مريم مشتاوي: الرجل الأبيض
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&(بيروت ١٩٨٢)
"ترن.. ترن" صوت الهاتف يباغت الأستاذ الياس وهو يحاول تجميع أفكاره فيقفز عن الكرسي كمَن أصابته شظية...
-ألو مين؟
-الياس بسرعة يا الياس طلاع من الشركة وروح بسرعة ع البيت لازم تهرب الليلة من بيروت.. وصلتنا إخبارية إنو اسمك على اللائحة السوداء..
خرج الأستاذ من مكتبه بهدوء شديد وبخطى ثابتة& وصعد إلى& سيارته وشغل كاسيت فيروز وبدأت يقود سيارته وهو يغني.
الياس الأبيض رجل أربعيني صلب البنية قوي يسمونه في الحي "الأستاذ أبو عضالات"..& وهو مهندس إلكتروني مدير عام لشركة "ثري أم" في الشرق الأوسط ومدير مدرسة شويفات.. لا يبدو رومانسياً ولكن جارتي أخبرتني بأنه شاعر وله العديد من الدواوين الشعرية وكاتب "فذ" له مقالات أسبوعية في مجلة المنبر الأدبية. كنت حين أراه تصيبني ما تسمى ب "طاسة الرعبة" أرتعش من رأسي حتى أخمص قدميّ.. كانت تدور حوله شائعات كثيرة في الحي كنت أسمع أبو روبير يقول : يا جيران لازم نوقف هالعميل.. هيدا عم يدعم الفلسطنيين في المخيمات... لازم نوقف يد واحدة ونطرده من الحي.
ولكن الأستاذ الياس رغم التهديدات الكثيرة لم يرف له جفن.. و كأن النهايات لا تعني له الكثير. في تلك الليلة عاد إلى بيته بعنفوان فارس شجاع قد واجه الموت وانتصر عليه.
&
في بوسطن سنة 2015
سافرت إلى بوسطن لزيارة أختي بعد طلاقها من رجل عربي غني سافر بها إلى القارة الأميركية وأذاقها الأمرّين من خيانة وتعذيب.. وفيما أتنقل في متجر صغير لشراء بعض المعلبات لفتني صوت رجل عجوز يضع على رأسه قبعة غريبة.. كان صوته يبدو أليفاً رغم البحة المتواطئة مع الزمن..& يمسك بيده عكازاً يغزّها في الأرض وكأنه يريد اثبات وجوده وفرض شخصيته الصلبة.. اقتربت منه وقلت لَهُ : أستاذ الياس أنا جميل ابن أبو أنطون جاركم بالحازمية...
اقترب مني وعانقني بحرارة.. وصمم أن يدعوني إلى بيته المتواضع لنشرب معاً قهوة عربية..
حين جلسنا قلت له هل يمكنني أن أسألك سؤالاً واحدا؟
قال لي : اتفضل يا ابني..
-عمو الياس لمَ تركت أهلك وبلدك وهاجرت بعيداً؟
نظر إلي نظرة ثاقبة وكأنه يحاول اكتشاف مدى قدرتي على كتمان سره وقال:
سأخبرك ولكن عدني أنك لن تخبر أحداً بلقائنا..
قلت ودون تردد: طبعاً يا عمي..
اسمع يا بني في ليلة من ليالي بيروت الحالكة أتيت إلى بيتي متأخراً صليت كثيراً ونمت.. في تلك الليلة حلمت بأني أرتفع عن سريري وأصعد نحو السماء.. شعرت بجسدي يعلو إلى أن سمعت صوتاً عذباً يقول لي :
الياس يا الياس ارحل.. اترك كل شيء وارحل... إن بقيت في بيروت ستموت عشرات المرات.
وصحوت لأشعر بجسدي يخبط بقوة على السرير..
كانت رؤيا غريبة ولم أستطع الحراك بعدها من السرير لعدة ساعات... وكأني بتلك الخبطة أغلقت نعش وطن..