تجمع الفنون المسرحية التمثيل والرقص الحديث مع الباليه والاوبرا
الأفق... تفتتح موسم المسرح الملكي الدنماركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لأول مرة يجازف المسرح الملكي الدنماركي بإنتاج عمل مسرحي كبير يجمع الفنون المسرحية المختلفة في عمل واحد، العمل الذي حمل عنوانا "الأفق" افتتح الموسم المسرحي للمسرح الملكي، وهو من إخراج ورؤية فنية: كاثرين بوهير، ومخرج الرقص: توماس ايزنهارت، والنص العلمي: سليم العبدلي، والنص المسرحي: سليم العبدلي، كاثرين بوهير والمشاركون، والموسيقى: ينس بونكيه، والديكور: ريكه يول لوند.
&يعالج "الأفق" مكان الإنسان من الكون وعلاقة الإنسان المعاصر مع الطبيعة، وقد وضع أربعة قوانين طبيعية إطارا لفصوله الأربع: الانفجار العظيم (أو البگ بانگ)، نظرية الشواش (أو ما تعرف بنظرية الفوضى أو الهرجلة)، المورثات الطبيعية الـ (د.ن.ا)، وأخيرا نظرية الكم، حيث يشكل كل قانون طبيعي مدخلا للفصل ليعكس ابتعاد الانسان في حياته عن الطبيعة، وفي نفص الوقت ليعكس كيف يمكن لنا ان نفسر الظروف الحياتية بالاستناد الى العلوم الطبيعية ايضا. أما السبب في ذلك فيعود إلى أننا، نحن البشر، لم نكتشف حقيقة أمرنا إلا مؤخرا، حقيقة أن الانسان ليس إلا جزء صغير من الطبيعة، ولكنه استخدم عقله آملا ان يسخر الطبيعة لخدمة بقائه. غير أن الواقع الحياتي والعلم كشفا استحالة الأمر وفرضا على المجتمعات الاكثر تقدما أن تتوقف عن المضي في تسخير الطبيعة الى رغباتها، والا لكان مصيرها ومصير العالم الهلاك.
بوعي مسبق لم يتطرق العمل المسرحي "الأفق" إلى أي من النصائح العلمية أو المواعظ اللاهوتية، وإنما جعل هذه القوانين الطبيعية منبع الهام للعمل ذاته، بما في ذلك الحوار والأداء والموسيقى. فمنذ البدء، اتفقت المخرجة كاثرين بوهير مع الباحث العلمي والشاعر سليم العبدلي على أن تكتب هذه القوانين باسهاب وبلغة مبسطة وغير علمية، لكي يتمكن المشاركون في العمل فهمها واستيعاب الميكانزم الذي يحكم الكون. وبعد أن تعمقت مع الكاتب في الامر، وتوصلت نفسها إلى فهم هذه القوانين وإلى أطروحة الكاتب بأن العالم، بما فيه من حيوات، مرتبط بعضه مع البعض بشكل لا يمكن انكاره أو التغاضي عنه، استطاعت المخرجة أن تبتدع كواليسا جديدا للعمل، وفيه استخدمت "أرشيف" المسرح الملكي لتربط الماضي مع الحاضر، ومنه اختارت ستائرا لمسرحيات أوبرالية معروفة تمثل جزءا من تاريخ المسرح الملكي الدنماركي، لتجعلها تتداعى خلال العرض الواحدة تلو الأخرى، وكأنها كنوزا نفقدها، وذلك نذير الهلاك.
أما العمل على هذه المسرحية فقد كشف الشاعر سليم العبدلي أنه دام لمدة ثلاث سنوات، وقال "في السنة الأخيرة، حددت أربع ورش عمل، وفيها اجتمع كل المشاركين "(20 فنانا و 4 أطفال" في العمل، بعد أن قرأوا النصوص العلمية والشعرية التي كتبتها، إضافة إلى تلك النصوص التي اختارتها المخرجة من الأدب العالمي، لكي تكون نواة استلهام للمشاركين".
وأوضح العبدلي "ابتدأت الورشة الأولى بلقاء منفصل لكل فريق، أي الراقصون ثم الممثلون ثم المطربون، وهكذا. وخلال هذه الورشة تم شرح ما كتب وصمم للعرض، وقد أعطيت الفرصة لكل المشاركين لكي يعكسوا إلهامهم في مواقف وحكايات قصيرة أو في عبارات محددة أو ذكريات طفولة أو حركات رقص أو أغنيات.. الخ. وبعد الانتهاء من الورشة الاولى، وأثناء العمل على جمع ما هو مناسب لـ "الافق"، اتضح أن التجارب الشخصية، والتي هي انعكاس لاستلهام المشاركين من النص الأول، يمكن لها أن تشكل عمود الحوار المسرحي. ولذا، فقد طلبت المخرجة من المشاركين أن يكتبوا حكاياتهم ويبعثوها لكي تتم صياغتها شعريا من قبلي بما يلائم العمل. وقد تم ذلك بالفعل، وكانت نصوص المشاركين مزيجا من العبارات والذكريات التي يحملونها معهم والتي تمثل مواقف حياتية يومية".
ويشير العبدلي "على سبيل المثال. تذكرت إحدى الممثلات الحادثة التالية:
-& مرة قلت لشخص إنني احبك، فأجاب: هذا لطف منك!!
وقد كانت هذه العبارة نواة لعبارات أخرى يجد المرء فيها نفسه والخيبة تملأ كيانه. كذلك إن المرء وأثناء انغماسه في مشاغله اليومية وعلى غفلة يجد نفسه وقد جمع الكثير من الأشياء المادية، ويبدأ بعدها: لدي بيت. لدي تليفزيون، لدي سيارة، لدي هاتف نقال.. إلخ من الأشياء التي يمكن للبعض أن يملكها ولا يمكن لآخرين، وهنا حتى ينتهي بـ "والآن لدي صداع...". وتبعا لنفس الطريقة، وجد الراقصون مع الكيوغراف :مخرج الرقص" والمطربون مع ملحن العمل انفسهم يعبرون عن النصوص بفنهم وابداعاتهم. وقد استمرت الورشة الأولى لمدة ثلاثة أسابيع، أسبوع لكل فريق.
وأضاف "أثناء الورشة الثانية التقى المشاركون جميعا في أعمال هذه الورشة لأول مرة، وبدأ إنتاج العمل فعليا بمشاركة الجميع، غير أن الفضاء بقي مفتوحا لكل المشاركين لكي يغيروا ويختاروا ما يناسبهم ويؤدوا ما استلهمهم. وهنا كانت الأدوار غير موزعة، حيث سمح للراقص أن يمثل والممثل أن يغني والمطرب أن يرقص، أو ما يجده كل مشارك مناسبا له وما يسمح به المخرجون. وقد استمرت هذه الورشة لمدة ثلاث أسابيع أيضا، خلالها تبلور العمل بشكل أفضل وأصبحت المخرجة أكثر ثقة بما سيؤول إليه عملها".
وقال العبدلي "بعد كل ورشة كان العمل يتبلور من خلال جمع البروفات وتهيأتها لاستيعاب الأفكار التي ستطرح خلال العرض، وقبل حلول موعد الورشة القادمة يستلم المشاركون ورقة عمل جديدة تضاف إلى سابقتها لكي تشكل إطار عمل الورشة القادمة.. وهكذا حتى بدأت البروفات الفعلية قبل ستة أسابيع من موعد العرض. وحتى هنا لم يكن محددا تماما إلا الديكور والخطوات التي ستملأ ساعتي العرض. وبعد انتهاء التمارين والحفظ ظهر العمل متكاملا وكأنه لوحة فنية راقصة، تتخللها المونولوجات القصيرة والحوارات المعدودة".
تبدأ المسرحية قبل دخول الجمهور إلى قاعة المسرح، أي عندما يدخل المشاهد إلى القاعة، يرى الفنانين على المسرح يؤدون أدوارهم في الرقص واللعب مع الأطفال، وكأنهم قد بدأوا قبل البداية. وهنا يلزم المشاهد بقبول البداية عندما يكون مستعدا للمشاهدة، أو أن البداية ليست بالأهمية، حيث أن الكون لا يعرف له أية بداية لحد الآن. وبعد أن يؤخذ الجميع أماكنهم في المسرح، تبدأ الموسيقى بإيعاز يتجمع فيه الفنانون ليكونوا وحدة متراصة من الكيان البشري، كتلة متحدة لا تسمح بإفلات أي من الفنانين منها، حتى يتعالى صوت الموسيقى وتنتهي بما يشبه الانفجار، فتتشتت الكتلة ويتوزع الفنانون على أنحاء المسرح الكبير. ويستمر هذا الهياج لدقائق، بعدها يصطف الفنانون في خط واحد في عمق المسرح، وجميعهم يقفون بمواجهة الجمهور. هنا تتغير الموسيقى ويبدأ الفنانون بالمشي البطئ باتجاه الجمهور تتبعهم الستارة الخلفية للمسرح وبنفس البطء وكأنها "تكنسهم" من المسرح، وهذا المشهد يستمر لأكثر من عشرين دقيقة، يتخللها التعرف على الشخصيات من خلال فعالياتهم المحدودة ومنولوجاتهم القصيرة جدا، والتي لا تتعدى جملا تعبر عن ضجر أحدهم أو شكوى الآخر أو هوس آخر وهكذا، وكأن كل منهم يستعرض حياته أثناء مضيه على خط مستقيم يمثل مضي الوقت، أو عمر الانسان الذي يبتدئ في عمق المسرح.
والجميل في المشهد هذا أن الفنانين لا يتقدمون بنفس السرعة، ولكن سرعان ما تجد اختلافهم في قطع المسافة، حتى وصول الأول إلى حافة المسرح، ولكنه يستمر في المضي ليسقط من خشبة المسرح ويتلاشى عن الأنظار، ليتبعه فنان آخر، وهكذا حتى يتم "كنس" آخر فنان بوصول الستارة إلى حافة المسرح. وهنا يبدأ لحن موسيقى جديد معلنا نهاية العصر الذي شهدناه منذ جلوس المشاهدين في مقاعدهم. وعلى غفلة تسقط ستارة المسرح من علو ثلاثين متر لتكشف عن ستارة أخرى وراءها. وخلال لحظات قصيرة يتأمل فيها المشاهد المشهد الجديد، ينهار هذا الستار أيضا ليكشف عن ستار آخر، وهكذا يتكرر ظهور ستار جديد وانهياره سبع مرات، وكل ذلك يحدث بمصاحبة موسيقى أعدت خصيصا للمشهد. وبذا ينتهي الفصل الاول دون الاعلان عنه، بل ببداية الفصل الثاني، وفيه يتألق أحد الفنانين بأغنية اوبرالية بينما تظهر خشبة المسرح من الاسفل، حيث أنزلت أثناء انهيار الستائر في نهاية الفصل الأول.
تظهر حشبة المسرح هنا وعليها جميع الفنانون، بينما تنزل من سقف المسرح ستائر جديدة تملأ المسرح وتحوله الى غابة كثيفة. وهنا تلعب الإنارة والصوت دورا رئيسا في شد المشاهد إلى هذه الغابة حتى يبدأ الفنانون بالبحث عن طريق للخروج من هذه الغابة. وتتمثل عملية البحث في لعبة "الغميظة"، حيث نجد كل من فنان يعرف قوانين اللعبة بشكل مختلف:
لا تستطيع أن تجدني لأنني أقف وراءك!
لا يمكن لك أن تزعم وجودي، فأنا قررت أن لا أكون موجودا!
إنني أختبئ تحت قميصي، فكيف لك التعرف عليّ؟
أنا لست بإنسان، وإنما شجرة!
وهنا تعترض إحدى الممثلات على هذه الفوضى، ويجيبها ممثل آخر بأن الحياة والطبيعة نفسها تخصع لقانون العبث، والذي يحتم عدم قدرة الانسان على معرفة المسقبل رغم أنه يحيط علما بالبداية، فإن النهاية تحكمها شروطا تختلف عن تلك التي تحكم البداية، ويبسطها بمثال:
"الحياة كالقمع الكبير، والأحداث ككرات ككرة الطاولة، فإن رمينا بالكرة الأولى فإنها ستلف وتلف ويتسارع التفافها حتى تسقط أخيرا في أنبوبة القمع. ولكننا لو رمينا بكرة ثانية على نفس نقطة البداية للكرة الأولى، نجد أن الكرة الثانية ستلف وتدور ويتسارع دورانها بطريقة مختلفة عن الأولى".&&&
وهكذا تستمر اللعبة حتى تستوقفهم إحدى الفنانات، لتقص عليهم كيف أنها أعلنت رغبتها بأن تكون مطربة ولم يتجاوز عمرها السادسة. ويطلب هنا منها الآخرون أن تغني لهم، وتبدأ بالغناء، ولكنها تستمر بالغناء حتى بعد أن يطلبوا منها التوقف عن الغناء، فيبدأون بالجري وراءها، وكأنهم ذلك المجتمع الذي يحاول أن يفرض شكلا موحدا او وحددا للفن!".
ينتهي الفصل الثاني بنزول الستارة المعدنية "أو ستارة الأمان، المستخدمة في حالة اندلاع حريق في المسرح"، بينما يقف جميع الفنانون على حافة المسرح وأياديهم تغطي أعينهم وكأنهم لا يرغبون برؤية ما جرى لهم. غير أن المشهد يأخذ منحى ثان بالحديث عن أولى اللوحات التي وجدها المنقبون على جدران الكهوف قبل ملايين السنين، وكذلك الرسوم يومها، وكيف أن الإنسان الأول رسم الحيوان والإنسان في شكل واحد، وكأنه كان على دراية بأن الانسان والحيوان مرتبط في هذه الطبيعة، وكيف أن العلم الحديث توصل إلى أن كل الحيوات تجتمع في تركيبتها الاساسية، فهي مكونة من أربع ذرات لا أكثر، ألا وهي الكربون، الانتروجين، الأوكسجين والهيدروجين، وفي النهاية نجد ان كل الحيوات تنتهي الى ذرة واحدة، الكربون. ويتساءل آخر، أليس الماس مكونا من الكربون فقط؟ أي هل أن مصير الانسان في النهاية هو الماس؟..
وهنا ينقسم الفنانون إلى فريقين يتوزعون على جانبي خشبة المسرح. فريق يضم كل النساء ورجل واحد وفريق يضم كل الرجال وامرأة واحدة. وتحت عزف لمقطوعة رومانسية تقع عين الرجل في طرف المسرح على امرأة في الطرف المعاكس، فيبدأ الفريقان برقصة شاعرية، يقترب فيها الرجل والمرأة إلى بعضهما، حتى يلتقيان في وسط المسرح. وفي التقائهما يبدأ مطربان بالغناء ليعبرا عن أهمية العاطفة ولقاء الأحبة في حياتنا.
عند انتهاء المشهد العاطفي يبدأ راقصو الباليه وراقصو الفنون الحرة بأداء رقصة تجمع الفن الكلاسيكي "الباليه" والفن الحديث، ليعلن التقاء الماضي بالحاضر، وعدم رفض الماضي للتطور الذي يصاحب الحياة. وفي النهاية يتوزع الفنانون وكأنهم مرتبطين ببعضهم ليلتقطوا صورا لهذه العائلة العالمية، وفي كل موقف يغير الفنانون أماكنهم وبعض ألبستهم ليشيروا إلى أننا وفي أثناء حياتنا نتلبس العديد من الأدوار، ولكننا وفي النهاية ننتمي إلى هذه العائلة الإنسانية، والتي في نهاية الامر تنتمي هي إلى هذه الطبيعة.
وعند النهاية تضاء الأنوار في عمق المسرح في صف أفقي يتجمع أمامه كل الفنانين، وكأنهم وصلوا إلى الأفق، وهنا تنفتح جدران المسرح الجانبية والجدار الخلفي، يدعو المشاهد إلى رؤية كل الكواليس والعاملين وراء المسرح، ليتأكد المشاهد من أنه رجع إلى الواقع ولم يعد هناك أي فصل بين الخيال "العمل المسرحي" والواقع.
وقد نالت المسرحية إعجاب جمهور المشاهدي، حيث كانت المقاعد محجوزة طوال فترة العرض المخصصة لها، وكذلك نالت إعجاب النقاد المسرحيين، الذين أعربوا عن ذلك في مقالاتهم في اليوم الثاني من الافتتاح.
مسرحية الافق
الاخراج والرؤية الفنية: كاثرين بوهير
كيوغراف: توماس ايزنهارت
النص العلمي: سليم العبدلي
النص المسرحي: سليم العبدلي، كاثرين بوهير والمشاركون
الموسيقى: ينس بونكيه
الديكور: ريكه يول لوند