ثقافات

عبرة المزروعي في: "لا سماء هناك" والكتابة دلاليا خارج الأمكنة

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
&&اللا هناك ليست هجرة من ال " هنا" تماما. اللا هناك ضوء تأويلي باحث عن مكان أو أفق، في مطلق التحديد المكاني للأشياء أو للذات أو للكلمات وإشاراتها. وحين تتسمى هذه الإشارة للبعيد بشكل منفي فإنها تحيل إلى عكس دلالاتها. " لا هناك" تصبح هنا بمعنى أو بآخر، وبحزمة تأويلية يمكن أن تشع على مختلف ال" هنا" سواء الكامن فينا أو في الأشياء.& تسمي الشاعرة عبرة المزروعي عملها الشعري ب:" لا سماء هناك" التسمية مكانية في المحل الأول، لكنه مكان بعيد ناء قصي، وإذا كان المكان هكذا فإنه عرضة للتخيل كما هو عرضة للتأويل.& إن السماء بالتأكيد ليست هنا، لكن الشعر يقترب منها، بحضورها أو نفيها، بإثباتها أو بتغييبها. ثمة سماء ما. لكنها سماء متجردة عن بعيدها لتقترب هنا في كثافة الكلمات.& الشاعرة تراود مكانا بعيدا وتسميه عبر هذه الذهنية الثقافية الحاضرة عن دالة" سماء" العلو، والتسامي والقداسة، والمطر، والخصب الأسطوري، فضلا عن الضوء والإشراق والسطوع والرسالة. بيد أن هذا كله يتلاشى إلى الوراء بفعل النفي فلا سماء هناك؟ فأين تكون السماء إذن. ولنلحظ أنها سماء بلا أداة تعريف، قصد العموم والشمول، وهذا يصرفها إلى أن تحل في أي شيء تصطفيه الشاعرة سماء لها.&في مستهل الديوان تضيء لنا الشاعرة غواية هذه السماء في نص يحمل الديوان عنوانه:" لا سماء هناك" / ص.ص 5-6 :ككلمة :" حب" قليلٌ أنت وكثيرحلمٌ سماويٌّ لا سقف لهبخطوط خضراء ويقينكانتعاش الحياةأكادُ ألمسك بيديلذلك " أحبك" هي " السماء"أنظر إليها !جميلة، زرقاء وعاليةنتكلم عنها بثقةلكنأنظر مرة أخرىلا سماء هناك !التعبير الموارب: لا سماء هناك، كما قلت: يؤكد وينفي ويثبت في الوقت نفسه. حين يتعلق الأمر بوعي الذات للحب، ولاستدعاء الآخر، حين تنقب الذات عن نفسها قد تغير المرئي وتنفيه، هي السماء بعيدة نائية لكن بطرف آخر لن تبين وستتلاشى، تختفي عن المكان كما تختفي أشواق الذات. هل هو الحب الذي يساور الذات يخايلها ثم يختفي؟هل هو بريق القصيدة الذي يومض بانفعالاته ثم ما إن يتحقق كتابة أو شفاهة يختفي ويغيب؟هي سماء الوعي على اليقين هو الذي يقولها ويخلقها، ثم يخفيها ويمحوها. ولذا فقد ربطت الشاعرة في نصها السماء بالحلم والحب، وهما قد يحضران معا وقد يختفيان معا. مع أنها في إهداء الديوان تقول:" إلى السماء التي لم تعد هناك .. وحدها الغيوم تبقى" كانت هناك سماء ثم اختفت. هكذا هي رؤية الذات لواقعها الداخلي والخارجي معا.&على أن التفسير المباشر من لدن الشاعرة لا يكفي وحده للقول إن كلمة:" أحبك" هي السماء، وهي الكلمة المفتقدة التي غابت وتلاشت ولما يبق منها سوى الغيوم، فلابد من أن تتسع دائرة التأويل أكثر لتذهب باحثة عن الفقدان والخسارة والذكرى وضياع أفق الحب في مشهد الواقع.&
أجواء الذات:هل يتسنى للقارئ في ديوان:"& لا سماء هناك" أن يعثر على الأجواء التي تشكل الذات الشاعرة؟ وأن يتحاور معها ويصغي إلى مكامنها الداخلية؟إن الكلمات والتعبيرات قد تقود إلى ذلك، ومن هنا سنكون أكثر إصغاء وأكثر تأملا في نصوص الديوان بحثا عن هذه الأجواء أو على الأقل الإشارة إلى أبرزها.&يتشكل ديوان:" لا سماء هناك"& من : ( 68 ) نصًّا ، من النصوص المكثفة القصيرة التي تصبو إلى اختزال رؤية شعرية ما ، وترويض أجوائها سعيًا لتقديم دلالة شعرية مركزة قد تتفتق عن مشهد أو صورة أو قد تتنزل في موقف أو حدث أو واقعة، أو قد تجوس هناك في عمق الوعي بحثا عما تجيش به الذات الشاعرة وتتشجّنُ به وتتطلع إليه .& متعددة هي الأجواء التي تعبر عنها الشاعرة عبرة المزروعي في ديوانها، فهي لا تكثف ذاتها عبر الكلمات وحدها، ولا تلج إلى وعيها باعثة وناشرة طيوف أشواقها إنما تداعب أشياء الواقع وتجلياته، الأماكن، الأزمنة، مدارج الذكرى، فيما تعبر عن العلاقة مع الآخر عبر تخييل دائم يرى إلى الآخر كأنه منجم وجداني تألف إليه الذات وتستدعيه.&هنا يمكن أن نتوقف قليلا مع بعض النماذج من هذه الأجواء الشعرية ونستهل بالعلاقة مع الآخر الوجداني ، الذي يتجلى في جملة من النصوص .تقول في :" أنتظرك" :كنتُ أنتظرك&وأمشّطُ رموش الثواني الطويلةكنتُ أغسل عيون الصبح بالندىهكذا كنتُ أستعجل صحوته المقدسةوأنتظرككنت ألوّحُ بيدي وقلبي للقمرلينقل لك الصورة بالألوان المائيةكنتُ أعدّ الأغنام والدببة والفيلةحتى ينامُ الليلويستريح على كتف انتظاركأشعلُ بلوني الشمسحتى احترقت كل المدائنوأتت تسعى كل الأيامكل الفصولكل القرونوالتهمت تاريخي وذاكرتي&وما أتيت أنت ! ( ص.ص 144-145 )&مع كل هذا التمهيد للحضور، وصناعة جملة من التعبيرات التي تكمن فيها صور الانتظار والارتقاب عير وضع عبارات تصور ذلك مدرجة في سياق فعل الكينونة الماضي :" كنت" ممتزجة بالأفعال المضارعة التي تبين قيمة حضور زمني الماضي والحاضر معا يقفان لاستشراف القادم. " كنت أغسل عيون الصباح بالندى/ كنت ألوح بيدي وقلبي للقمر" لكن القادم لا يأتي في نهاية النص وفي نهاية التزمين الخاص بالقصيدة . ثمة إحساس بالفقد إذن ، كعادة الرؤية النسوية في قصيدة النثر، حيث يشكل الفقد إحساسا عارما بالغياب، وبصدمة الآتي، فيما يتعلق بالآخر الذي أسميه ب:" الآخر الوجداني" وهي صدمة تتلقفها الكثير من القصائد النسوية معبرة عن إحدى القيم السلبية بعالم اليوم.& ومن الأجواء التي تركز عليها الشاعرة التعبير عن الوجع ومرارة الغياب والفقد، كما في نص:" مرارة" حيث توجه الخطاب لآخر مسبب للحنين وللوجع، وللغياب، هذا الآخر الذي لا تني صورته تشكل قسمات الوجع، وتغري بالمكابدة الدائمة. وكما في نص :" افتقاد" وفيه تبوح الشاعرة مباشرة بهذا الفقد:افتقادُك يعلم الشراسةويقضم قلبي بشهية مفتوحة / ص 20&الافتقاد تبرزه الشاعرة لأنه يفضي إلى ابتعاد نبض الآخر الذي من المفترض أن يشكل فضاء للاحتواء، وفضاء للتلاقي معا. هنا تشعر الذات الأنثوية باغترابها وغربتها، وتشعر بشراهة التوحش والوحدة القاسية، حيث لا صوت ولا حوار ولا تفاعل. الحاجة للآخر ليست مجرد حالة اشتهاء، ولكنها حاجة لحياة أخرى.& على أن هذا الافتقاد الذي يبرر الوجع، يكتمل بألم آخر هو الغياب، وهو الوداع كما في :قصيدة:" ربطة عنقك" . ومن مطلق الألم، ومن شراسة الذات في رد فعلها يتحول الآخر إلى :" ميت" :لا تبتسم ..احترم حزني على موتكوأني منذ قليل واريتك الترابلا تبتئسكما يليق بالميتأكرمتُك ! / ص 32&وتوسيعا لدائرة الألم، لا تترك الشاعرة دلالاتها الطليقة تبحث عن جمالية ما تتجاوز بها هذا الأفق، وهذه الأجواء، وإذا انتشت بجمال ما تحلق من حوله دلالات الفقد، لذا نصطدم في نصوصها بتعبيرات مثل: تحتضن بذرة الشقاء المرة؟/ الرياح تترنم بالوحدة/ تتأرجح أنت بين الموت والسراب/ ليل يموت على كتفه التعب/ طرقات خيبات جديدة.إن الفراغ والعتمة والسقوط، والحزن، والغربة والندم،& دلالات متكثرة في ديوان:" لا سماء هناك" ويمكن أن نقتطف نموذجا نصيّا قصيرًا يكثف هذه الدلالات بعنوان:" حزن واحد" :أنا وأنت وجهان لحزن واحدفي مكان الألم نفسهومع ذلك فإن العالم لا يرانا معًافي نفس الوقتيلتقطنا ويضعنا في جيبهومع ذلك لا نلتقييقذفنا ليعرف حظهونسقط بحزن واحد . / ص 40&تنسحب إذن حالة الفقد إلى الحزن، كأن اللا هناك دالة مكانية تفيض على دلالات كثيرة بالديوان، دالة لا تجوهر الذات في مكنة اليقين والارتياح، ولكنها تفيض عليها من الحزن والألم.&
الذاكرة والتشخيص:&في نصها :" ذاكرة الكلمات " تقول الشاعرة:قلبي الذي كنت ذاكرتهذاكرة الكلمات كانت :" أحبك"" أفتقدك" حزن مغتربعلى غيمة وحيدةنسيها المطرذات وجع . / ص 50&الشاعرة تشكل بعض نصوصها من دلالتين أثيرتين عندها: الذاكرة والتشخيص، فثمة مشاهد كثيرة تتحدث أو تشير إلى الذاكرة، وثمة رؤية زمنية خلفية لاستعادة ما ثوى من تجارب وتأملها، مع اليقين ببقاء النص في زمنيته الراهنة أو لحظته الحاضرة.& هل هذا التشكيل مرده ابتكار أمكنة جديدة ولو عبر الوعي الزمني؟ وهل التشخيص الذي يركض في الفضاء الاستعاري يشكل نوعا من جذب الدلالة إلى حسيتها وتجسدها بديلا عن الآخر المفتقد؟&وهل هذا كله يقودها إلى استجلاء أفق له حيويته وله رؤاه التي تسطر وعي الذات الشاعرة، كما نجدها هنا وهي تبحث عن الحلم، وتبحث عن وردتها الوجدانية المتفردة:&قبل أن تكتب لي قصيدةلا تضع كل الورودفي مزهريةهناك قبور وحيدةوهناك سلالٌ للبيعوهناك وسادةتنتظر أن تختبئتحت حلمها وردة / ص 54&إن الأشياء تتداعى وتشخّصُ صورها في ديوان عبرة المزروعي،& من الثوب إلى ربطة العنق ، كما تتشخص الكائنات شعريا لتلقي بأصواتها في طرف مغاير ضدي كحياة أخرى من الألم، كالحيوانات والحشرات في نص:" إيمان" ص.ص 30-31&وتلوذ الشاعرة بجملة من التقنيات من بينها : التكرار الذي قد يضفي بعدًا من الإيقاع الدلالي في النص كما في :" لست وحدك" ( ص.ص 123-125 ) حيث يتكرر الفعل المضارع:" أحبُّ" خمس عشرة مرة متتالية، في نص قصير، مضفيًا معنى جديدا على النص كأنه يزود النص ببعد حدثي سردي متجدد.&&إلى جانب ذلك تنُصصُ الشاعرة بعض الكلمات المتذكرة وتجعلُ منها دلالة قائمة بذاتها، أو تشخّصها كذلك، ربما من الأشياء النادرة في الكتابة الشعرية أن يتم تشخيص العبارات، والكلمات، ربما كان هذا سائدا في الموروث الشعري العربي الصوفي على الأخص، لكنه عمل نادر في قصيدة النثر اليوم.&ومثل عبارة:" سنبقى أبدًا" التي تنصصها الشاعرة وتشخصها:" سنبقى أبدًا" مازالت ذكرى شوكة مغروزة في أفكارناتضحك ألما إن تركناهاوتغني ندما إن حاولنا نزعهاوتنزف اسمينا وتحترقتحترق .. / ص.ص 76-77&& ديوان لا سماء هناك ينقب في الوعي عن أمكنته، وفي المخيلة عن أزمنته، ويشرع القول الشعري ليستقصي أكثر ، يحدث ذاكرته ويسترجعها، ويشخص الأشياء ويعيد استيفاءها في سياقات تجعل من الحنين بديلا عن الفقد ومن الإيناس إلى أمكنة متخيلة نوعا من الخروج عن المادي والمحسوس، ومن القصيدة بديلا عن الألم والارتقاب تحفيزا لمراودة فضاء أرحب وأكثر اتساعا ودلالة ومعنى.& &

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
بهذا بالقبر
مهدي -

حلوه!! احترم حزني...الىكما يليق بالميت اكرمتك "بالقبر "