المتحف البريطاني والمتحف المصري الكبير: مواجهة ناعمة في سرد الحضارات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من لندن: المتحف ليس مجرد مبنى لعرض القطع الفنية، بل مؤسسة ثقافية تتجاوز حدود العرض الفني إلى إنتاج المعنى التاريخي للحضارة. من هذا المنطلق، فإن المقارنة بين المتحف البريطاني في لندن والمتحف المصري الكبير في الجيزة هي في جوهرها مقارنة بين نموذجين فلسفيين متناقضين: الأول يقوم على الإرث الإمبراطوري الجامع، والثاني على "استعادة السرد الوطني" وإعادة إنتاج الهوية من الداخل.
أولاً: البنية المادية وحجم المقتنيات
يحتفظ المتحف البريطاني بما يزيد على ثمانية ملايين قطعة أثرية، تُعرض منها نحو واحد بالمئة فقط للجمهور في قاعاته. هذا الاتساع الكمي يعبّر عن تاريخ طويل من الجمع والاكتساب خلال الحقبة الاستعمارية، مما جعل المتحف مرجعًا عالميًا لتاريخ الحضارات، لكنه في الوقت نفسه يثير أسئلة أخلاقية حول ملكية القطع وأصولها.
في المقابل، يضم المتحف المصري الكبير ما يزيد على مئة ألف قطعة أثرية، تُعرض منها نحو خمسين ألفًا في مرحلته الافتتاحية. ورغم الفارق العددي الكبير، فإن التماسك الموضوعي للمجموعة المصرية يمنحها عمقًا معرفيًا نوعيًا، إذ يركّز المتحف على حقبة حضارية واحدة تُقدَّم من منظورها المحلي، لا عبر عدسة الاستشراق أو التجميع الخارجي.
ثانياً: جمهور الزوار ودلالته
يستقبل المتحف البريطاني سنويًا قرابة ستة ملايين زائر، ويُعد من أبرز الوجهات المجانية في أوروبا. هذا الرقم يعكس اندماج المتحف في البنية السياحية والثقافية للمدينة، لكنه أيضًا يعبّر عن علاقة "المتفرج الغربي" بالتراث العالمي بوصفه مادة عرضية للمعرفة والاستهلاك الثقافي.
أما المتحف المصري الكبير، فتتوقع وزارة السياحة والآثار المصرية أن يجذب بين خمسة وثمانية ملايين زائر سنويًا بعد اكتمال افتتاحه، مستفيدًا من موقعه المجاور لهضبة الأهرامات ومن كونه أول متحف مصري صُمّم بمقاييس عالمية متكاملة. غير أن التحدي الأكبر أمامه سيكون في تحويل الزائر من متلقٍ بصري إلى مشارك معرفي، ضمن تجربة تأويلية تعيد قراءة التاريخ لا مجرد استعراضه.
ثالثاً: فلسفة العرض وإنتاج المعنى
يستند المتحف البريطاني إلى أسلوب عرض تقليدي، يتعامل مع القطعة الأثرية كوثيقة في سردية كونية تُوحّد تاريخ البشر في إطار "المتحف العالمي". في المقابل، يتبنّى المتحف المصري الكبير فلسفة عرض تعتمد على التسلسل الزمني والبعد الرمزي، مع توظيف تقنيات الواقع المعزّز والإضاءة الرقمية لإحياء التجربة المتحفية دون فقدان روح المكان.
رابعاً: البعد الرمزي والسياسي
يمثل المتحف البريطاني تجسيدًا لإرث القوة الإمبراطورية التي جمعت آثار العالم في مركز واحد. أما المتحف المصري الكبير، فيجسد لحظة "استعادة الصوت" — صوت الحضارة التي طالما جُرّدت من سياقها لتُعرض في الخارج. بذلك، لا يكون المتحف مجرد مؤسسة عرض، بل أداة لإعادة بناء الذاكرة الوطنية وتحرير السرد التاريخي من الهيمنة.
ختاماً، تكشف المقارنة أن الفارق بين المتحفين ليس في عدد القطع أو حجم الزوار فحسب، بل في طبيعة العلاقة بين الحضارة وراويها. فبينما يواصل المتحف البريطاني تمثيل نموذج "المتحف العالمي"، يسعى المتحف المصري الكبير إلى صياغة نموذج "المتحف الوطني الكوني" — أي المؤسسة التي تنفتح على العالم دون أن تفقد جذورها. إنها مواجهة ناعمة بين المركز والاستعادة، بين السرد الإمبراطوري والذاكرة المسترجعة، قد تعيد تعريف وظيفة المتحف في القرن الحادي والعشرين.
* المراجع:
British Museum. Fact Sheet: The British Museum Collection. London: The Trustees of the British Museum, 2019.
British Museum. The Museum Story.