تعيد طرح إشكاليات المكسب والخسارة في السوق المصرية
كيف يمكن قراءة طرح البنوك المصرية أوعية ادخارية عالية الفائدة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بينما أتصفح هاتفي المحمول وصلني إشعار برسالة عاجلة من البنك الذي أتعامل معه، تفيد بحلول موعد استرداد شهادة الادخار ذات العائد المرتفع الذي يبلغ 25% من قيمة أصل الشهادة، والذي كنت قد استثمرت فيه فائض أموالي قبل نحو عام مضى، هي مدة الشهادة التي أصدرتها البنوك الوطنية وقتها في يناير/كانون الثاني 2023.
أخبرت زوجتي بسعادة بأن الـ 100 ألف جنيه التي وضعناها في شهادات البنك سوف نستردها بقيمة 125 ألف جنيه بعد إضافة مبلغ الفائدة، باغتتني زوجتي حانقة بأننا في الواقع خسرنا ولم نربح، لأننا لو كنا اشترينا بالمائة ألف جنيه مصري ذهبا بسعر الجرام 1660 جنيها وقتها أي ما يعادل 60 جراما، فإننا سوف نربح أضعاف ما وضعناه في شهادات الادخار البنكية لأن الـ 60 جرام ذهبا تعادل بسعر السوق حاليا 190 ألف جنيه مصري، بسعر الجرام 3200 جنيه.
شرد ذهني قليلا بعد هذا الحوار مع زوجتي وأدركت أن النساء ربما لديهم قرار أفضل من الرجال فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية والمالية!.
يأتي ذلك بعد أن رفعت الحكومة أسعار الكثير من الخدمات الأساسية في بداية هذا العام من بينها أسعار تذاكر المترو والكهرباء والإنترنت.
تمكنت الحكومة المصرية وقت إصدار هذه الشهادات ذات العائد الذي يصل إلى 25% - والتي تعتبر الأعلى على الإطلاق في تاريخ شهادات الادخار البنكية &- من جذب مدخرات بنحو 500 مليار جنيه من السوق، في محاولة لكبح جماح التضخم الذي وصل إلى مستويات قياسية اقتربت من 40% وفق تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حينها.
ووفقا لتقارير صادرة عن البنوك الوطنية الثلاثة التي كانت قد أصدرت هذه الأوعية الادخارية قبل نحو عام، فإن أغلب عملاء هذه الشهادات هم من القطاع العائلي الباحثين عن عوائد دورية، بعيدا عن مخاطر المشاريع ومعايير الربح والخسارة، ولذلك فإنهم يتوقعون أن تلجأ البنوك الوطنية إلى إصدار شهادات جديدة لتحديث السيولة المالية لمن حان أجل استحقاق شهاداتهم، وربما بعوائد أكبر من شهادات ال25% لإرضاء العملاء ومواجهة الارتفاعات المتوالية في أسعار السلع والخدمات.
المستثمر المتحفظ !وقبل ساعات من موعد استحقاق الشهادات الادخارية التي صدرت العام الماضي، أعلن أكبر بنكي حكوميين وهما الأهلي ومصر يوم الخميس عن طرح أوعية ادخارية جديدة بأعلى عائد على الإطلاق في تاريخ شهادات الاستثمار، وتبلغ 22.5% شهريا، أو 27% على أساس سنوي.
يقول الخبير الاقتصادي رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية لبي بي سي إن الحكومة المصرية مجبرة على هذه الخطوة لامتصاص السيولة النقدية الكبيرة التي ستنتج عن إرجاع قيمة الشهادات البنكية، ولكن في الوقت نفسه يرى أن تكلفة الفرصة البديلة لدى المصريين لا تصب في مصلحة شهادات الادخار مهما بلغ عائدها لأن نسب التضخم عالية.
ووصل معدل التضخم لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 36.5%، بحسب بيانات جهاز التعبئة العامة والإحصاء الحكومي.
ويضرب عبده مثلا بشخص أودع مبلغا ماليا بفائدة 27% وفق الشهادات الجديدة وفي نهاية المدة وصلت نسبة التضخم إلى 40% والفرق بين الاثنين يشير إلى خسارة 13% من قيمة أمواله.
غير أن رئيس المنتدى الاقتصادي المصري يشير إلى فئة من المستثمرين تعرف بالمستثمر المتحفظ، وهي نسبة لا يستهان بها من الناس تفضل تحييد عنصر المخاطرة وتستمر في وضعها في البنوك وهو ما يعرف بمبدأ "زيرو ريسك"، ولكن هناك قطاع من المستثمرين يفضل المخاطرة المحسوبة وهو ما يعرف بالمستثمر الرشيد الذي من الممكن أن يلجأ إلى الاستثمار في قطاعات الذهب والعقارات أو السيارات أو التجارة في العملات الأجنبية.
أزمة السيولةرئيس لجنة الخطة الموازنة في مجلس النواب المصري الدكتور فخري الفقي أكد في تصريحات صحفية سابقة على أن الحكومة المصرية اختارت "الطريق الصحيح" للتعامل مع أزمات التضخم والسيولة من خلال التوسع في المشاريع القومية وخلق المزيد من فرص العمل والتدوير للأموال داخل هذه المشاريع العملاقة التي من المفترض أن تدر دخلا كبيرا على المصريين في المستقبل.
وأوضح الفقي خلال لقاء تلفزيوني مطلع العام الجديد أن الاستثمارات الضخمة التي تمت خلال العشر سنوات الماضية بكل المجالات وخاصة البنية التحتية والبعد الاجتماعي، جعلت الاقتصاد المصري أكثر صلابة وتحمل، وجعلت مصر قادرة على مواجهة التحديات والأزمات.
مشيرا إلى أن الحكومة ربما لا تلجأ وفق ما يثار داخل وسائل الإعلام وأحاديث العامة إلى خفض جديد بصورته المعتادة لقيمة العملة المحلية، ولكن من خلال ربط الجنيه بسلة من العملات الأخرى من بينها اليورو والروبل الروسي واليوان الصيني إلى جانب أسعار الذهب عالميا، وهي الآلية التي يتم العمل عليها حاليا بين الحكومة والبنك المركزي المصري.
رفع الأسعار ضد المنطقويقول الدكتور عبد النبي عبد الطلب أستاذ الاقتصاد السياسي بعدة جامعات المصرية إن الحكومة تخالف المنطق برفع سلع خدمات رئيسية قد تصل إلى نحو 30%، لأن رفع الأسعار سوف يؤدي حتما إلى زيادة نسب التضخم الأساسي كما تشير قواعد الاقتصاد، غير أنها تناور من جهة أخرى برفع سعر الفائدة على الودائع الادخارية في محاولة لإقناع بعثة المراجعة التابعة لصندوق النقد الدولي بأنها قادرة على السيطرة على التضخم.
وقال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي منذ أيام إن الحكومة رفعت أسعار الكهرباء لتقليص خسائر القطاع لتصل إلى 75 مليار جنيه من 90 مليار جنيه، مضيفا أن الوقود المشغل لكل محطات الكهرباء يتم شراؤه بالدولار وزادت تكلفته على الدولة.
كانت مصر قد حصلت على الشريحة الأولى في مطلع عام 2023 من قرض صندوق النقد بقيمة 3 مليارات دولار أمريكي يسدد على 46 شهرا مع تسهيلات ائتمانية دولية أخرى بقيمة تصل إلى 14 مليار دولار، لتضاف إلى حزم تمويلية أخرى من الصندوق بلغت قيمتها نحو 12 مليار دولار أمريكي.
ولكن تبقى المعضلة الكبرى كما يقول دكتور عبد المطلب في إقناع المستثمرين بشراء ما تطرحه من شركات مملوكة للدولة أو لجهات سيادية، على ضوء تقارير تشير إلى أن خروج الدولة من هذه الاستثمارات قد يؤدي إلى عدم تحقيقها أرباحا كالتي تحققها حاليا، لأن غالبية هذه الشركات أو المشروعات التي تتبع الجهات السيادية أو الحكومية قد تحصل على مميزات تفضيلية تتعلق بالضرائب والعمالة ومساندة الحكومة لها، وهو ما مثل إشكالية جديدة في المراجعة التي من المفترض أن تقوم بها بعثة صندوق النقد الدولي خلال الفترة القليلة المقبلة، على حد قوله .
لا بديل عن تحريك سعر الصرفالحديث عن خفض جديد في قيمة الجنيه المصري محور اهتمام أغلب المصريين حاليا، يتوقع مراقبون إقدام الحكومة على تعويم جديد للجنيه مقابل العملات الأجنبية هو الثالث من نوعه خلال عام ونصف ليفقد الجنيه مجددا وفق أكثر المتفائلين نحو 45% من قيمته الحالية، حيث يبلغ سعره داخل سوق الصرف الرسمية أقل من 31 جنيه مقابل الدولار الواحد، بينما يصل في السوق الموزاية او ما تعرف بالسوق السوداء نحو 53 جنيها مقابل الدولار الواحد.
ويرى مراقبون أنه لا بديل عن تحريك سعر الصرف بالتوازي مع إطلاق مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي، لإجراء المراجعتين المتأخرتين منذ مارس/آذار الماضي لخطط إعادة هيكلة الاقتصاد، والتي ربما يتم خلالها الحصول على حزمة تمويل جديدة وفق تصريحات جهاد أزعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، والذي أكد أنه سيتم إعادة تنشيط الحوار مع مصر خلال الأسابيع المقبلة، ويتم التحضير للمراجعتين المتأخرتين.
أزعور أكد في تصريحاته أن الاقتصاد والمالية المصرية لديهما قدرة عالية على الوفاء بالديون عالية، مشددا على أن الوضع المالي المصري والاحتياطيات الائتمانية مازالت جيدة.
رؤية متفائلةويقول الدكتور رشاد عبده رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية إن الحكومة المصرية لديها التزامات مالية خلال العام الحالي 2024 تصل إلى 24.6 مليار دولار أقساط ديون وفوائد مالية، من بينها 6.7 مليار دولار لصندوق النقد الدولي، وهو ما يضع عليها المزيد من الأعباء بشأن التوسع في طرح بعض المشاريع الاقتصادية الرابحة وبعض الأصول للاستثمار من جانب الصناديق السيادية الأجنبية/ مشيرا إلى أنه لا بديل عن العمل والاعتماد على الكفاءات في إدارة الملف الاقتصادي، ومحاربة الفساد.
والحل من وجهة نظر عبده يكمن في سن المزيد من التشريعات والإجراءات الحكومية لتيسير مهمة المستثمرين المحليين والأجانب، وتوحيد سعر الصرف حتى يتمكن المستثمر من حساب تكاليف الربح والخسارة ومستلزمات الإنتاج التي غالبا ما يتم استيرادها من الخارج بالدولار والعملات الأجنبية.