ثقافات

باريس... بهجة معمارية

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

" الجزء الاول"يخرج أكثر زوار باريس، بانطباعات شخصية مكتوبة، إنطباعات تتحدث عما "رآه" الزائر، وعن إكتشافاته البصرية في فضاء تلك المدينة الساحرة. انه تقليد، دأب عليه زوار العاصمة الفرنسية المتنوعين: أدباء، وفلاسفة، وشعراء، وفنانون ومصلحون، ..وبالطبع معماريون! لا يهم من اي بلد، ذلك الزائر "الرائي"، فباريس "تفتن" جميع زوراها، حتى ولو كانوا من بلدان متنوعة، حتى ولو كانوا بثقافات مختلفة. هكذا كان الأمر في الماضي. وهكذا الحال، الآن. وسيستمر، من دون شك، زوارها المستقبليون، كتابة انطباعاتهم ايضاً عنها.عندما وصل "رفاعة الطهطاوي" (1801-1873)، باريس، عام 1826، على متن بارجة حربية فرنسية، "لاترويت"، بمعية طلاب مصريين مبعوثيين، بامر محمد علي، خرج عن تلك الرحلة التى باتت "تاريخية"، بانطباعات جد مهمة، وشيقة سجلها في كتابه "َتخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فيِ تَلْخِيصِ بَارِيز" (1831). وقد سار على منواله، في كتابة انطباعاته ومشاهداته كاتب آخر، لكنه مع الاسف لم ينل من الاهتمام قدراً كافياً، هو الشخصية المتنورة "أحمد فارس الشدياق" (1804-1887)، الذي، هو الآخر سجل انطباعاته عن المدن العديدة، التى مرّ بها ، بضمنها باريس. والتى وثقها في كتابه المهم "الساق على الساق في ماهو الفارياق" (1855)، والكلمة الاخيرة، كما معلوم، هي مزج مختصر بين كلمتين" lt;فارسgt; وlt;الشدياقgt;. ثم سجل انطباعاته ايضا عن المدن الاوربية التى زارها، في كتابه الآخر، الذي لا يقل أهمية في هذا المنحى وهو: "كشف المخبأ في فنون اوربه". وفي كلا الكتابين، يسرد الشدياق، بلغته المميزة المفعمة بـالنفس "الحداثي"، انطباعاته عن باريس ولندن، مشيراً بالمناسبة، الى معرض لندن الدولي (1851)، وجناح انكلترة فيه، كريستال بالاس" (القصر البلوري)، الذي اعتبر ظهوره مبتدأ العمارة الحديثة، والتاريخ الرسمي "لتأسيسها". (وأظن بان الشدياق، أول عربي، التفت الى أهمية هذا الجناح معمارياً، قبل ان يحذو حذوه المعمار المتنور المعاصر "رفعة الجادرجي" (1926)، ويشير، مرة آخرى، الى "كريستال بالاس"، في كتابه "الإخيضر والقصر البلوري"، الذي لا يقل امتاعا، وتشويقاً، عن سلفه). في جميع الكتب، التى سجل مؤلفوها انطباعاتهم عن باريس، تحضر عمارة باريس، وفضآءاتها المميزة- كحاضرة عالمية كبرى، وكمدينة مستقبلية. فهي مدينة "الأنوار" بمعناها الفلسفي/ الرمزي، والمباشر .. ايضاً. لكن حضور تلك العمارة، كان دائما مقترناً، بثقافة الرائي واهتماماته. بمعنى آخر، كل من شاهد وكتب عن الفضاء المعماري الباريسي، عبرّ عن تفسيره "هو"، وعن تأويله "الخاص" للمشهد المرئي. فثمة عمارة باريسية: محددة، مبنية و"ثابتة"، لكن هناك رؤى وشروحات كثيرة "متغيرة" لتلك العمارة، وطريقة رؤيتها، تتوالد من تباين المستوى الثقافي للرائي ونوعية اهتماماته. في هذا الصدد، اتذكر مقولة لبنانية، اراها جد ذكية، وجد صائبة، تشرح ما نود ان نتبناه، فحواها: "اذا تحدث بطرس عن بولص، فهو ينبئنا عن بطرس، اكثر بكثير من ان ينبئنا عن بولص!"زرت باريس مرات، وفي كل مرة، اقف مندهشاً ومفتوناً امام ما آرى من عمارة وعمران. هل يمكن ان يكون باعث ذلك، قراءآتي الكثيرة عن عمارة باريس وبيئتها المبنية؟، هل بسبب سنوات التعلم في روسيا، عندما كان المثقفون الروس، على اختلاف مرجعياتهم الثقافية والاسلوبية، يظهرون "هوسهم" بباريس، وبـ "هواء" باريس، وبفضاء باريس، في كتابات وافلام سينمائية ومعارض تشكيلية، وحتى في "اعمال درامية"؟ ام بباعث محاضرات الاساتذة السوفيت الشيقة، حينها، الذين كرسوا كثير خبرتهم، وحبهم، وولعهم، لتلك المدينة الساحرة، وعمارتها المميزة والتى مابرحت اتذكر مضامينها جيدا؟ ام ان ذلك، جراء سنوات التدريس الكثيرة، التى بها كنت "اتحدث" مع طلابي السابقين، عن قيمة تلك العمارة المتجددة، وفضاءاتها الفاتنة؟ قد يكون كل ذلك مجتمعاً، هو الذي يجعلني "مسحورا" بعمارتها وفضاءاتها. لكن ليس، من ثمة "اختراعات" متوقعة لعمارة باريس في هذا المقال. انها ذاتها، التى تعرفونها، والتى شاهدتموها، وربما مراراً. الجديد فيها، كما آمل، ستكون اقوال "بطرس" المتحدث عن "باريسيته"، لكنها في الحقيقة، وكما تنبئنا المقولة اللبنانية المجنحة، سيكون ذلك، ايضاً، انعكاس لحبي وولعي و"ولهي" بالعمارة الباريسية ونماذجها المبنية.تمثل عمائر باريس وفضاءآتها، كتاباً مفتوحاً لتاريخ العمارة العالمية وطرزها الاسلوبية. قد تكون مدن أخرى، تمتلك مثل هذه الخاصية، لكن باريس، تتمتع، في هذه الناحية، بفرادتها؛ ذلك لان "عيناتها" المبنية، هي في الغالب الاعم، من خيرة نماذج تلك الطرز، إن لم تكن "مؤسسه" لها! لا انوي، بالطبع، ان اتحدث عن جميع امثلة تلك الاساليب والمقاربات، لكني، سأشير الى بعضٍ منها، هي التى "رأيتها" بعين خاصة، واتوق لان اتحدث معكم عنها. لنبدأ من "نوتردام": الكاتدرائية الغوطية الشهيرة. انها جليلة، بل ومهيبة ايضاً. وتبدو من موقعها وكأنها "تنبت" من "السين" نهر باريس "الازلي" عند جزيرة "السيتيه"، Cite` نواة باريس الحضرية ومركزها التاريخي. وعلى غرار تقاليد، باتت شائعة، فان الكاتدرائية الباربسية أُنشئت على انقاض كنيسة سابقة، هي التى يعود موقعها الى معبد "جوبيتر" الروماني. انها، الآن، المكان الاثير لمعظم زوار العاصمة الفرنسية. ويقال ان زوراها الذين يصل عددهم الى 14 مليون شخص، يجعل منها، المكان الاكثر زيارة في عموم اوربا. ادور من حولها، لاستمتع برؤية عمارتها "الغوطية" الفخمة. وهي وإن كانت غوطية، لكنها ليست كذلك بالمعنى المهني المباشر. فعندما أُنشئت في سنة 1163، كان الطراز البنائي السائد هو "الرومانسك". وبما ان الكاتدرائيات الغوطية يسلتزم بنائها سنين عديدة، بل عشرات من السنين، (انتهى بناء نوتردام عام 1345)، فان الطراز المعماري، يكون قد تغير واستبدل في طراز آخر. ولهذا فان "نوتردام" بالحقيقة، رومانسكية في بعض "تفاصيلها" وغوطية بالبعض الآخر.لا اخفي "حبي" وولعي بالطراز الغوطي. اراه طرازا مميزا، وفريداً، وحتى "ثورياً" ضمن تمثلات الطرز المعمارية الآخرى، ولهذا فانه استثنائي ايضاً. وإستثنائيته جلية، إن كان لناحية عمليات التشييد واسلوبها، ام كان لجهة "المعانى" المترعه بها فكرته التصميمية، المعبرة عنها بتنطيق لا نظير له، هو الذي، اضاف الكثير الى المعجم المعماري، وبالتالي الى المعرفة الانسانية ككل. ساد هذا الطراز عموم النشاط البنائي في غرب ووسط اوربا آواخر العصور الوسطى. (يحدد مؤرخو العمارة بدء العمارة الغوطية ونهاياتها مابين 1050 ولغاية 1530،حيث استبدل، لاحقاً، بطراز "الرينصانص" lt;عصرالنهضةgt;، بعد أن كان قد حلّ هو ، سابقاً، محل طراز الرومانسك). يدهشني حضور "الانشاء" في العمارة الغوطية. إنه يحضر، هنا، كقيمة تكوينية مؤثرة، وجدّ أساسية. وارى "الانشاء" شخصيا، بخلاف كثر، هو الذي يمنح العمارة حضورها وبهائها. بيد ان الانشاء الغوطي، لا يضارع! واتجرأ القول، بان جماليات العمارة الغوطية، تنبع من إنشائها، وليس من اساليب التزيين، التى ستضحى هي المهيمنة في حقب وطرز معمارية لاحقة. في "نوتردام" تضحى "عمرنة" الانشاء (إن شئتم) اساس الحل التكويني، تأثيراته التى "تُرى" بوضوح، سواء من الداخل..أو من الخارج! ثمة تنطيق يسعى "معمار" المبنى، أن يكون متمثلاً و"مماثلاً" للوجد الديني، العامر به المكان. لا يتعين ان ننسى، بان اسطوات وبناة الكاتدرائية و"معمارييها"، كان يوجهون البناء نحو الشكل الافتراضي والمتخيل، العابق بفكرة اساسية، مفادها السعي وراء تمثيل "النشوة الروحية" معمارياً، تلك النشوة الطاغية على اذهان وقلوب سكنة المدن، التى تدفعهم، ابتغاءً، "للثواب" العمل والمساهمة في تشييد كنيستهم. (وبالمناسبة، فان بناء الكاتدرائيات الغوطية، كان دائما عملا تشاركياً وجمعياً، يقوم به جميع سكنة المدينة التى تشيّد فيها تلك الكاتدرائية، وهي لهذا كانت دوما محط إعتزاز سكان المدن وفخرهم وتباهيهم الشخصي بين الحواضر الآخرى).أجلس في رواق "نوتردام" الوسطي الرئيس. تغمرني لذة عميقة، تشي باني في حضرة منجز معماري جذل. من فوقي، تتشابك اضلاع الاقواس المدببة الحجرية. ومن الجانبين، يتوالى فيض من الخفة، المتأتية من "تهشيم" مادية القوام الانشائي وتفتيته الى أقسام عديدة. ونزعة التهشيم، والتقسيم هذة، تطال الكل، بضمنها العناصر الانشائية الحاملة. وبهذا يغدو الحيز الداخلي الرحيب ملِئ بـ "الفراغ"، لكنه فراغ، ينزع هواءه المحصور، الارتقاء في حركة مستمرة، نحو الاعلى، "مستصحباً" معه اجزاء العناصر الحاملة "المفتتة"، تاركاً من بعده، القوام الانشائي للمبنى خاويا وهشاً؛ يزيده هشاشة فتحات النوافذ الواسعة "المطرزة" بالالوان! واذا، أخذنا في نظر الاعتبار، اصوات موسيقى الـ "اوراتوريو" Oratorio الشجية، التى تعزف عادة، في فضاء الكنيسة، فان الاحساس بالخفة المهيمنة على مادية عناصر المنظومة الانشائية، سيكون وقعها شديدا ومؤثرا في المكان. وكل ذلك، يُراد به تأكيد الفكرة التصميمية للعمارة الغوطية، الفكرة، المفعمة بحضور الاحساس بالصعود، والتائقة لتمثيل "المعراج"، وتكثيف الشعور بالسمو، والارتقاء!يعالج "المعمار" الغوطي واجهاته من الخارج، باسلوب ينأى به بعيداً، عن فكرة تناول تلك الواجهات، بكونها "سطوح" مستوية، كما درج عليه معماريو بعض الطرز المعمارية الآخرى. في "نوتردام" يبدو ذلك جلياً ومؤثراً. ومرة آخرى، يحضر الانشاء، هنا، كمسوغ مقبول لتأكيد تلك المعالجة وإظهارها البين. فثمة توق شديد للتعاطي مع "كتلة" المبنى، وكأنها كتلة غير صلدة، بل وإعتبارها كتلة "واهنة"، جراء الحفر فيها، ومحاولة تفريغها، بعمل ثقوب وفجوات عديدة فيها، بحيث يضحى من الصعب بمكان، على المتلقي التفريق بين الحامل والمحمول. فعن طريق ما يسمى "الاكتاف"، او المساند التى تبنى بجنب الحوائط، لتفريغ الحمل الناتج عن ثقل التسقيف وتوجيهه نحو الارض؛ (هي التى طورها البناة الغوطيون سريعا، لتغدو، لاحقا، بمثابة "المساند الطائرة"Flying Buttresses )، ومن خلالها، من خلال تلك الاكتاف الطليقة، ذات الاشكال نصف القوسية، يتم انتقال اوزان حمولة السقف، بعيدا عن "مصادره"، ليصار الى تحميله لعناصر مبنية آخرى، مهمتها، تفريغ تلك الاوزان وتوجيهها نحو الاسفل. وكل هذا يجرى بتشوش بصري مقصود، عبر سلسلة "اضلاع" حرة، تشاهد "طائرة" تحوم حول "جسم" الكاتدرائية، تمتع الناظر، باشكالها الطليقة في الفراغ، وتشوش عليه، في العين ذاته، أدائها الوظيفي.بالطبع، باريس ليست مجرد ابنية مشيدة، فثمة ميادين وبولفارات وحدائق وانصاب عديدة ومهمة، في فضائها العمراني المميز، جديرة ان تزار، ربما آتينا على ذكرها لاحقا. لكن بجانب ذلك، ثمة "جسور" باريسية رائعة. احدها هو "الجسر الجديد" lt;بون نيوفgt;،Pont Neuf اقدم جسور باريس ..واجملها، (والتقييم الاخير لي)، رغم ان صديقتي الباريسية "ليلاس" التى تصحبنا في جولتنا لا تقر بذلك! وتراه عاديا، او هكذا تقول ربما "لإغاظتي"، والتقليل من حدة شغفي و"ولعي" به. اراه، فعلا، فاتناً وانيقاً، هو الذي شيد في سنة 1578 ليكون "اول" جسر مخصص، فقط، لعبور النهر. قبله، كانت جسور باريس الاربعة، غاصة بالدكاكين والحوانيت التجارية؛ بحيث كان من المتعذر رؤية "السين"، أو التمتع بمنظره. والآن، بفضل الجسر الذي افتتح إبان حكم الملك هنري الرابع في 1604، والذي يقدر طوله بـ 232 مترا وعرضه بـ 22 مترا، بمقدور المرء ان يستمتع برؤية النهر الباريسي من دون عائق. انه يصل بين كورنيش اللوفر في الدائرة الاولى، مع شارع اوغسطين الكبير في الجهة اليسرى من النهر. وفي وسطه تقريبا، يجتاز الجسر الطرف الاخير (الغربي) من جزيرة "الستيه". وتكوّن قناطره العديدة، نصف الدائرية، (يصل عددها الى قنطرة)، مع انعكاساتها في ماء النهر، دوائر كاملة، كانت مشاهدتها، دوما، متعة للباريسيين وزوار مدينتهم، مثلما كانت مدار اهتمام الفنانين الذين واكبوا على رسمها، مسجلين هذا المنظر المميز في لوحات عديدة. لكن "كلود مونيه" الانطباعي، عندما رسم "بون نيوف" سنة 1871، اختار زاوية اخرى، هي مبتدأ الجسر، وسار على منواله رينوار سنة 1872، وكذلك كاميل بيسارو (1902). والغريب ان الاخيرين رسما "بون نيوف" من تلك الزاوية التى رسم منها، قبلهما مونيه! في سنة 1985، تمت "تغطية الجسر الجديد، بالكامل، وفق فكرة ابداعية اعدها الفنان "كريستو" وزوجته "جان كلود". وقد اخذ تنفيذ تلك الفكرة، وقتا طويلا (حوالي عشر سنوات). وكان ذلك، بسبب تأخر الحصول على موافقة رئيس بلدية باريس لتحقيق تلك الفكرة الجريئة، والذي كان في حينها "جاك شيراك".ثمة تمثال لفارس عند مقتربات الجسر، يعود الى هنري الرابع. انه تمثال عادي من الناحية الفنية، لكن "تاريخه" غير عادي. ففي سنة 1614، امرت الملكة "ماريا دي مديجي"، باقامة تمثال الى زوجها القتيل سنة 1610، على الجسر الباريسي الشهير. وكان ذلك التمثال، اول نصب ضخم يقام في موقع عام، ومكرس الى ملك. (وباتت، لاحقاً، تلك الواقعة مثالا يحتذي بها في عموم اوربا). وظل التمثال قائما لحين نشوب الثورة الفرنسية، عندما ارتؤي في سنة 1792، "تحطيم" التمثال الى اجزاء ، ورميه في السين!. لكن الملك لويس الثامن عشر (وهو اخ لويس السادس عشر، وعم لويس السابع عشر)، اصدر مرسوما سنة 1814، بصب تمثال جديد يماثل تماما ذلك المحطم والمرمي في النهر، واعادته الى نفس المكان عند "بون نيوف". وما نراه الان، عند الجسر، هو التمثال "الثاني"، وليس الحقيقي، الذي يحفظ متحف "كرنفال" بباريس، الان، بعض اجزاءه الاصلية.مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف