مكتبة إيلاف

ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
استفتاء إيلاف الشعري

ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء؟ (1)

عبدالقادر الجنابي: الشِعرُ، في خريف اللغة، يلمحهُ عابرٌ لحظةَ سقوط ورقةٍ من شجرةٍ جالسٌ عندها، يسرقهُ آخرُ من وقع عكاز الأعمى، يكتبه صحافيٌ شعارَ معركةٍ. الشعر، "أكثر المشاغل براءةً"، تبعثر مضيء عبر لافتة الزمن... غالبا ما يتراءى على ملصق إعلاني، وسط عواصف المفردات، في دفتر يوميات مراهقةٍ تبدأ حياتـَها على فراش.

مُـنبعثًا من رحم تجربة فردية محضة، الشعرُ، في كلّ قراءة، تجربةٌ أُخرى... هناك من يريد قصيدتَهُ أن تنطقَ رفضَه، وهناك من يريدها علامةَ إنجاز حياتي، وما يلبث أن يشعر بعجزها - بلا جدواه... الشعر: كلُّ هذا وليس.

لكل زمن شعر، للشعر كل الأزمنة. فـ"ماهية الشعر"، والكلام هنا لهايدغر في معرض حديثه عن هولدرلن، "ماهية تاريخية في أعلى مراتبها، لأنها ارهاص بزمان تاريخي، ولكن باعتبارها ماهية تاريخية، نراها هي الماهية الأصيلة الوحيدة".

من هنا تنبثق أهمية هذا التساؤل الهولدرليني: ذلك أن "ما جدوى الشعراء..." هو أيضا سؤال في معنى الشعر وجدواه في زمن شحاحٍ إيقاعيا، حياتيا، روحيا ووو.....

إن كلمة duuml;rftig ، كما أشار المترجم الفرنسي*، لا يمكن رصدها بكلمة واحدة، فهي، في آن: نزر/ نزارة، شحّ، قليل، ضحل، واه، ضعيف، فقير، بائس... باختصار ضرّاء أي نقص: ما جدوى الشعراء في زمان الضراء؟ لكن الفيلسوف عثمان أمين، الذي أعتمدنا ترجمته للقطعة السابعة من رائعة هولدرلن "الخبز والنبيذ"،، ليس فقط لضرورة إيقاعية، أضاف البأساء، وإنما ليغطي المعاني الضمنية:

"ولكن أيّها الصديق، لقد جئنا بعد فوات الأوان متأخرين
صحيح أنّ الأرباب يحيون؛
ولكن فوق رؤوسنا، في عالم آخر
بلا نهاية هنالك يعملون ويلوح أنّهم لا يبالون
بحياتنا إلاّ قليلاً، من فرط عنايتهم بنا.
لأنّ وعاء هشّاً سريع العطب
لا يستطيع أن يحتويهم دائماً.
في لحظات وجيزة من الزمان
يتحمّل الإنسان عبء الوجود الربّاني.
والحياة ما هي إلاّ حلم من أحلام هذه اللحظات.
ولكنّ الجنون، كسِنة من النوم، عون لنا؛
وإنّما في الشدائد والليلة الظلماء قوّة.
فإلى أن يحين وقت يشبّ فيه من المهد الحديدي أبطال
تكون لهم كما في الزمن الغابر قلوب قويّة كقلوب الأرباب
ثم يجيئون تسبقهم الوعود والبروق،
إلى أنْ يحين ذلك اليوم كثيراً ما يخيّل إليّ
أنّ النوم خير لنا من أن نكون هكذا بغير رفاق.
أفأظل على هذه الحال؟ وماذا أعمل في الانتظار
وماذا أقول
لست أدري: وأسأل نفسي:
ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء؟
ولكنّك تقول: إنّهم مثل كهان ديونيزوس
يهيمون على وجوههم من بلد إلى بلد
في الليلة المقدسة."
(ترجمها عثمان أمين)

والآن اليكم أجوبة: باسم النبريص/ صلاح حسن/ جمال بدومة/ عبدالكريم كاصد/ محمود عبدالغني وإبراهيم نصر الله

باسم النبريص:
بعيداً عن لغة المجاز في الشعر، والتي نحترمها بالطبع، أقول : جيد أن يهيموا، من بلد إلى بلد، على وجوههم وعلى قلوبهم وأرجلهم أيضاً. وبالأخصّ، إذا ضاقت الدنيا، وتشابهت التعاسة البشرية، في كل البلدان والأزمان. لكن بشرط ألا يتخلّوا عن سؤال الجدوى، وألا يدخلوا في عماء قبض الريح. فإن لم يكن هذا متاحاً ومقدوراً عليه داخل القصيدة [ بما هي كيمياء سوداء غالباً _ لأنها شفافة وصادقة ] فهو متاح، ويجب أن يكون كذلك، بوصف كاتبها مثقفاً. فإذا وصلنا إلى هذه المنطقة، يتوجّب علينا طرح السؤال التالي : ما هو واجب الشاعر، وما هو دوره، كمثقف، وحامل وعي شقي، على الأرجح ؟
أعتقد، شخصياً، أن الأدوار، وفي العمق منها، تتشابه أيضاً، رغم اختلاف المستوى الحضاري، من بلدٍ إلى بلد. فالشاعر مثقفاً، له دور وواجب، مثلاً: ألا يكون شاهدَ زورٍ على عصره. أن يحرس كينونة شعبه الروحية، وأن يدرأ الفساد عنها، ويدفع باتجاه تطويرها وفتحها على المشترك الإنساني.
ولا أريد الاسترسال في التعداد، فقط أعود إلى مقولة )الحق والخير والجمال (، الإغريقية. وأطالب بنفض التراب عنها، وإعادة إحيائها وتوقيرها. فمنها، يستمد الشاعر بوصفه مثقفاً، جدواه ومعناه. وخارجها، حتماً سيضيع ويميع!
هذا في العموم. وأما في الخصوص، فنعود إلى واقعنا: واقع العالم العربي المتخلّف. حيث يتبع الشاعرُ، شاعراً ومثقفاً، السياسيَّ، فتراه يطبّل له تارةً، ويحرد منه أخرى. وفي كلتا الحالتين، يخون دوره وواجبه، وبالتالي: معناه وجدواه ومبناه كذلك. ولعلّ هذا النمط من الشعراء، هو الأكثر شيوعاً بيننا. وهو المثال الرديء، الذي يتوجب علينا محاربته، وفضحه، وفي الأقلّ : تعكير صفو عيشه. كي لا يكون قدوة لغيره، وكي لا يسير على نهجه من يأتي بعده من الشعراء. أما في الجانب الآخر، فثمة الشعراء الصعاليك، بالمعنى النبيل للمفردة، فهم الجانب المضيء من الصورة. الجانب المضيء، لأنهم قلّة، وخارج السياق والسرب.
وأني لعلى يقين، بأن السياسي العربي، وتابعه المثقف، معنيّان، بخلط كل الأوراق، والتضييق على الشعراء، وإيصالهم إلى حالة من البوار السياسي والاقتصادي والثقافي، تُحيل في النتيجة، وبالضرورة، إلى إحساس الشاعر الوبيل بعبث الحياة والوجود، من حوله. ما يقتل سؤال الجدوى والمعنى، لديه. وهو الأمر الذي نراه كل يوم، في تفاصيل حياتنا الواقعية. فالشاعر القانط السوداوي المحبط، المنعزل، القابض على لا جدوى وجوده، والواصل إلى جدار التشاؤم الأخير، هو ما تريده بالضبط السلطة. كي يخلو الجو لطبّاليها وماسحي جوخها. لذا، لا بد من التذكير، بجدوى المثقف في الشاعر، وبحقه في أن يقول كلمته، نثراً، إن تعذّر قولها في الشعر!
كلا يا هولدرلين!
مطلوب أن يكون للشعراء، كلمة وشهادة وموقف، وبالذات، في زمن البأساء والضراء!

***


صلاح حسن

شخصيا.. انا هائم منذ اكتشفت ماهية الشعر وحتى هذه اللحظة. ان الاجابة عن هذا السؤال تتطلب الخوض في اكثر الامور حميمية وسرية. ايام الحرب العراقية - الايرانية وصل اليأس بي الى درجة لم يعد ينفع بها أي علاج، وكشاعر قررت ان اسير على هدي مقولة (قلها ومت) وبدأت اكتب نصوصا ضد الموت وصانعيه قادتني في النهاية الى سجون ومنافي وحكم بالاعدام. لحسن الحظ انني لم اجن كما حدث مع هولدرين حينما حاصرته البأساء والضراء، ولكنني اصبت بجراح نفسية كثيرة وصلت حد المرض النفسي وترتب عليها الكثير من الخسارات والفقدان. فقدان الاصدقاء والاهل واخرها فقدان الزوجة والاطفال واخشى ان يكون الوطن في عداد الخسارات القادمة.
زمني كفرد وشاعر هو زمن بأساءات وضراءات بأمتياز.. فقد تشكل وعيي في زمن الحرب ومازال يتشكل تحت غبارها، واذا كان هولدرين يصف الشعراء بكهان ديونزيوس التائهين في الليلة المقدسة فأنا اصفهم اليوم (الشعراء الحقيقيين فقط) بأنهم الاشخاص الباحثين عن الخيط الاسود في حزمة الضوء. جدواهم كشعراء كتابة تاريخ الالم وتعرية صانعي البأساء والضراء كما فعل صاحب مقولة (ما يبقى يؤسسه الشعراء) وتقديمهم الى هذا العالم الذي يكاد يغرق ببؤسه وضرائه كوحوش كاسرة يبنغي التصدي لهم بحزم.
لقد تعلمت اوربا من شعرائها اكثر مما تعلمت من فلاسفتها وساستها. اما نحن العرب فماذا فعلنا بشعرائنا ؟ هل نحتاج الى اجابة ؟! اكثر الشعراء العرب الجيدين يعيشون خارج اوطانهم وخارج ما يسمى بالعالم العربي مما يجعل هذا العالم عالم بأساء وضراء بأمتياز كامل. وبالاضافة الى هذا النفي الاجباري او الاختياري فأن هؤلاء الشعراء مهددون بتمزق الهوية اخر الدفاعات التي تجعلهم يشعرون بوجودهم. ولان زمن البأساء والضراء يمتد ويتسع يوما بعد اخر ويكاد يصل الى مخيلتنا... فاليوم خمر وغدا امر.

***

جمال بدومة: كهربائي الأرواح

الشعر طفل يجري ويلعب ويضحك، والحديث عنه رجل بشارب معقوف وبذلة سخيفة ونظارات طبية سميكة.
الشعر كلمات وأصوات وألوان. تتصافح وتتعانق. تتراشق وتتشاجر. تتشابك وتتضاجع ويغتصب بعضها البعض.
الشعر غير مرتبط بخراب العالم، لأنه -أصلا- خراب داخليّ. شهادة على حرب أهلية في رأسك. محضر شفّاف لحوادث سير خطيرة في أحشائك. ومثل كل الأشياء الثمينة، عندما تلمسه تفسده. لن أستطيع أن أتكلّم نيابة عنه، مهما حاولت. إنه حصتي من الصمت: جلسة على تيراس مقهى بعيد، أتبادل فيها الحديث مع نفسي في مواضيع تخصّنا نحن الاثنين فقط.
-
كان هنري ميشو يشكّ في قيمة ما يكتبه كلّما أخبره الناشر أنّ مبيعات ديوانه تجاوزت خمسمائة نسخة. وكثير من الشعراء احتاجوا موتا مزدوجا كي تخرج أعمالهم إلى الشمْس: موتهم الشخصي وموت العصر الذي عاشوا فيه. وعبقرية الحركة السوريالية، أنها استطاعت تحويل شعراء منسيين إلى أساطير أدبية معاصرة، أليس بروتون وأصدقاؤه من أعادوا اكتشاف رامبو ولوتريامون؟
-
الشاعر كهربائيّ بعثته شركة مجهولة ليصْلح أرْواحنا المعطّلة: ألا تشتعل روحك عندما تقرأ قصيدة جميلة؟
هناك، طبعا، من يفضّل الظلام ولا تحتاج روحه أيّ إصْلاح، وهناك من تكسّرت مصابيحه واحترقت روحه منذ زمن سحيق. الشاعر الحقيقي لا يهتم بهؤلاء. يعرف أنّ ثمة "أقليّة هائلة"-هكذا سمّى أوكتافيو باث قرّاء الشعر- تنتظره. لا يهم أين ومتى: صيف العام القادم أو شتاء القرن الحادي والثلاثين. أواسط الخريف أو مساء الجمعة الثاني من الألفية الأخيرة. في غرفة على السطح أو جنب شجرة صنوبر. في محطة قطار أو تحت عمود كهرباء. في السرّاء أوفي البأساء والضراء... لا فرق. الشعر مسألة شخصية ومصير فردي وتعاقد مع التاريخ. والشاعر يشبه مفقودا في جزيرة، يضع قصيدته في قنّينة ويرميها في البحر.


****
عبدالكريم كاصد: جدوى الشعر

لديّ كتاب الآن تحت الطبع هو مجموعة شعرية مترجمة بعنوان (نكهة الجبل) لشاعر يابانيّ جوال يعتبره البعض أفضل شاعر يابانيّ معاصر، هذا الشاعر يفضّل أن يكون شحاذاً ينشد(السوترا) أمام الأبواب على أن يكون ممتهناً لأحدٍ.
نموذجٌ نادرٌ لا أريد أن أحرج به شعراء لا يعنيهم من الشعر غير وسائله في الوصول.. إلى ماذا ؟.
يسأل أبو نواس جراء محبته الغامرة للخمرة : ليت شعري ماذا ترى يشتري بائع الخمر ؟ وأنا بدوري أسأل جرّاء محبتي الغامرة للشعر : ليت شعري ماذا ترى يبتغي الشاعر غير الشعر ؟
ولكن ما أكثر الشعراء وما اقلّ الشعر !
ما أكثر الوسائل وما أقلّ الغايات !
ثلاثون عاماً ونحن نضرب في التيه هائمين من مدينةٍ إلى مدينةٍ، نجرّ وراءنا زوجاتٍ وأطفالاً، وندفن موتانا، على عجلٍ، في الطريق، لا فسحة لنا حتى لأحزاننا لأنّ علينا أن نفكر في الغد كيف نعيل أفواهاً بقيت.
ورغم ذلك
ثمة شعراء، على امتداد الوطن العربيّ الكبير، لم يروا حجم هذه المأساة، ولن يروها حتى لو أتيتهم بأكبر المجاهر لرؤيتها. ومن بينهم شعراء كبار (يسمون هكذا)، موظفون لا نظير لهم في ثوريتهم، وتعاطفهم، وحداثتهم التي لا تنازعها حداثة أخرى أبداً، بل وأصوليتهم، ومغرمون بالطغاة. شعراء حقّا ولكنهم دون روح.
لكنْ
هل هذا يعني أن هولدرلين كان على خطأ، وهو الشاعر الذي عاش موظفاً هامشيا ً: معلم صبيان،وجوّالاً كشاعرنا الياباني من مدينة إلى أخرى ماشياً على قدميه، باحثا عن وظيفة معلم صبيان أخرى ، ولعل الراحة الوحيدة التي نالها في حياته هي جنونه المبكر، كارهاً السلطة ممثلة بالكنيسة، والشعراء الذين يرتبطون بها، ممجدا الحياة بنبرة إنسانية.. أين هي من شعرنا المصنوع ؟
سأسأل ثانية : أ كان بمقدور شاعرٍكهولدرلين أن يتحمل كل هذه المأساة، مأساته ومأساة العالم من حوله وهو يشهد خيبته من الثورات ولاسيما الثورة الفرنسية، لو لم يكن ثمّة جدوى للشعر ؟


*****

محمود عبد الغني: القلم يقطر دما

لا يوجد زر أسكت به نفسي. حتى لا أقول ما لم أجرؤ على قوله يوما. الشاعر الذي يملك عينا ثالثة، أذنا ثالثة، حواس كثيرة..تفوق المائة(الشيء الذي يجعله خبيرا بهذا العالم)، والذي كانت قصائده تصل إلى أبعد نقطة، إلى أبعد إنسان، كأنه مزمار إلهي، تجده اليوم يهمس، يهجو المدن. و كالمنتحر يعاني من " خسارة الدنيا و الآخرة". البأساء والضراء تدفع الشاعر إلى سد فمه بتراب الأرض. و لأن الشعر يحتوي على تقاليد صوفية، فإن متابعة السير واجب شعري(ديني؟).
الشعر موجود من أجل الشعراء. مثلما الأوطان موجودة من أجل المواطنين. ثمة شيء ناقص ينتظر الشاعر ظهوره، مثلما تنتظر بعض الأقوام الحرف الناقص في أبجديتها. لكن كيف الانتظار في بلدان وأوطان مضطهدة،مستضعفة،مستغباة، معاقة من التقدم؟هل أوطاننا ستستمر في الوجود لعقود قادمة؟ هل لغتنا ستبقى؟ هل سنصعد العقبات ونحن نغني وندخن؟ أم أن واجبات الإنسان المستقبلية هي تدمير الحضارة، والتضحية، والاقتتال، لمجرد أن قدرا أعلى يريد ذلك؟ ها هو ذا الرعب يتسرب إلى أعضائنا، رعب نفسي، رغم أن الثقافات التقليدية عانت من رعب أفظع وأشد وطأة. لكن ما يميزنا اليوم هو أن أهدافنا متضادة. والهجانة الكبيرة تحيط بنا.
الشاعر هو نموذج العقل المحاصر. نموذج المكابدة المحيرة. انضاف إلى فقراء العالم الذين لا يعاملون قوانين العالم باحترام.(مؤخرا هجم فقراء إفريقيا على البلد الغني إسبانيا مرورا من المغرب. وهو شيء سيتكرر في المستقبل بصورة أشد)، والدولة الحديثة لم تعد صغيرة بحيث لم تعد تتغلب على المشاكل الكبيرة، بل هي كبيرة بحيث لم تعد تتغلب على المشاكل الصغيرة. والشاعر يعتبر أن هذا هو عين السراء والضراء. سأضغط على الزر لأقف هنا لأن القلم بدأ يقطر دما بدلا من الحبر.

***

إبراهيم نصر الله: عن المسافة بين اليد والحلم
بين الشعر والحياة

لسيت المسألة قائمة في سؤال ما جدوى الشعراء؟ لأن الشعراء ليسوا فصيلة من كائنات يفضل إنقراضها أو عكسه، ولأن السؤال بصيغته الحالية سيؤدي بنا للوصول إلى سؤال: ما جدوى الإنسان؟
ولذلك سأحاول التخفيف من هذه الحدّة كما لو أن السؤال هو: ما جدوى الشعر؟
منذ سنوات - يمكن القول طويلة - والحياة الثقافية العربية تعيش في طقس من الندب لا ينتهي، وهي تتحلق حول جثة (الشعر العربي). ولإحساس الجميع بأن (الميت) كان يحتل مكانة على غاية من الأهمية، فإن (حفلة الندب) ما تزال قائمة، بحيث لم يفقد كثير من المفجوعين بالفقيد حرارة بكائهم.
لكن تأكيد هذه الصورة، أو نفيها، يحمل المعنى ذاته. فالذي يؤكد أن الشعر مات ينأى بنفسه بعيدا، بطريقة غير مباشرة، وينأى بشعره، ويبدو وكأنه الحي الوحيد في مدينة الأشباح. والذي ينفيها، ينأى بشعره أولاً، بطريقة غير مباشرة أيضا، ويبدو أنه سيد الأحياء.
كيف يمكن أن ننفي هنا.. كيف يمكن أن نؤكد؟
هذا هو السؤال.
لكن الفرار من سوداوية الحالة، ليس هو الحل الأمثل.
إذا ما حاولنا التحديق في المسيرة الإنسانية، فإن ما يمكن أن نراه بسهولة، هو أن عمرها الذي يمكن إن يحسب هنا بالقرون، ليس زاخرا بالشعر في كل لحظة من لحظاته، فثمة مناطق معتمة، كالثقوب السوداء في الفضاء، لا نعرف عنها شيئاً ولم تحمل لنا برعماً واحداً، والحياة العربية عاشت مثل هذه الحالة، وتصحَّرت الروح تماماً لفترات طويلة، وكان انخفاض منسوب الشعر قد وصل إلى أدنى درجاته.
من مات أولاً.. الشعر.. أم الروح؟
هذا هو السؤال.
لقد عانى البشر في تاريخهم، وعصفت بهم حروب وأوبئة، مجاعات، وزلازل كوارث سمعنا عنها، وكوارث لم ينج أحد ليقول لنا ما حدث تماما، حتى باتت كلمة شعر وسط ذلك كله، ترفاً مبالغاً فيه. ولكن من رمم ذلك المشهد كله، ومن وضع اللبنة الأولى، مُعْلناً انتماء الحياة للضوء لا للظلمات.
اليدُ أم القصيدة؟
هذا هو السؤال.
لم يتجاوز عمره خمسين سنة بكثير حتى الآن، ولكنه استطاع أن يقدم خلال عقوده الخمسة هذه، إنجازات لم تعد خافية، حتى لقد تكرر الحديث عن المستوى الذي بلغه الشعر العربي الحديث، مما كَّرسه نموذجاً متقدماً لما بلغته القصيدة في العالم، بحيث يمكن القول الآن: إن لدينا مخزونا شعريا هائلاً، يمكننا العودة إليه متى شئنا ودراسته متى شئنا، واغتراف التنوع الإنساني والفني من أعماقه، والحياة على ضفاف ينابيعه إلى زمن طويل قادم. فهل استنفدنا هذا الشعر، قراءة ودراسة، حتى نعلن انتهاءه، أم أننا انتهينا قبل أن ينتهي بزمن طويل، وهل كانت قدرة هذا الشعر على حَرْق المراحل والتجاوز السريع لذاته في فترة زمنية محدودة، وطرح ثماره الكبيرة جزءاً من الحس العام بأنه لن يعطي أكثر مما أعطى، وان الشعرية العربية غدت بلا رحم، وغير قادرة على إبداع ما هو أبدع مما أبدعته. وان لا مكان سوى للنهاية في هذا المشهد الواسع، وكيف لا يخطر بالبال أن يأتي، أو أن يواصل أحدهم هذا الطريق، متكئا بكامل روحه المبدعة على ما أُبدعَ، ليقدم ما هو أًبدع؟
هذا هو السؤال.
ونسأل، هل ثمة فرصة يمكن أن تلوح لهذه الأجيال المحترقة بناء غربتها وهزائمها هذه الأجيال الجديدة التي يلوح تشكّلها، وتتبرعم أزهار أو أشواك تجارب روحها المطعونة بالتهميش والتغيب، وعدم القدرة على التفوه بما في فمها من كلام، وقد حُشيَ بما لا تريد أن تقوله أو تسمعه أو تغنيه. هل ثمة فرصة تشبهها حقيقة، كما كانت هناك فرصة وزمن يشبه القصائد التي كتبها الرواد، بحيث أصبحت قصائدهم هي الزمن ذاته، وأحلامها هي وقْعُ وحنين البشر، حيث كانوا يملكون الأحلام والحنين وغير معنيين بطول المسافة بين الحلم واليد، والزهرة وأريجها؟!
ومن يستطيع الجزم، بمنطق يأسه أو جبروته، أن الحياة لن تنجب شعراء بعد الآن، وأن البشر لن يحموا قصائدهم التي لم تكتب كما يحمون أحلامهم التي لم تتحقق، ولسنا الأمة التي حققت كل أحلامها لنصل إلى نتيجة أنها ستتجاوز دون رجعة الشعر بما يعنيه من قيم كبرى، وهل يمكن أن يصبح الشعر ذكرى، مجرد ذكرى كأيام الجوع أو الحب الأول؟
هذا هو السؤال.
يحير إذن، هذا الاصرار على الإجابة، خاصة ونحن في منتصف أو قلب المشهد المأساوي لانكسارنا المتسارع.
لقد تكررت الجملة المتعلقة بتوقف الرواد وكثير ممن جاؤوا بعدهم، برحيلهم، أو بتوقفهم، إلى درجة لم يعد ثمة خجل من تكرارها مرة أخرى. ولكن ماذا عن شعر السبعينات والثمانينات، سواء ذاك الذي كتبه شعراء الستينات أو شعراء العقدين التاليين. هل ثمة إجابة نقدية حقيقية حول ما كتب خلال ثلاثين عاماً، وهي أكثر من نصف عمر الشعر الحديث. هل هنالك كتابٌ يدرسُ تجربة شاعر مهم لا خلاف عليه، تُرضي القارئ وترضي الشعر. هل هنالك دراسة حول حساسية القصيدة في هذه الفترة، لغتها، مشاغلها، طموحها، وما وصل إليه هذا الطموح. هل هناك دراسة لأثر الرواد فيمن جاء بعدهم من شعراء، وهل هناك دراسة أكثر جرأة في تأثر شعراء كبار بشعراء ليسوا نجوماً، وثمة شواهد كثيرة؟! ولماذا لم نبدأ بسماع الأصداء الأولى للبكاء المر إلا بعد مرحلة بيروت، وبدأنا بسماعه بوضوح أكبر خلال (الانتفاضة) حيث تصاعد الحس بالعجز، وبدا وكأن القصيدة وحدها هي المقصِّرة في مد يد العون للشهداء، فحُمّلتْ ما حُمِّلت من مسؤولية، وإذا بها في الحالتين متهمة: حالة الانكسار وحالة الانتصار الجريح. ولماذا لم تبلغ الحفلة ذروتها إلا بعد حرب الخليج و(سلام الشجعان).
فمن قضى أولاً نحن أم الشعر؟
هذا هو السؤال.
ونستعرض المشهد الثقافي على المستوى الفكري وعلى المستوى الإبداعي، فنسأل ما الذي لم يمت بعد، هل ثمة حزب لم يزل على قيد الحياة تماماً، هل ثمة فكرة واحدة يمكن التحدث فيها، أو رفعها عالياً دون أن يتبعها مئات الصبية بحجارتهم وأواني التنك وهم يعلنون جنونها، هل ثمة كيان يمكن القول إنه معافى، وهل ثمة إنسان عربي يمكن أن يواجه ذاته دون خجل؟
فما ومَن الذي لم ينهزم بعد؟
هذا هو السؤال.
والشعر أقرب كائنات الروح إلى الروح، وأكثر نقاطها حساسية وألفة، وفي تحولات كبرى كهذه، تُصاب المناطق الأكثر أهمية وحساسية وحيوية، وما حدث أن الشعر هو أرق وأهم مناطق الروح، وعمودها الفقري، الذي حين أصبنا، أصيب، وأصيبت الروح في عمق تطلعها لكل ما هو جميل وطيب وحر.
هل نشيع الروح هنا إذن أم نواصل القول: إننا نشيع الشعر؟
هذا هو السؤال.
ثم أن بشراً بهذا الانكسار، أين يمكن أن يبحثوا عن وردة في خرابهم، كي يصرخوا فجأة: إننا أحياء. وهل ثمة جيل يمكن أن نطلق عليه صفة الجيل، والأجيال كلها خُفِقَتْ جيداً في عصارة كهربائية هائلة؛ بحيث وصلنا إلى مرحلة ليس فيها سوى هذا الكوكتيل سيئ المذاق. ليس ثمة أجيال في هذه اللحظة، ليس ثمة ملامح واضحة، تعلن انتماء صاحبها لفئة عمرية محددة. وهل يمكن القول إن ثمة حكمة لم تزل في الشيوخ، وبسالة لم تزل في الشباب (غير أولئك الذين هناك، في ساحات استشهادهم)؟ بحيث يمكن أن نقول: إن بإمكاننا أن نرى جمالاً وسط هذا البؤس؟
هذا هو السؤال.
هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟
: نعم
ولكن هل مات الشعر تماماً.
: لا
كل ما في (حولنا) العربي، يؤكد موتا سريريا من نوع ما، لكن ثمة شيئاً هناك في الأعماق السحيقة يرفض الموت. هكذا يأتي hellip; هكذا يأتون hellip; هكذا يُكتب وهكذا يتطلعون لذلك الشيء الغالي البعيد، الذي يحسونه ولا يستطيعون تفسيره، ويحلمونه ولا يستطيعون القبض عليه. ذلك الجوهري فيهم، الذي هو بذرة الحياة وشمسها الخجولة. ذلك هو معنى الشعر الذي لن يصل إلى درجة الصفر أبداً.
قد يملك أحدنا إذن أن يعلن بالفم الملآن موت الحاضر؟ ولكن من يملك الجرأة واليقين الكامل ليعلن موت المستقبل؟
هذا هو الشعر.
وهذا هو السؤال.

***

وانقر هنا ماجدوى الشعراء: ثاني الأجوبة لقراءةأجوبة نصر جميل شعث/ باسم المرعبي/ إبراهيم المصري/ محمد جميل أحمد/ سلمان مصالحة/ عبدالله بحري/ شوقي مسلماني/ محمد حسنأحمد

وانقرماجدوى الشعراء: ثالث الأجوبة لقراءة أجوبة: غادا فؤاد السمان/ هاتف الجنابي/ / ميلود حميدة/ نصيف الناصري/ عبدالعظيم فنجان/ شربل بعيني

وانقرماجدوى الشعراء: خاتمة الأجوبة لقراءة أجوبة سعد جاسم / صبري يوسف/ عثمان حسين/ عابد اسماعيل/ محمد بسعود/ علاء الدين كاتبة/ خليل إبراهيم حسونة/ د. بهجت عباس


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف