"إيلاف" تقرأ لكم في أحدث الإصدارات العالمية
الشعب مقابل الديمقراطية... أو العقلانية بلا منطق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في كتابه "الشعب مقابل الديمقراطية"، يقترب ياشا مونك من جسمنا السياسي المريض برؤية شاملة، متناولًا التشخيص والمسببات والعلاج. التشخيص سهل، لكن المسببات والعلاج أكثر تعقيدًا.
إيلاف من بيروت: "صارت رهانات السياسة وجودية". هذا ما كتبه ياشا مونك في "الشعب مقابل الديمقراطية" The People vs. Democracy (400 صفحة، منشورات جامعة هارفرد) الذي وصف بأنه دعوة قوية إلى التسلح موجّهة إلى من يخشون تأكّل أسس الديمقراطية الليبرالية بسرعة. أضاف: "في السنوات المقبلة، ربما يتطلب الأمر مزيدًا من الشجاعة للتمسّك بما هو عزيز علينا".
أكثر تعقيدًا
يبدو أن الرؤى المروّعة في رواج: كتاب مونك عن التهديدات المعاصرة للديمقراطية الليبرالية، بعنوانه الفرعي "لماذا حريتنا في خطر وكيف ننقذها" Why Our Freedom Is in Danger & How to Save It يمكن بيعه بسهولة بوصفه جزءًا من صفقة حزمة مليونية مع كتاب ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات "كيف تموت الديمقراطيات" How Democracies Die، و"عن الطغيان" On Tyranny بقلم تيموثي سنايدر، و"انتحار الغرب" Suicide of the West بقلم جوناه غولدبرغ.
ما يميّز كتاب مونك هو ما يمكن أن نسميه "فوكسيّته" الأساسية Voxiness– أي انتشاره في مجتمع المقاهي في واشنطن الليبرالية. على مستوى الشكل، تجمع "الفوكسية" بين رغبة نهمة على ما يبدو لنقل أحدث العلوم الاجتماعية من جهة، ورفض ثابت لحجة معيارية واسعة النطاق من جهة أخرى. وهذا يولد قدرته المذهلة، على مستوى المحتوى، لإلغاء الحكمة التقليدية بطريقة أو بأخرى، وتأكيد المعتقدات السابقة للأشخاص المنطقيين.
حاملًا المشرط في يده، يقترب مونك من جسمنا السياسي المريض برؤية شاملة في ثلاثة أجزاء: التشخيص، والمسببات، والعلاج. التشخيص، الذي يشكل القسم الأطول في الكتاب، هو أن الديمقراطية الليبرالية قد تم تفكيكها - ليس في أماكن مثل فنزويلا أو المجر فحسب، لكن أيضًا في أوروبا الغربية والولايات المتحدة - من قبل قوى الاستبداد الشعبوية من جهة، والتكنوقراطية الأوليغارشية من جهة أخرى.
المسببات والعلاج أكثر تعقيدًا: من بين مصادر ويلاتنا ركود مستويات المعيشة، والتعددية العرقية المكتشفة حديثًا، والعولمة التي لا هوادة فيها، والتكنولوجيا المتغيرة، وتزايد الشكوك حول القيم الليبرالية الديمقراطية الأساسية... وتكمن العلاجات في وصفات متعددة لتعزيز الإنتاجية، وإعادة تأهيل الهوية الوطنية، واستعادة السيادة الوطنية، وترويض الإعلام الاجتماعي، وتجديد التربية المدنية، وما إلى ذلك. هذا كثير علينا، لكن مونك برى أن المشكلة المعقدة تتطلب حلًا معقدًا.
حقوق وديمقراطية
إحدى أهم الخطوات في كتاب "الشعب مقابل الديمقراطية"، تظهر في البداية، عندما يصرّ مونك على أن تعريف الديمقراطية الليبرالية يجب أن يميّز بين العنصرين اللذين يؤلّفانها حتى نتمكن من تتبع مصير كلّ منهما بشكل منفصل. فالديمقراطية، كما يقول، "مجموعة من المؤسسات الانتخابية الملزِمة التي تترجم الرؤيا الشعبية إلى سياسة عامة". في الوقت نفسه، المؤسسات الليبرالية هي تلك التي "تحمي بفاعلية سيادة القانون وتضمن الحقوق الفردية [...] لجميع المواطنين". ويترتب على ذلك أن المجتمع يعتبر ديمقراطية ليبرالية إذا كان يجمع بين المؤسسات الديمقراطية والليبرالية. ويترتب على ذلك أيضًا أن بعض المجتمعات قد يكون ديمقراطيًا وليس ليبراليًا أو العكس.
سيعترض البعض على هذه التعريفات. فالإغريق القدماء كانوا يرون الانتخابات آلية أرستقراطية من شأنها أن تفيد حتمًا النخب القائمة أو تنتج نخبًا جديدة. وادّعى الاشتراكيون منذ زمن طويل أن الديمقراطية الحقيقية تتطلب التشكيل الجماعي للحياة كلها، بما في ذلك الاقتصاد. لكنّ لمقاربة مونك ميزة كونها غير مثيرة للجدل بالنسبة إلى الخطاب السياسي المعياري، بينما تشير إلى بعض التطلعات وراء الليبرالية (حماية الأفراد أو احترامهم) والديمقراطية (تشكيل العالم معًا).
إنّ إبقاء الليبرالية والديمقراطية بعيدًا عن المنظور المفاهيمي يسمح لمونك بالتقدم بفكرته التي تحمل بصمة خاصّة، وهو أن الاثنتين بدأتا بالانفصال تجريبيًا أيضًا. يقول إننا في بعض المناطق، نشهد الديمقراطية من دون حقوق. وفي مناطق أخرى، نشهد حقوقًا من دون ديمقراطية. هذه فكرة متقنة، تم تشكيلها بطريقة مثالية لمقال تعليقي أو غلاف كتاب أو خطاب قصير، ولكن اتضح أنها تتناسب مع الظواهر الفوضوية التي يريد مونك كشفها في ما يتعلق بنهضة الشعبوية. ويضيف أن جوهر النزعة الشعبوية هو الميل إلى تقديم "حلول سهلة وسطحية" للمشكلات المعقدة.
منحدر زلق
لا يحب الناخبون الاعتقاد أن العالم معقد. هم بالتأكيد لا يحبون أن يقال لهم إنّه لا يوجد حل فوري لمشكلاتهم. وفي وجود سياسيين، يبدو أن قدرتهم على حكم عالم يزداد تعقيدًا تتراجع يومًا بعد يوم، فإن عددًا منهم مستعد بشكل متزايد للتصويت لأي شخص يعد بحل بسيط.
ما أن يتم صوغ حل بسيط ("بناء جدار!")، يبدأ المنحدر الزلق نحو اللا ليبرالية. لأنه إذا كانت الإجابة واضحة جدًا، فإن السؤال يصبح لماذا لم يتمّ تنفيذها من قبل، والإجابة عن ذلك يجب أن تكمن في مؤامرة لإفشال إرادة الشعب - أي مؤامرة من أعداء الشعب، السياسيين الفاسدين ("أسجنوها!") أو المصالح الأجنبية ("أوباما هو مؤسس داعش!").
والعلاج الوحيد هو تمكين قائد نزيه ("يروي الأمر كما هو!") لتغيير الأمور ("استنزاف المستنقع!"، أي القضاء على المشكلة)، وبالتالي السماح للعروض الحقيقية ("أميركا الحقيقية") باستعادة السيطرة على الدولة ("أميركا أولا!"). إلا أنه بمجرد وصول الناطق باسم الشعب إلى السلطة ("أنا صوتك!") يشعر بالإحباط بسبب الحواجز المؤسسية في المجتمع الليبرالي، من وسائل الإعلام إلى القضاء ووصولًا إلى الخدمة المدنية، وبالتالي يبدأ في نزع الشرعية عن الحواجز (الأخبار المزيفة"،" الدولة العميقة"، وما إلى ذلك) وتقويضها كلما كان ذلك ممكنا ("أتوقع الولاء "). وهكذا تصبح الديمقراطية منفصلة عن الليبرالية.
من الناحية النظرية، توجد مشكلة واضحة في مفهوم "الديمقراطية غير الليبرالية": فالذين يقوّضون المؤسسات الليبرالية يميلون أيضًا إلى تقويض المؤسسات الديمقراطية. يلفت مونك إلى أنه في حين أن التأثير الأنموذجي للشعبوية هو تهديد الديمقراطية، فطبيعتها الأساسية هي ديمقراطية، بقدر ما تعبّر عن إرادة إعادة السلطة للشعب. لكن كما قال جان فيرنر مويلر، فإن استراتيجية وصف الأحزاب السياسية المتنازعة بأنها أعداء للشعب، تشير بالفعل إلى إزدراء المشروع الديمقراطي لاكتشاف الإرادة الحقيقية للشعب.
ليبرالية غير ديمقراطية
تبدو هشاشة إطار مونك المفاهيمي أكثر وضوحًا عندما ننتقل إلى دراسته لـ"الليبرالية غير الديمقراطية". فهو يقدم حجة مقنعة بأنّ التكنوقراطية في ازدياد في الديمقراطيات الليبرالية، مشيرًا بشكل خاص إلى أعداد متزايدة من الموظفين الحكوميين، والقواعد البيروقراطية، ومعاهدات التجارة، والبنوك المركزية المستقلة، وإجراءات المراجعة القضائية، كلها ينطوي على تكليف نخبة محترفة بقرارات يمكن أن تكون موضوع خلاف سياسي.
قليلون سيحتاجون الإقناع أن الديمقراطيات الليبرالية أصبحت أوليغارشية على نحو متزايد، لكن مونك يقوم بعمل ممتاز في عملية الإقناع. يلفت إلى تضاعف حجم الأموال التي يتم إنفاقها على الضغط على السياسيين في الولايات المتحدة من 1.5 مليار دولار في عام 2000 إلى 3.2 مليار دولار في عام 2015؛ وفي عام 2013، تم الكشف عن أن أعضاء الكونغرس (الذين يزيد متوسط ثروتهم الصافية على 10 أضعاف متوسط دخل الأميركيين العاديين) يتم حثهم على قضاء نصف ساعات العمل تقريبًا في البحث عن مساهمات في الحملة. الوضع أقل دراماتيكية في أوروبا، ولكن حتى هناك، أصبح السياسيون معزولين بشكل متزايد عن ناخبيهم، فقد كانت نسبة الأشخاص المنتمين إلى الطبقة العاملة نادرة بين الممثلين.
عندما يقترن الميل نحو التكنوقراطية بالميل نحو الأوليغارشية، يبدأ تأثير الناخبين العاديين في الظهور هامشيًا في أحسن الأحوال: إما أن يتم إخراج مشكلة من الساحة الديمقراطية تمامًا، ليتم التعامل معها من قبل خبراء محايدين مزعومين ينتمون بشكل شبه حصري إلى الطبقة المتوسطة العليا، أو مناقشتها من قبل أولئك الذين لديهم الحافز الهيكلي لإرضاء فاحشي الثراء.
من المؤكد أن مونك محق في أن خليط الأوليغارشية والتكنوقراطية يوفر أرضًا خصبة للشعبوية - ذلك لأن الناس قد فقدوا صوتهم، الذي يدّعي الشعبوي أنّه يستطيع إرجاعه إليهم. ولكن ما زال من غير الواضح ما علاقة ذلك بـ "الليبرالية غير الديمقراطية" أو "الحقوق بلا ديمقراطية".
تحت الضغط
لا يوجد شيء ليبرالي بشكل خاص في ما يتعلّق بـ "الليبرالية غير الديمقراطية"، كما إنها ليست بالضرورة غير ديمقراطية، في الأقل في البعد التكنوقراطي. فكما يشير مونك نفسه، القرارات الديمقراطية تحتاج أن تنفذها الهيئات العامة، وبالتالي ينفذها مسؤولون يملكون حتمًا درجة من الحكم الذاتي.
في النهاية، يبدو تشخيص مونك خاطئًا: فالديمقراطية الليبرالية قد تكون تحت الضغط، وربما حتى تحت التهديد، لكنّ فئات الديمقراطية غير الليبرالية، والليبرالية غير الديمقراطية، تعمل في الغالب على حجب الظواهر الموجودة.
هذا ليس مجرد تحذلق، لأننا إذا تصورنا التهديدات ضد الديمقراطية الليبرالية على أنّها متماثلة بطريقة ما، وبالتالي متساوية، فقد نفشل في رؤية أن الاستبداد الشعبوي هو رد فعل على الأوليغارشية والتكنوقراطية. وإذا فشلنا في رؤية ذلك، فقد ينتهي بنا الأمر إلى علاج الأعراض بدلًا من المرض.
بالنسبة إلى كتاب يشكل في جزء كبير منه انعكاسًا لانتخاب دونالد ترمب، فإنّ "الشعب مقابل الديمقراطية" لا يقول شيئًا عن بيرني ساندرز. هذا يشير إلى رفض أكثر عمومية للنظر في الشعبوية اليسارية كظاهرة مختلفة، من الناحية التحليلية والقياسية، عن شعبوية اليمين المتطرف. يدّعي مونك أن أشكال الشعبوية كلها تقدم حلولًا بسيطة للمشكلات المعقدة، ثم يؤكد أن أي شخص يقاوم هذه الحلول هو عدو للشعب. وبالتالي فإنّ الشعبوية اليسارية تتميّز عن الشعبوية اليمينية فقط باختيارها للحل البسيط ولشرّير فيلم الكرتون: يتمّ تصوير الشعب على أنه بحاجة إلى انتزاع السلطة من نخبة ثرية. ومن وجهة نظر مونك، فإن الرد المناسب على الشعبوية اليسارية والشعبوية اليمينية هو نفسه: يجب على الأشخاص المنطقيين الإصرار على أن مشكلاتنا معقدة للغاية بحيث لا يمكن معالجتها بترياق شامل، ثم الدعوة إلى مقترحات سياسات أكثر دقة.
التسوية معقولة
المقطع الآتي يلخص الكتاب كله: "لا حلول سهلة. لكنّ التسوية المبدئية معقولة". إنّها حالة شخص بالغ في الغرفة، شخص من جيل الألفية يئس من غزل جيله للشعبوية (هناك قسم بعنوان "لن ينقذنا الشباب") ولكن يأمل أن يدفعهم نحو المنطقية الناضجة. من السهل أن يسخر المرء من هذا الموقف، خاصة بالنظر إلى نثر مونك الغريب- فوفقًا لبحث إلكتروني، استخدم صيغة "ولكن" 76 مرّة في بداية الجمل - ولكن في عصر سياسات تويتر هناك شيء منعش حول رفض مونك لرسم نفسه على أنه أكثر راديكالية مما هو عليه في الواقع.
إذا أخذنا باقتراحات مونك لتعزيز الديمقراطية الليبرالية، فإنها تبدو منطقية تمامًا. يجب على المواطنين التصويت ضد الشعبويين والتشبث معًا بالاحتجاج على السلطوية الشعبوية، وعدم تشتيت انتباههم بنقاط الضعف الشخصية للزعيم السلطوي، وقبل كل شيء، تذكير بعضهم البعض بمزايا الديمقراطية الليبرالية. يجب على السياسيين أن يتكلموا بلغة الناس العاديين، وأن يحملوا رسالة إيجابية، ويحترموا المعايير المؤسسية، ويعززوا شكلًا شاملًا للهوية الوطنية، ويتجنبوا التطرف السياسي بدون أن يظهروا متشبثين بالوضع الراهن. يجب على صناع السياسة إلغاء المدارس الأحادية الجنس، ورفع الضرائب على الأثرياء، واستعادة أحكام دولة الرفاه مع فصل المنافع عن التوظيف، والاستثمار في البنية التحتية والبحوث والتعليم والرعاية الصحية، وجعل الأفراد والشركات عبر الوطنية يدفعون الضرائب محليًا، وزيادة معروض المساكن، وتمويل التعليم المستمر، وإيجاد طرق لإعطاء العمال المستقلّين الشعور بالفخر المهني، وتشجيع شركات وسائل الإعلام الاجتماعية لاسترعاء انتباه مستخدميها بطرق مسؤولة، والحد من تأثير جماعات الضغط من خلال زيادة ميزانيات الموظفين البرلمانيين، وتحسين التربية المدنية في المدارس والجامعات.
حكم القلة
يعتبر هذا بالتأكيد حزمة معقدة من المقترحات. ولكن إذا سأل مونك نفسه لماذا لم يتمّ تنفيذ السياسات المختلفة التي اقترحها من قبل، فإن الإجابة في غالبية الأحيان تبدو بسيطة بكل تأكيد: لقد نمت أنظمتنا السياسية على حكم القلة على مدى العقود القليلة الماضية وهذه الأقلية لن تختار ما لا يناسب مصالحها. وللموافقة على مقترحات مونك، ينبغي تغيير ميزان القوة في المجتمع أولًا. وبما أنه لا يمكن تحقيق ذلك ببساطة من خلال مناشدة ضمير النخب الحالية، فإن ذلك يتطلب تعبئة واسعة النطاق لبقية الشعب - أو، بتعبير آخر، للشعبوية اليسارية.
يمكن التوصل إلى النتيجة نفسها إذا ركزنا على توصية مونك بأن يذكّر المواطنون بعضهم البعض بمزايا الديمقراطية الليبرالية. لماذا قد يفعل الناس ذلك إذا كان النظام لا يستجيب لمصالحهم كما يعتبر مونك؟. في مقطع فاضح، يقول مونك لنفسه الأشياء التي كان من الممكن أن يقولها خلال الانتخابات الأخيرة مواطنٌ من مجموعة ظلّت آمالها في الحياة راكدة على مدى العقود القليلة الماضية (أي الشعب بمعظمه، لأنّ الأسرة الأميركية العادية ليست أكثر ثراءً الآن مما كانت عليه منذ 30 عامًا): "لقد عملت بجد طوال حياتي [...] لكنّ النتيجة لم تكن جيدة. وربما سيكون وضع أولادي أسوأ. لذا دعونا نقترح بعض الأفكار، ولنر ماذا سيحصل". إذا تمكنا من تجاوز الجانب السايبورغي الكلينتوني لهذا التمرين، باستخدام خيال متعاطف، فإن الفكرة التي يحاول مونك إثباتها هي أن الأنظمة الأوليغارشية لا توحي بالولاء الحقيقي على الأرجح. لكي يتمكّن المواطنون العاديون من حماية الديمقراطية الليبرالية، فهذا يعني منحهم حصة حقيقية في ذلك. وهذا بالضبط ما تقترحه اليسارية الشعبوية.
الديمقراطي الاجتماعي
ليس مونك داعمًا سريًا لليبرالية الجديدة. ربما يبدو ديمقراطيًا اجتماعيًا على النمط الأوروبي. لكنّ الفكرة هي أن رغبته في الدفاع عن تعقيدات محور المنطق ضد بساطة المتطرفين المجانين، تعميه عن منطق حجّته. لا شك في أنه سيكون من الخطأ، من الناحية العملية والنظرية، الافتراض بأن تقليص الأوليغارشية سيحل مشكلاتنا كلها.
لكن من المنطقي التفكير في أن مصالح المواطنين العاديين لن يخدمها على الأرجح النظام السياسي الذي ينبغي أن تكون فيه ثريًا في الأساس حتى يتمّ انتخابك - بما في ذلك على المستوى المحلي - وحتى في هذه الحالة عليك أن تقضي نصف وقتك في توجيه الكلام المنمّق للأثرياء الآخرين.
نتيجة لذلك، يبدو من المعقول أيضًا القول إن إيقاف السيطرة الشعبوية على المؤسسات السياسية في الولايات المتحدة، على الأقل، هو شرط لا غنى عنه لاستقرار الديمقراطية الليبرالية. لذا، إذا كان على سياسي مثل ساندرز أن يجعل من ذلك الفكرة التوجيهية لحملة ما، فإن هذا لا يدلّ بالضرورة على السذاجة - بل على إدراك المكان الذي تكمن فيه المشكلات الأكثر إلحاحًا.
بالطبع، يشمل خطاب الشعبوية اليسارية تعريفًا استبعاديًا لـ "الشعب" ضد "النخب" أو تركيبات من هذا النوع. لكن كما أصر كارل شميت، يبدو أن نوعًا من التمييز بين الصديق والعدو ضروري في السياسة الحقيقية: فحتى الليبرالية تحتاج تفسير "الشعب" بطريقة تستبعد "غير المنطقي" أو "المتعصّب".
إلى الاستبداد درّ!
تظهر المشكلة عندما يتحوّل القول إلى فعل. وبمجرد رسم خطوط المعركة بين المواطنين العاديين والنخب، كما يذكّرنا مونك، يمكننا بسهولة الانزلاق نحو الاستبداد. يمكن اعتبار الضوابط والموازين خدعة تستخدمها النخب لمقاومة التغيير، بحيث يكون الحل الواضح هو وضع مزيد من السلطة في يد زعيم نزيه. وبما أن السلطة تفسد، يمكننا أن نجد أنفسنا بسرعة في أيدي طاغية. لكنّ الشعبوية اليسارية لا تنتهي دائمًا بزعيم يسجن خصومه ويقوم بخطب مدتها سبع ساعات على التلفزيون الوطني - في بعض الأحيان ينتهي الأمر بإنشاء نظام رعاية صحية وطني أو توفير التعليم المجاني.
فلنقم بصوغها على هذا النحو: بالنسبة إلى الحديث عن فشل توقعات كارل ماركس بشأن مستقبل الرأسمالية، لم تكن توقعات فريدريك هايك حول مستقبل الاشتراكية الديمقراطية أفضل. ولم تسفر لحظة انتصار الشعبوية اليسارية في بريطانيا ما بعد الحرب عن عبودية جديدة على الإطلاق. إذا تقبّلنا أن هناك حاجة إلى نوع من النزعة اليسارية الشعبوية، فإن الصعوبة تكمن في كيفية إبقائها ديمقراطية بدلًا من انحرافها نحو الاستبداد.
إن الجواب الذي ينطوي عليه كتاب مونك - حتى لو كان فشله في التفكير الجاد في النزعة اليسارية يجعله عاجزًا عن استخلاص العبرة - هو أن الشعبوية اليسارية الديمقراطية - الليبرالية ملتزمة باحترام الحماية الفردية مثل الحق في حرية التعبير والأعراف الديمقراطية، مثل قبول الأحزاب المتنافسة على أنها مشروعة والالتزام بنتائج الانتخابات. أحيانًا، تُشجب مثل هذه المفاهيم على أنها مجرد زخرفة للوضع الأوليغارشي الراهن، لكن مونك محق بالتأكيد في أنها تبقى ضمانات حيوية ضد الفساد والقسوة التي يمكن أن تحدق بأي نظام، بغضّ النظر عن مدى نبله في الأصل أو تطلّعاته. والسؤال ليس ما إذا كانت ذات قيمة، وإنما كيفية موازنة أهميتها مع الحاجة إلى التغيير الهيكلي.
عزيز علينا
في الخاتمة، يعبّر مونك عن "شجاعة التمسّك بما هو عزيز علينا" بما في ذلك الاستعداد لحضور الاحتجاجات العامة، لتذكير المواطنين الآخرين "بفضائل الحرية والحكم الذاتي"، ودفع الأحزاب السياسية إلى دعم الديمقراطية الليبرالية في الطرق التي سبق وصفها.
لكن يبدو أن هذا رد فعل سلمي بشكل ملفت على الكارثة المزعومة التي حلّت علينا، لا سيما بالنظر إلى أن مونك نفسه يقول إنه في "الأوقات غير العادية، عندما تتم إعادة التفاوض على الحدود الأساسية للسياسة والمجتمع"، يبدو أن الرهانات الوجودية للسياسة تبرر الخروج عن قواعد اللعبة. هل من الممكن ألا نحتاج تجاهل قواعد الديمقراطية الليبرالية أو كسرها من أجل الدفاع عنها على المدى الطويل، كما فعل لينكولن عندما علّق أوامر المثول أمام المحكمة في أثناء الحرب الأهلية الأميركية؟، هذا ما سيدّعيه الشعبويون اليساريون الاستبداديون.
لتقديم إجابة مقنعة لهذا التحدي، يتعيّن على مونك أن يوضح لماذا يجب على الناس أن يهتموا بالمؤسسات الديمقراطية الليبرالية في المقام الأول، لماذا تعتبر سيادة القانون قيّمة، ولماذا يجب اعتبار الحقوق الفردية غير قابلة للانتهاك في بعض النواحي، ولماذا معايير الكياسة مهمة، ولماذا يجب أن تترجم وجهات النظر الشعبوية إلى سياسة عامة، وما إلى ذلك، ثم إثبات أن هذه الأسباب لا تنهار مع ظهور الأوليغارشية. هذا كتاب مختلف بالطبع، لكنه يعامل أولئك الذين تجذبهم الشعبوية على أنّهم متجاوبون مع الحجة العقلانية. من دون ذلك، كل ما يُطرح أمامنا هو عقلانية بلا منطق.
أعدّت إيلاف هذا التقرير نقلًا عن "lareviewofbooks". المادة الأصلية منشورة على الرابط الآتي:
https://lareviewofbooks.org/article/reasonableness-without-reasons-yascha-mounks-the-people-vs-democracy/