ؟ وكلُّ سلطة من أقاصي اليسار واليمين وفي أيّ زمان ومكان هي ضدّ المبدعين ، الا اذا جنّدوا مواهبهم لتكون بوقاً لها . لكنّ الأصيل الأصيل لا ينصاعُ الا لصوت ابداعه : / كنتُ أعطيتُ الشمسَ شعبَ أنايَ ، بمجرّد خلعِ ثوبي / لا أظنّ العالمَ الا تكشيرةً على فم الميّت بالإعدام / أغلبُ الظن إنّه يسخرُ من دنياه، ممن يسيّرون مصائرنا، فالعالمُ سخرية كبيرة يقوده مَنْ لا عقلَ ولا ضمير له .وتبلغ سخريتُه حدّ أهانتنا وشتمنا حين يقولُ: / مُضطجعٌ أنا، رخيُّ البال، وسادتي لا من ريشٍ ولا من حجر..... بل جزمة ُ بحّار ٍ مثقوبة / وحين يمسّهُ مسٌّ ينامُ صحوه الذهني، يهلوسُ بما يُشبهُ الطنين : / طارَ خُنفسٌ من الخضم الأسود، دارَحولَ رأسي، طوى جناحيه وحطّ على شعري / هذا الخنفس الذي اعتلى رأسه ليس سوى ذبذبات جنون مفاجيء ، لا تعرو سوى المجانين . فايّ شاعر قال مثله : / ضرباتُ مطرقة على ضريح البحر... على رُبى الحوريات ....على فوهات الحجر ...على ظهر فيضان جفّ / حتماً أنّ ل"خليبنيكوف" شيطاناً يُلقنه ، بل أذهبُ أبعد من ذلك ، فقد تمرّد على شيطانه وعلينا. فغدا نسيجَاً وحدَه يهتدي بهاجس جنونه الإبداعي . وأوغل أكثر من ذلك في وصف هذياني رائق وتمادى الى الأبعد الأبعد : / خصرُه مُطوّقٌ بسمكة كبيرة...كتلة ُ حوريات داكنة...ضرباتُ مطرقة على رقائق ِ بحر ٍ جاف...محنة ٌ قاسية لونُها لونُ الدم...كان بطنُ الصبي داكناً ، على سرير من رماد ٍ وظلّ....نحنُ كُتّابُ السكين ، علماءُ الخبز الأسود... تجارُ الضحك..مغنو الجوع .... رسّامو السّخام ... أثرياءُ الفجر الفاحشون ... قياصرة ٌ مولعون بالمعدة / أحياناً اُراني اُحسّ أن لا رابط َ بين عبارة واُخرى ..لكن خلينبيكوف يستغرقُ في غربته ووحدته عبر عقلانيته ولا عقلانيتنا ، ليضعنا بين نواجذ هذياناته السكينية التي تحزّ وتقطعُ دهشتنا وغفلتنا / ويلٌ لبحّار أخطأ في قياس المسافة بين مركبه والنجمة ...اؤثر أن أسمع الأزهار تهمسُ : هذا هو، على أن أرى مُسلحاً يقتلُ شخصاً ...لذا لن أكون حاكماً أبداً / ويبلغ جنونُ شاعريتِه الخارجُ عن نطاق تناصه العقلاني حدّاً حين يُباغتنا ب / الذنبُ ذنبُك أيّها الربّ.. إنك خلقتنا فانينَ.. الا أننا بالمُقابل سنُسدّدُ صوبَك سهمنا المُسمّمَ بالحزن... فالقوسُ قوسنا / وحين يرى نفسه يعيشُ في زمن ٍ غير زمنه، كونُه حارث َ أمادٍ لا يصلُ اليها كلّ قلب، يصرخُ : / مَنْ أنتِ يا موسكو ... أتصوغينَ الحرية َ ....أم قيّدوكِ ؟ ... لعلكِ نافذة ٌ تضيءُ أزمنة ً اُخرى .... يا ابنة َ قرن آخرَ...يا برميلَ البارود...كسّري قيودك / وأخيراً نراه يعبّر عن تواضعه وزهده المتواضعين : / لا أحتاجُ الى أشياء كثيرة ... قطعةِ خبز...قطرةِ حليب... نعم.. هذه السماءُ وتلك الغيوم .../
اذاً ، خليبنيكوف وميضُ برق، ضمّخَ ليلنا الضريرَبضوء ٍ خاطف ، واختفى ، جاء من سرّة العدم. فأدّى دَيْنَه..ومضى ،.طاوياً دفاتره، الى عدم . لكنّ ذاكرتنا الجمعية تتذكره ولا تتنكّرُله ، فمَنْ يقرأ أشعاره ينحنِ لقامته الإبداعية ، لجنونه الجميل . نعم ، لقد جازف الجنابي في عمله هذا فما خاب جهدُه ..حسبُه أنه وضعنا وجهاً لوجه أمام شاعرِ طليعي رجم الزمن بحمم قصائده المتمرّدة ....

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف