ثقافات

"إيلاف" تقرأ لكم في أحدث الإصدارات العالمية

ذهب المفكر الفرنسي لكن الفكر باقٍ

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لا شك في أن فرنسا فقدت أبرز مفكريها، الذين عاشوا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أو حتى في ستينياته، إلا أن الفكر فيها لم يمت. كل ما في الأمر أن أماكن تغلغل هؤلاء المفكرين تعرّضت لغزو الاستهلاك والعولمة.

إيلاف: في كتابها "الضفة اليسرى: الفن والشغف وانبعاث باريس 1940-1950"Left Bank: Art, Passion and the Rebirth of Paris; 1940-1950 (منشورات هنري هولت، 352 صفحة، 30 دولارًا)، تتذكر الصحافية الفرنسية أنييس بواتيه أن مقهى فلور على الضفة اليسرى من نهر السين في باريس بديكوره الداخلي وعمّاله الذين يرتدون "البابيون" كان "جامعة" للمثقفين الصاعدين والمفلسين في غالبية الأحيان. 

الضفة اليسرى: الفن والشغف وانبعاث باريس 

في "الضفة اليسرى"، تتحدث بواتيه عن الكتاب والفنانين والرسامين الذين كانوا يتشاطرون أسرة النوم والسجائر في أربعينيات القرن الماضي، عائدة في أحيان كثيرة إلى مقهى فلور، الذي كانت سيمون دو بوفوار تستخدمه صندوق بريد لرسائلها، وكان دفء المقهى ملاذها من غرفة الفندق الباردة، حيث كانت تعيش قرب المقهى. كانت وجان بول سارتر وشلتهما من الكتاب المناهضين للبورجوازية يكتبون ويدخنون على طاولات المقهى، على بعد مسافة قصيرة من شقة سارتر الصغيرة في شارع بونابرت. 

خوف متكرر
اليوم، يقع مقهى فلور بجوار مخزن من مخازن لويس فويتون، يرتاده السيّاح الذين أتعبهم الطواف في باريس، على الرغم من أنه ما زال يعتاش على تراثه الأدبي. فقائمة المشروبات مصممة كأنها غلاف كتاب من كتب "غاليمار" التي كانت تنشر أعمال سارتر ودو بوفوار وألبير كامو. 

لكن مدير المقهى يقول إن الكتّاب الوحيدين الذين يرتادون المقهى اليوم هم من المشاهير الأغنياء، ربما لأن المبدعين الناشئين لا يستطيعون تحمل تكاليفه.

ولت أيام سارتر ودو بوفوار

المبدعون الصاعدون الذين يكتبون بالفرنسية اليوم نجدهم في الغالب في أطراف المدينة أو في برازافيل أو داكار، وليس بين مخازن التحفيات والعلامات التجارية المشهورة على الضفة اليسرى لنهر السين. مع ذلك، يصلح مقهى فلور رمزًا لخوف متكرر هو موت المثقف الفرنسي، على ما يُقال. 

آخر من تناول هذا الموضوع المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، في كتابه "نهاية المثقف الفرنسي: من زولا إلى ويليبك" The End of the French Intellectual: From Zola to Houllebecq (منشورات فيرسو، 304 صفحات، 30 دولارًا) الذي بدأ بحنين إلى تلك الأيام، لكنه يعترف بـ"أمثَلَة مثقفي باريس" الذين كانوا "أبطاله" في أيام دراسته لنيل شهادة الدكتوراه في العاصمة الفرنسية إبان سبعينيات القرن الماضي. 

نهاية المثقف الفرنسي: من زولا إلى ويليبك

ثقافة سريعة
يقول ساند إن الذين يُقدَّمون اليوم على أنهم مثقفون فرنسيون شعبيون هم نسخة باهتة من إميل زولا وأندريه جيد وجان بول سارتر وميشال فوكو. الرعيل الحالي كتّاب من الدرجة الثانية وصفهم بيير بورديو، الذي ينتمي إلى المدرسة القديمة، بأنهم "مفكرون سريعون يقدمون وجبات ثقافية سريعة". 

يركز ساند على الكاتب الرجعي إريك زيمور، والفيلسوف اليساري السابق آلان فنكيلكراوت الذي تحول ناقدًا للتعدد الثقافي. الأكثر إثارة للاهتمام السياق التاريخي لدور المثقف الفرنسي اليوم، وتراجع هذا الدور مقارنة بجيل سارتر ودو بوفوار، كما يرى ساند. 

لعل أحد العوامل هو أن الفكر الفرنسي أصبح متقوقعًا، منكفئًا على نفسه خلال العقود الأخيرة على غرار المجتمع نفسه. العامل الآخر برأي المفكر الليبرالي غاسبار كونيغ أن الوسط الأكاديمي في فرنسا "أغلق نفسه بوجه النقاش العام". أصبح المثقف الشعبي الذي كان منتج بحوث جادة ومشاركًا في حوار واسع، عملة نادرة اليوم. 

لعل من الأسباب الأخرى ما يتصل بتوقعات العالم الخارجي أكثر مما يرتبط بهزالة إنتاج المفكرين الحاليين. ذلك أن بعض الأعمال الرائدة في فرنسا أخيرًا ليست في الفلسفة، بل في حقول لا تهتم بها دور النشر باللغة الانكليزية، كالاقتصاد مثلًا.  

الفكر باقٍ
كان أهم عمل بالفرنسية على الصعيد العالمي في السنوات الأخيرة كتاب توماس بيكيتي "رأس المال في القرن الحادي والعشرين". لعل بيكيتي الذي يتحدى النظرية الاقتصادية السائدة، وعمل مستشارًا للمرشح الاشتراكي بنوا أمون في الانتخابات الرئاسية الماضية، هو أقرب من أنجبتهم فرنسا إلى المثقف الشعبي من الطراز السابق.
 
كان كتابه من أكثر الكتب مبيعًا في العالم. والمفكر الفرنسي المرموق الآخر هو الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل جان تيرول. 

نعود إلى مقهى فلور، فنجد سياحًا يحتسون القهوة أو يقرأون الصحف. وفي حين أن المقهى ليس باريس، وباريس ليست فرنسا، فإن المقهى حين يستعيده أهل المنطقة من السياح في المساء يعيد التذكير بأن هذا الحي يبقى مأوى شريحة واسعة من نخبة العاصمة، وهي مجموعة ما زالت تشكل الأجواء الفكرية في فرنسا. 

لعل المفكرين الراديكاليين غابوا، لكن الحياة الفكرية في فرنسا ليست كما يصورها القائلون بموتها. فإن عدد الذين حضروا معرض باريس للكتاب ارتفع خلال هذا العام، والمهرجانات الأدبية المحلية والإقليمية في ازدهار، والفلسفة ما زالت موضوعًا إلزاميًا في المناهج المدرسية. في العام الماضي، انتخب الفرنسيون رئيسًا يحمل شهادة جامعية في الفلسفة، ويحفظ موليير عن ظهر قلب. ربما فقدت فرنسا مفكريها العظام، لكنها لم تفقد فكرها. 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونومست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/news/books-and-arts/21741126-inquiry-old-haunt-sartre-and-de-beauvoir-deathor-reinventionof-french?frsc=dg%7Ce

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف