"إيلاف" تقرأ لكم في أحدث الإصدارات العالمية
عصر الغضب: حين تراجع الليبرالية نفسها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تنتعش روح الفوضى في سائر أنحاء العالم تدفعها رغبة لا هدف لها في تحطيم النظام الليبرالي مع أمل ضئيل في أن ينبثق عالم أفضل من أنقاض هذا النظام.
إيلاف: يبدو أن هذه الروح حركت الكثير من ناخبي ترمب، الذين لم يكن لديهم اعتراض على حديث رئيسهم بعموميات تهريجية بلا خبرة في العمل السياسي، ولن يتورع عن دفع الولايات المتحدة إلى مواجهة نووية.
خيبة أمل
واعترف كثير من هؤلاء الناخبين، بلا حياء، بأنهم أرادوا زرع شخصيته المتهورة في مركز السلطة، ليصدموا النظام، لأن النظام يستحق أن يُصدم. هذه المشاعر كانت وراء بريكسيت، الذي تجاهل مؤيدوه التحذيرات من عواقبه المالية الوخيمة، وهي التي وضعت الشعبويين قاب قوسين أو أدنى من السلطة في أنحاء أوروبا.
وبحسب بانكاج ميشرا في كتابه الجديد Age of Anger, A History of the Present "عصر الغضب ـ تاريخ للحاضر" فإن رغبة في الانتقام الأعمى مطابقة تقريبًا لهذا الموقف العدمي، كانت تقود مراهقين فقدوا بوصلتهم إلى أحضان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
وهو يسمي ذلك "مزاجًا أوسع وأكثر دينونية مما شهدناه في السابق". ويُلاحظ أن لدى ميشرا فهمًا متطورًا للقوى النفسية والعاطفية التي تحرك انتشار العداء لليبرالية في أنحاء العالم بتيار يوحده إحساس بخيبة الأمل والحيرة والحسد ـ الوضع الروحي الذي شخصه نيتشة على أنه غضب، يفسره ميشرا ويشارك فيه نيتشة.
استعادة الصدمات
يقدم ميشرا الكتاب على أنه "تاريخ للحاضر"، ومنطلقه أن مناطق واسعة من العالم تستعيد الماضي وتعيش مجددًا الصدمات والتخلعات الدموية التي رافقت انتقال أوروبا إلى الحداثة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وكان أشد المتأثرين بهذه الصدمات شباب المستقبل الواعد في البلدان التي وصلت متأخرة إلى الرأسمالية والتنوير، وخاصة ألمانيا وروسيا. ويرى ميشرا أن الغرب الذي يتباهى بصوابيته يعتم على طريقه الذي كان مفروشًا بالعنف والوحشية إلى الحداثة السياسية والاقتصادية، في وقت يدفع بقية العالم بغطرسة إلى المرور بالتجربة المريرة نفسها نحو التقدم.
بطل الضد في عمل ميشرا هو جان جاك روسو، فيما يصور الكاتب فولتير على أنه مفكر نخبوي نموذجي احتفى بالعقل بوصفه أعلى فضائل المجتمع، أي إنه كان يعتقد أن المجتمع يجب أن يكافئ الموهبة والعقل، وليس الألقاب الموروثة.
وكان فولتير يروّج للتجارة والنزعة الاستهلاكية بلغة توقع فيها قوى العولمة التي ظهرت إبان التسعينات. وحددت كتاباته وحياته الشخصية مفردات الليبرالية التي سادت الغرب لاحقًا. هذا كله يجعل فولتير، بنظر ميشرا، منافقًا تاريخيًا، ويتهمه ببناء مجتمع خدم مصالح مفكرين مثله على حساب جميع الآخرين.
الأب الروحي لدافوس
إذ كان فولتير يدعو إلى التسامح، لكنه أقام علاقات صداقة مع متسلطين، وخاصة القيصرة كاترين الكبرى في روسيا، وكان يجد الأعذار لانتهاكاتهم. وبفضل علاقاته عاش حياة مرفهة وحقق ثروة صغيرة من المضاربة المالية والساعات التي كان يصنعها.
يُصوَّر فولتير على أنه الأب الروحي لمنتدى دافوس وتوماس فريدمان وجميع أقطاب الليبرالية الجديدة. ويقول ميشرا عنه إنه "عضو مأجور في النخبة المشبوكة عالميًا".
من جهة أخرى كان روسو يفهم أمراض الحضارة الرأسمالية الصاعدة التي دافع عنها فولتير. وحذر روسو من أن مجتمع السوق سيحرر الأفراد من كل الكوابح الأخلاقية بشكل خطير.
ورأى روسو كيف يتسابق البشر للتفوق على بعضهم البعض في الثروة والمكانة، الأمر الذي يعني أنهم كانوا قادرين على ممارسة قسوة هائلة. وتسبب العالم الحديث في إضعاف الدين والعائلة، بوصفهما صمامات الأمان التي توفر السلوى.
نحو الشوفينية
وفي غياب هذه الدعائم أصبح الأفراد يعتمدون على آراء آخرين لتكوين فكرة عن قيمتهم الذاتية، وأدى هذا إلى حالات رهيبة من انعدام الأمن والحسد وكره الذات. وهذا، برأي ميشرا، ما زال الأساس الذي يكمن وراء مشاكل العالم: رفض وجودي لكينونة الآخرين سببه خليط مكثف من الحسد والإحساس بالمذلة والعجز والاستياء يسمم المجتمع المدني ويضعف الحرية السياسية، ويمهد الآن إلى انعطاف عالمي نحو السلطوية وأشكال خبيثة من الشوفينية.
صحة ما توقعه روسو لا يتطرق إليها الشك. وانتقاداته لسطوة المال وتحذيراته من اللامساواة نجد صداها في كتاب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، الذي حذر من عواقب الفجوة المتسعة في توزيع الثروة والفوارق في الدخول.
لكن روسو بطل إشكالي. فهو احتفى بالنزعة العسكرية وكراهية الأجانب أيضًا، واعتبر سبارطة مثله الأعلى بلا خجل. واتهمته ماري وولستونكرافت وأجيال من النسويات اللاحقات بالمساهمة في كراهية المرأة بشكلها الحديث. وميشرا يعرف ذلك كله، وكان ينبغي أن يكون أكثر حذرًا في إبداء إعجابه بروسو.
إعادة تقويم
يدين ميشرا بطريقة مقنعة غطرسة الليبراليين الجدد. ويقول إن غالبية البشر وجدت أن أفكار النزعة الفردانية والحراك الاجتماعي غير ممكنة التطبيق في الممارسة. وهو، مثله مثل روسو، يتعاطف مع المجتمع التقليدي. لكن من المتعذر الدفاع عن المجتمعات التقليدية إزاء موقفها المتخلف من المرأة والغريب.
صدر كتاب ميشرا بعد فوز ترمب، الذي كان خضة لليبرالية، فتح عينها على ضرورة التعاطي مع نواقصها، والتعرف إلى النقاط الأخلاقية العمياء في فكرها وتشخيص مواطن ضعفها السياسي.
فالتكنولوجيا التي يشكل الرهان عليها ركنًا مهمًا في الفكر الليبرالي الحديث لا تمتلك قدرة طبيعية على فهم الجوانب النفسية والعاطفية للإنسان. لكن إذا كانت الليبرالية تأمل بوقف زحف القوى السوداء فإنها يجب أن تكتسب قدرة أكبر على فهم جذور الغضب غير الملموسة والخبرة البشرية التي لا تجدها في الأرقام والبيانات الإحصائية.
أعدّت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "نيويورك تايمز". الأصل منشورعلى الرابط أدناه:
https://www.nytimes.com/2017/02/13/books/review/age-of-anger-pankaj-mishra.html