ثقافات

باريس... بهجة معمارية (2/2)

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

.. طالما نحن نتحدث عن عمارة باريس، من وجة نظر معمارية "خاصة"، علينا، إذاً، زيارة بعض من تلك الشواهد، التى جعلت من باريس مدينة معمارية بامتياز. لنبدأ، إذاً، جولتنا من "شارع سوفلو" Rue Soufflot، الشارع الباريسي، بالحي اللاتيني، هو المسمى باسم أحد المعماريين الفرنسيين: "جاك جيرمان سوفلو" (1713- 1780). يثير لدي، هذا الشارع إهتماما خاصاً. وأجد في واقعة تسميته نوعاً من التكريم النادر للعمارة (للمعماريين، على وجه الخصوص!)، هم الذين "ظلوا" دوماً محرومين ومبعدين عن التقدير والاعتبار، رغم دورهم الحضاري المرموق، وعملهم المشهود له بالابداع والمهنية العالية. فالاشتغال على تحسين البيئة المبنية، مرة، و"خلقها" في مرات آخرى، كان على الدوام يعتبر عملاً تجديديا وبارعاً يتطلب، بالضرورة، توافر مهارات ومعارف عديدة. إذ أن التحري عن قرارات صائبة وسديدة، وملائمة في الوقت ذاته، في رسم "مسارات" الناس، وتنظيم حركتهم في فضاءات مفترضة (تضحى، لاحقاً، واقعا معاشاً)، وابداع مأوى لهم، وخلق أحياز متنوعة لعملهم ولراحتهم، لهو قرار ليس بالهين. بيد ان التساؤل يبقى قائما: كم من "شوارعنا" العربية، يحمل اسم معمار، بجانب فيض من اسماء مدعيي زعامات سياسية، سرعان ما يتبين خواءها وبلاهتها؟. لا اعرف مدينة عربية فيها شارع يحمل اسم معمار. "دلوني"، رجاءاً، ان كنتم تعرفون!... لكن هذه قصة آخرى.

و"جاك جيرمان سوفلو"، هو مصمم مبنى "البانتيون" الذي منه يبدأ الشارع مساره، ليصب في بولفار "سان ميشيل" بالدائرة السادسة. معلوم ان البانتيون Panthe`on، هو مكان دفن عظماء فرنسا، وتعود الكلمة بجذرها الى اللغة الاغريقية، ومعناها: "مكان الالهه". لكن البانتيون، في حالات عديدة، لم يحفظ جثامين رجالات فرنسا بعد مماتهم مباشرة؛ فالكثير من "المدفونيين" به، تم نقل أجسادهم بعد مماتهم بسنين، بل وبعد مضي عقود من السنين! فعلي سبيل المثال، ان "بيار كوري"، عالم الذرة الفرنسي المعروف، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء مع زوجته "ماري كوري" عام 1903، (المتوفي اثر حادثة غريبة وفاجعة، ففي يوم 19 نيسان من سنة 1906، خرج الى شوارع باريس الماطرة، و"انزلق"، امام عربة خيل، ما لبثت ان سحقت راسه بعجلتها، ما ادى الى موته في الحال!)، تم نقل جثمانه وجثمان زوجتة (المتوفية سنة 1936)، الى البانتيون، فقط، سنة 1995! والحال ذاته، ينطبق على "اندريه مالرو" الشخصية المتنورة، ووزير ثقافة فرنسا في عهد ديغول، اذ، تم دفن رفاته في البانتيون سنة 1996، بعد عشرين سنة على وفاته سنة 1976. بيد ان المثير في "حكاية" مدفوني البانتيون، يكمن، ايضاً، في ابعاد رفاتهم منه، بعد دفنهم فيه. كما حدث "لخطيب" الثورة الفرنسية lt;ميرابوgt; (1749- 1791)، الذي يعتبر "اول" من دفن بالبانتيون سنة 1791، لكن جثمانه سرعان ما استخرج، وابعد عنه سنة 1794. اما "حكاية" احد جنرلات الثورة الفرنسية: "اوغسطين - ماري بيكو"، فهي الآخرى تبدو مثيرة ايضاً؛ فقد اختفي جثمانه من البانتيون، بعيد وفاته ودفنه فيه في سنة 1793، ولا احد يعرف لحين الوقت الحاضر مآل تلك "الجثة"!بالطبع، ما يهمنا أكثر، هنا، هي "عمارة" البانتيون. انها احدى "ايقونات" باريس المعمارية، التى أُريد لها (او بالاحرى اراد معمارها)، ان تضاهي بعمارتها كنيسة القديس بطرس في روما، وكنيسة سان بول في لندن. فعندما كلف المعمار "جاك جيرمان سوفلو" الشهير في زمانه، وقتذاك، واحد اساطين طراز "العمارة الكلاسيكية" بتصميمها، كانت النية متجة لتشييد كنيسة، للقديسة "جنفيف"، لايفاء نذر، أوجب على نفسه الملك لويس الخامس عشر، بعد ان تعافى من مرض خطير ألم به. وقد جاءت عمارة الكنيسة اياها مزيجا ما بين الكلاسيكية وطراز "الباروك" الصاعد. ففي حين، يعطي الرواق المعمد "البورتكو"، في واجهة الكنيسة احساسا بالكلاسيكية الرصينة، تبدو "قبة" الكنيسة الضخمة تواقه لعكس التطلعات "الباروكية" الجديدة. ومن اجل تحقيق طموحات المعمار الجريئة، فقد استلزم بناء الكنيسة فترة طويلة من الزمن، بحيث ان سوفلو لم يتسنَ رؤية منجزه التصميمي كاملاً، اذ ان مدة تشييدها، التى بدأت في سنة 1758، استمرت بعد وفاة معمارها بحوالي عشر سنوات، واشرف تلامذته من بعده على عمليات البناء. لكن تغييرا هاما ورديكاليا طرأ على طبيعة الزمن الذي به تم افتتاحها سنة 1789. وهذا التغيير اقترن بنشوب الثورة الفرنسية، واعلانها سقوط الملكية، وتأسيس الجمهورية، ما حدا "بالحكام الجدد" الى "تبديل" غاية المبنى الاصلية، وتغيير هدفه، مقترحين ان تكون مكانا لدفن "الرجال العظماء من عصر الحرية الفرنسية". وقد انجز "ديفيد انجر" مابين 1831 و 1837، منحوتات "قوصرة" اعلى الواجهة Pediment، يسندها شريط لكلمات مقولة، تنص على مايلي: "الى الرجال العظماء، الممتن لهم الوطن" Aux grands Hommes, la Patrie reconnaissant. لكن مع هذا، فقد ظل مبنى البانتيون وفكرته، طوال القرن التاسع عشر رهينة لصراع عنيف بين lt;الكنيسةgt;، وlt;الملكيةgt;، وlt;الجمهوريةgt;. وقد "تحول" على سبيل المثال، مرتين الى كنيسة (في عامي 1823و 1852). وبعد وفاة "فكتور هوغو" ودفنه هناك سنة 1885، سلمّ الجميع، بصورة قاطعة ونهائية، بوجوب ارجاع البانتيون الى "مهامه" الجمهورية. بالمناسبة، المعمار سوفلو مدفون في البانتيون ايضاً. دفن سنة 1829، في حين انه توفى في سنة 1780."يصب" شارع سوفلو، كما اشرنا في بولفار "السان ميشيل"، الذي يحاذي "حدائق اللكسمبورغ". والاخيرة، احدى فضاءات باريس المفتوحة وحدائقها المميزة، هي التى امرت "ماريا مديجي" بتخطيطها عام 1612، حول قصر ملكي، شيد هناك، في الوقت الذي كان ذلك المكان خارج حدود المدينة. و"ماريا مديجي"، ارملة الملك هنري الرابع، اتينا على سيرتها في الجزء الاول المنشور من هذه "الانطباعات". تعتير حدائق اللكسمبورغ "رئة" الحي اللاتيني وما يجاوره، والمكان المفضل لاستراحة واسترخاء طلبة المؤسسات التعليمية العديدة المجاورة. وكان في القرن الثامن عشر، المكان الاثير لتمشي ونزهة المثقفين الفرنسين؛ بضمنهم "جان جاك روسو" والكاتب المتنور "دني ديدرو" وغيرهما من مثقفي باريس. عندما زرت العاصمة الفرنسية ، لاول مرة، وكان ذلك قبل حوالي نصف قرن (سنة 1964)، كنت حريصاً ان ارى اللكسمبورغ، واتمشى في فضاءآته، وأجلس بجنب "نوافيره" الرائعة الفريدة في اشكالها وحجومها. كان ذلك الحرص، يعود لاسباب عديدة (في الاقل لثلاثة اسباب!). اولهما، شغفي لمشاهدة "ريو سوفلو" lt;شارعيgt; المفضل، الذي قرأت عنه الكثير، وقتذاك، وأنا طالب عمارة، وكذلك مبنى البانتيون المجاور، ورؤيتهما بتأنٍ وابتهاج، وأنا مسترخي، جالساً، في حدائق اللكمسبورغ. والامر الثاني، يتعلق بتعقبي "مسارات" ارنست همنغواي، الكاتب الامريكي المعروف، الذي كنت من المعجبين به جداً، وبكل ما يتعلق به. ففي ذلك الوقت، (في سنة 1964)، صدر له كتاباً بعد وفاته التراجيدية (انتحر في سنة 1961)، بعنوان lt;عيد متنقلgt; Moveable Feast A (نقله، بنفس العنوان، الى العربية عطا عبد الوهاب سنة 1985). هذا الكتاب ترجمه الروس، وقتذاك، بعنوان آخر: "العيد، الذي دوما معك"؛ وقرأته بالروسية، حالما صدر هناك، في وقت كان مثقفو الاتحاد السوفياتي، حينها، مهوسون بهمنغواي، وبهوس، لا يقل عنه ..بباريس! وبالطبع انتقل ذلك "البلاء" lt;اللذيذgt; كله اليّ. كان فحوى الكتاب حياة ارنست الشاب في باريس بالعشرينات مع زوجته الاولى" اليزابيث هادلي". وثمة اشارات كثيرة في ذلك الكتاب "التوثيقي"، عن حدائق اللكسمبورغ، وكيف كان همنغواي، يتصيد الفرص، "لقنص" حمام الحديقة، ليطعم به زوجته وابنه الوليد حديثا. كان يقوم بفعلته تلك، عند سانحة، ظل يحفظ توقيتها، وتصادف "إختفاء" الشرطي الموكل له بمراعاة النظام، مرتاداً مقهى مجاور لاحتساء قدح من النبيذ! كان همنغواي يفعل ذلك، لانه، وكما كتب، لا يملك كثير مال، وعاش في تلك الفترة جائعا وفقيراً. كان يتحدث عن "الجوع" بمفهوم آخر، ويشير اليه، احياناً، بكونه حافزاً للعبقرية والابداع! وكانت تلك الكلمات، تنزل "ماءاً بارداً" على قلبي، انا الذي، عانيت كثيرا "منه" (من الجوع!)، واجداً فيها، تبريرا وتسويغاً لوضعي، كطالب معوز وجائع دائما! ولهذا فقد كانت بهجة لا تضاهي، وأنا اتنقل في اللكسمبورغ، مابين تلك الامكنة، التى ذكرها الكاتب الاثير لدي، في كتابه الممتع. اما الباعث الثالث لزيارتي للكسمبورغ، فساتحدث عنها لاحقا، عندما يأتي الحديث عن عمارة "مسجد باريس" القريب من الحدائق نسبياً.في باريس، ثمة شارع لمعمار آخر، اسمه شارع "اوغست بيريه". انه في الدائرة الثالثة عشر. سوف لا نذهب اليه، لكننا بالتأكيد سنزور احدى اهم "روائع" هذا المعمار المجّد، هي التى اعتبر تصميمها وتنفيذها، حدثا مؤثراً في مسار عمارة الحداثة، بحيث باتت واقعتها تذكر كمادة اساسية، واجبة الحضور في منظومة التعليم المعماري لدى غالبية المدارس المعمارية العالمية. نحن نتحدث، بالطبع، عن مبنى "شقق شارع فرنكلين"، الذي يصادف هذا العام، مرور 110 سنة على تصميمه (1903). لكني، قبل ان احدثكم عنه، أود ان اتكلم عن "بيريه"، او بالاحرى عن "الاخوة" بيريه. وهم مجموعة من المعماريين، ابناء عامل حجر، اشتغل لاحقا كمقاول بناء هام. واوغست بيريه، الابن الاكبر لهذه العائلة، سيضحى اهم معماري فرنسا، وربما العالم، هو المولود في مدينة "أكسل" في بلجيكا سنة 1874، درس العمارة في البوزار بباريس، لكنه لم يكمل تعليمه فيه، مفضلاً الالتحاق بمكتب والده. لكنه سيعود، في فترة قادمة، الى المدرسة الباريسية الشهيرة كاحد اساتذتها المهمين في قسم العمارة. صمم عدة مبان هامة في فرنسا، بضمنها مسرح "الشانزاليزيه" (1913)، وكنيسة نوتردام في "لو رينسي، (1923)، وطبعا "دارة الفنان جورج براك" الباريسية (1927). كما عمل في الكثير من البلدان العربية، خصوصا في مصر والجزائر والمغرب، وصمم عدة ابنية مختلفة الوظائف هناك. فصمم مخازن وارصف ميناء الدار البيضاء بالمغرب (1915)، وفندق "قصر أغيون" بالاسكندرية بمصر (1927، تعرض الى محاولة هدم في سنة 2009)، ودارة "الياس عواد بك" في القاهرة (1926-28). صمم "برج بيريه" (1942- 1951) في مدينة "اميان" Amiens، في الشمال الفرنسي. وهو عبارة عن ناطحة سحاب بارتفاع 27 طابقا، وبعلو "قياسي" وقتذاك قدر بـ 104م، وكان لفترة طويلة يعد اعلي مبنى في غرب اوربا كلها! كانت غالبية تلك المباني، ان لم تكن جميعها، مشغوله بمادة الخرسانة المسلحة، المادة الانشائية الجديدة، المفضلة لديه، هو الذي اسس مع شقيقيه المعماريين: "غوستاف" و"كلود" مكتبا استشاريا سنة 1905، مركزا فيه على هذه المادة الجديدة، وتبيان مزاياها المعمارية والانشائية. وقدعمل "لو كوبوزيه" في ذلك المكتب عدة اشهر مابين عامي 1908 و 1909. ومعلوم ان المعمار الحداثي العالمي، هو الآخر انجز معظم تصاميمه، موظفا مادة الخرسانة المسلحة فيها، معترفا باحدى كتاباته بانه تعلم، في المكتب اياه، معنى "الخرسانة " معمارياً. اشتغل بيريه لسنوات طويلة على تخطيط واعادة بناء "لو هافر" المرفأ الفرنسي في النورماندي (شمال غرب فرنسا)، الذي دمر اثناء الحرب العالمية الثانية. حظى بيريه على شهرة كبيرة في الاوساط الثقافية والاجتماعية الفرنسية والاوربية، ودائما كان يعده النقاد بمنزلة لو كربوزيه. توفي سنة 1954. لكن سرعان ما طواه ...النسيان. وعندما نشر احد المختصين كتابا عنه وعن نتاجه المعماري سنة 1985، تذكرت فرنسا ابنها البار، وأُعيد "اكتشاف" بيريه مرة آخرى. وقيمّ مجددا نتاجه التصميمي عاليا، ونشرت عدة كتب عنه وعن أعماله، كما نُظم معرض استعادي، بعنوان " بيريه: شاعرية الخرسانه المسلحة"، جاب معظم مدن البلاد، مذكرا باهمية هذا المعمار المبدع. وقد اطلقت بلدية باريس، سنة 1971، اسمه على احد شوارع المدينة. كما ادخلت "اليونسكو" سنة 2005، اعماله في "هافر"، ضمن لائحة التراث العالمي الواجبة الحفاظ. واوغست بيريه، هو ايضاً، "استاذ" وملهم احد المعماريين العرب المهميين والشخصية الاجتماعية المتنورة: "إنطوان تابت" (1905-1963)، اثناء دراسته العمارة في البوزار بالثلاثينات، ومعروف ان انطوان ثابت مصمم فندق أوريان بالاس (قصر الشرق)، الشهير في العاصمة السورية، في اواخر الثلاثينات، عمارته التى يمكن بها ملاحظة تأثيرات اطروحة "بيريه الخرسانية" كما يمكن رؤية تلك التأثيرات، أيضاً، عند فندق آخر، صممه تابت في بيروت، وهو فندق " السان جورج"، وكذلك في احد اعمال المعمار الاخيرة، وهو مبنى وزارة العدلية ببيروت.احس بابتهاج كبير، وأنا الاقي في زيارتي الاخيرة لباريس "مبنى شارع فرنكلين". أقف امامه، هو الذي وصلنا اليه، انا ومن يرافقاني، بعد جهد كبير، وقطع مسافات غير قليلة. كان المبنى معروفاً لديّ من زيارتي السابقة الباريسية، كما انه هيئته مألوفة ايضاً، جراء مطالعاتي الكثيرة عنه، وتدريس طلبتي لعمارته سنوات عديدة. ها هو، إذاً، أمامي، مختلف عن سياق البيئة المبنية المحيطة، وفخوراً بما يملك من واجهة معبرة، تميزه عن مجاوراته. اراه، بالاضافة الى ذلك، "ينشر" حداثته، التى "اشمها" عابقة في المكان! عندما دلفنا سريعا، عبر المدخل الى فضاء الطابق الارضي، المخصص لعرض تجاري، راودتني شكوكا، ماذا لو ان المبنى العتيد، الذي بذلنا الكثير لمشاهدته، ليس هو المقصود: ليس هو مبنى بيريه، وإنما مبنى آخر. قد تكون عمارته متأثرة باسلوب المصمم المعروف. لكن السيدة الفرنسية الجالسة وراء منضدة العمل، بددت سريعا تلك الشكوك، مؤكدة، بعد سؤالنا عن اسم المبنى ومعماره، بانه ذاته: مبنى "اوغست بيريه"، واشارت الى كتب ونشرات خاصة بعمارة المبنى وتاريخه موجودة على احد الرفوف. الآن، يمكنني إستحضار قراءات مسبقة عديدة، وانا أتأمل عمارته، العمارة التى عدت من قبل كثر "بشيراً" للحداثة، ونموذجاً سابقاً لها؛ هي التى وجد فيها ناقد العمارة الحداثة العالمي "سيغفريد غيديون" S. Giedion" lt;المثال الاول للمخطط المرن أو "الحر"gt;. وهي ملاحظة، اراها جد هامة ، اذا اخذنا في نظر الاعتبار بان لو كوربوزيه، سيجعل، لاحقا، من مفردة "المخطط الحر"، احدى اشتراطات التعريف بعمارة الحداثة.في مبنى "فرنكلين"، يسعى "بيريه" وراء ايجاد حل كفء لمعضلة معمارية كبرى، اشرت اليها في كتابي lt;مائة عام من عمارة الحداثة، دمشق 2009gt;، وهي ".. ترابط التركيب الإنشائي مع lt;الفورمgt; المعماري، تلك المعضلة التى تصدت لها المدرسة الفرنسية بنجاح. وجعلت من تقصياتها المتنوعة مساراً مؤثراً في طروحاتها التصميمية. ولهذا فان نشاط (اوغست بيريه)، يمكن إعتباره جزءً من فعالية تصميمية كانت قد افصحت عنها بجلاء كتابات "فيوليه لو ديوك" من ان..التقنية الإنشائية المتجلية شاعرياً، يمكن ان تتحول بسهولة الى ..عمارة!". ويُعد مفهوم هذا التعبير والمختزل في آن، مفتاحاً لادراك عمارة بيريه وتقصياته المهنية". ومرة أخرى، يتعين التذكير، بان إسلوب وكيفية استخدام الخرسانة المسلحة، في مبنى فرنكلين، هما جزء من نشاط مهني واسع، تمثل في مقاربة معمارية ساطعة، بزغت، و.."غربت"، سريعا عن المشهد، مثيرة، في حينها كثيراً من الضجيج، ومنتجة بالمناسبة، نماذج تصميمية مبهرة ولافته و..جديدة، هي التى دعيت بتيار "الار نوفو"، والذي كان بيريه احد انصاره، بل وعدّ من مؤسيسيه الاوائل. ثمة منظومة فضائية موحدة، يتسم بها مخطط شقق "مبنى فرنكلين". وهذه المنظومة أبانت عن نفسها، من خلال توزيع احياز الشقة الواحدة. فغرفة النوم الرئيسية، وفضاء المعيشة، والحيز المخصص للطعام؛ كلها فضاءات مترابطة ومفتوحة الواحدة على الآخرى، يمكن "عزلها" بواسطة قواطع متحركة. وبهذا يغدو "الصالون" المفردة الفضائية الاثيرة لدى الفرنسيين، ليس فقط فضاءاً مطلاً على الخارج، وإنما هو، أيضاً، جزءً من "الداخل" المرئي ومنظومته الفضائية المنسابة. وما نراه في الخارج، هو انعكاس لما هو متحقق داخلياً. ثمة غرفتان جانبيتان بارزتان عن سطح واجهة المبنى "المقعرة"، مخصصتان احداهما لغرفة التدخين بجانب حيز الطعام، والآخرى مخصصة للملابس، وهي تتمة لفضاء النوم. وهناك شرفتان، تحيطان بالصالون، يضيفان مساحة تكميلية الى فضاءات الشقق، يستثمرهما المعمار في إثراء معالجة مفردات واجهة المبنى. ومع معرفة بيريه المهنية والعميقة، بخصائص الخرسانة، (وربما بسبب ذلك)، فقد طلب من صديقه الفنان "الكسندر جيكو"، ان ينجز قطعاً خزفية، يمكن بها إكساء سطوح الواجهة، ليس بدافع التزيين (والتى باتت، رغم ذلك، احدى مواضيع المبنى الزخرفية)، وإنما احترازاً منه لاحتمال تأثيرات البيئة السلبية على مادته الانشائية المفضلة. وتظل بالطبع، زيارة مبنى "شقق فرنكلين" وبهجة التعرف عليه، من الاحداث الممتعة، التى يمكن بها التعرف على لحظة نادرة ومهمة، من اللحظات "التاريخية"، التى قلبت مسار العمارة رأسا على عقب. فهي، من دون شك، "لحظة" ارهاصات التغيير، المبشرة بمرحلة معمارية آخرى، ستقود العمارة العالمية برمتها، لاحقاً، نحو آفاق إبداعية غير مسبوقة، هي آفاق "العمارة الجديدة" New Architecture، نماذجها التصميمية الرائعة، سنشاهدها في الفضاء الباريسي الغني والمتنوع. لكن ذلك، ... حكاية آخرى، سنعاود الكتابة عنها في "اجزاء" قادمة من هذه "الانطباعات".د. خالد السلطانيمدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف