عالم الأدب

عبورُ البشروش عبْرَ فضاءاتِ إسم الوَردة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

(2 / 3)

تأسيس وإلتباس:

نوهنا فيما مضى، بأن امبرتو إيكو أدخل قارئه إلى مكان وزمن رواية "إسم الوردة"، التاريخييْن، منذ مستهلها وبإشارته تحديداً إلى حكاية العثور على "مخطوط إدسو"؛ هذا المخطوط، المختلق بطبيعة الحال، والمفترض تقصيه ما جرى من أمور غريبة، غامضة، في دير للأخوة الفرنسيسكان؛ يُدعى "مالك"، في شبه الجزيرة الإيطالية، وفي حدود منتصف القرن الرابع عشر الميلادي (1). على المنوال ذاته، قدّم لنا المؤلف الشخصيتيْن الرئيستيْن في عمله؛ وهما الراهب الفتى "إدسو" ومعلمه المسن، المخضرم، "غوليامو"، إنطلاقاً من رحلة، مشتركة، جمعتهما في الطريق إلى ذلك الدير. الرواية / بزعم أنها مخطوط، مكتوبة بضمير المتكلم: بلسان إدسو، الذي يروي ما شهده شاباً من غرائب ومغامض ذلك الدير. إلا أنّ "بطل" تلك الحوادث، ما كان سوى غوليامو؛ هذا الرجل المكتهل ذو الأصل البريطاني، الغزير المعرفة والوفير التجارب، ومن سيكون منذ لحظة تعرفه بالراهب الفتى، خيرَ معلم له: " سأذكرُ فعلاً أنّ ذلك الرجل الغريب، كان يحمل معه في جرابه آلات لم أرها قط من قبل، وكان يعرّف على أنها آلاته العجيبة " (إسم الوردة: الصفحة 35). لقد سبق لنا، عند التطرق لموضوع المخطوط القديم، أن إعتبرناه شكلاً من " الحيل الفنية " للروائي، يستطيع عبره ولوج الزمن التاريخيّ، المطلوب. موضوع الرحلة، أيضاً، نعتبره كشكل آخر من خيارات الكاتب، الفنية. هذا الشكل، رأى النقد الحديث أنه الأكثر ملاءمة لـ "رواية المغامرة"، وبوصفها: "عذراً مفضلاً للمضمون، وهي تدخل ضمن ظروف التقنية الفنية"، بحسب تعبير تودوروف. (2)

سليم بركات في روايته هذه، " عبور البشروش "، إتبع سبيلاً اخر بخصوص بيئة الرواية (3). فأبطاله هنا، يتحركون في زمن راهن ٍ، ومكان مألوفٍ له شخصياً؛ أيْ قبرص، التي قضى فيها شطر غربته الأوفر. إلا أنّ المكان نفسه، كان يتحرك تحت أقدام أشخاص الرواية، تبعاً لإسراءات النص عبرَ أزمان ماضية، مختلفة. إنّ الراوي _ غير المنعوت إلا بصفته كـ " مهندس معماريّ " _ يقص علينا الأحداث بضمير المتكلم. منذ الصفحات الأولى لقصته، يُعطينا إشارات مبهمة عن شخص بلا رسم ولا كيان مسمياً إياه بـ " الغريب ". هذا الشخص، يتماهى بشكل أو بآخر مع شاب سيلتقي به الراوي للتو؛ وهو" جانو "، الذي يعمل معه في نفس المشروع. فيما بعد سترسمُ صديقتهما البريطانية، " جين "، ذلك الغريب على شكل ٍ: " فيه المزيج المُرهق من ملامحي وملامح جانو " (عبور البشروش، الصفحة 191). وفضلاً عن زمالة الراوي لجانو هذا، فإنّ قاسماً آخر كان مشتركاً بينهما: الإنتماء القومي. ها نحن، إذاً، أمام شخصية تذكرنا بالمعلم غوليامو في " إسم الوردة "؛ وبصفة كونه " الرجل الغريب ". ثمة إشارة في النص، أوحى بها الراوي، تربط ُ إختياره لمهنة الهندسة المعمارية بعثوره وهو فتىً على (مخطوط قديم) في شؤون العمارة، حملَ هذا العنوان الغريب " التأسيس الكبير "؛ لمؤلف يُدعى " المارديني ". خيار المهنة، إذاً، سيوصل الراوي إلى الإتحاد السوفييتي، السابق، ليدرس في معاهد عاصمته العتيدة الهندسة المعمارية، حيث يلتقي هناك بشاعر كرديّ، إسمه " ميلان "؛ ثم ما عتم أن عثر ثانية عليه في مجاهل السرد، الراهنة، (في المكان القبرصيّ) بصفته غير المرئية، المُتقمصة. علاوة على أنّ عمل الراوي في ذلك الإختصاص الهندسيّ، سهل له الإلتقاء بصديق آخر، لا يقل إلتباساً في طبيعته البشرية _ أيْ: جانو _ سيشاركه مقدورَ الغربة وتفاصيلَ أقدار اخرى، منطلسة ومعمية. بين هذين الحدثيْن رحلة ٌ تحتمَ على كلا بطليْنا القيام بها: تمثلتْ بالعثور على مأوى لكل منهما، وبوصفهما لاجئيْن كردييْن، سياسييْن ؟، في حِمى الجزيرة القبرصية.

سبق لنا في مجتزأ هذه المقالة، الأول، أنْ أشرنا إلى حقيقة تسلسل جرائم " إسم الوردة " مع أيام الإسبوع بدءاً من بدايته كنسياً: الأحد؛ الجريمة رقم واحد..، الإثنين؛ الجريمة رقم إثنين.. الخ. من جهة اخرى، فلم يكن زمن الأحداث إلا تلك الأيام السبعة نفسها وفي رواية كبرى، تتجاوز صفحاتها الستمائة ومحتبية بين طياتها سجل حافل، هائل، من تواريخ وفلسفات وأفكار ورؤى. في رواية تسرسلُ بقول الماضي الغابر كمرجع لزمننا الراهن، وبناءً على ما سلف من إستدلال، قام مؤلفها بتبويب فصول روايته، (السبعة). إنّ فهرستَ الرواية، المُلحِقُ كل من تلك الفصول بعناوين رئيسة، متضمنة عناوينَ اخرى، فرعية، مع خلاصات لما يَستجدّ من جرائم وذيول لها؛ هكذا فهرست، ما كان له إلا أن ُيذكرنا بمثيله في الكتب الفلسفية والفكرية، الرصينة. كان من المفهوم، بناء على ما سلف، إهتمام كاتبنا الإيطالي في نصه هذا، بالشيفرات الثقافية. ذلك الأمر، يُحيل إلى مهنة امبرتو إيكو، الأساسية، كباحثٍ أكاديميّ، والتي إستفاد منها بتوجيهه قاريء روايته إلى الدلالات المركونة خلف معانيها؛ والتي سبق له أن أوضحها _ كأكاديميّ _ في إحدى أهم مؤلفاته النظرية، " دور القاريء " (4). من ناحية اخرى، فإسلوب " إسم الوردة " يذكر المرءَ بالقصص البوليسية؛ بتواتر فصولها مع الجريمة / الجرائم المُرتكبة وفق سياق الحكي السردي وكما نلاحظه، على سبيل المثال، في روايات الكاتبة أجاثا كريستي. لا يُنكر كاتبنا هذه الحقيقة، بل يؤكد عليها في إحدى حواراته، راوياً ما لاحظه المشرف على إطروحته الجامعية _ وكانت بعنوان " توما الأكويني "، والتي قدمها في صباه _ من أنه كتبها كما لو أنه يروي قصة بوليسية (5). بيد أنّ رواية إيكو هذه، كانت بطبيعة الحال أبعد بكثير من مجرد كونها " قصة بوليسية ". خاصة ً ما نعلمه من إستناد هذه الأخيرة، أساساً، على شخصية المحقق / البطل. فمحقق " إسم الوردة "، كان دوره ثانوياً جداً ولم يظهر على كل حال في السرد، إلا على أطراف خاتمته. كان مما له مغزاه حقاً، أن " يوكلَ " المؤلفُ مهمة التحقيق (الحقيقية) بشخص آخر؛ هو المعلم غوليامو نفسه. فهذا الرجلُ، بصفاته النادرة كعالم مجربٍ ومقتدر، كان مُقدراً له _ وفق خطة إيكو، الذكية، الصائبة _ أن يقود تلميذنا الشاب، ادسو (ومن خلاله، قاريء الرواية، لم لا ؟)، مرتبة ً فمرتبة خلال درجات المعرفة الكونية، المستحيلة الكليّة. هاهو المعلم يشرح لتلميذه دلالات عمارة الدير ونقوشه وزخارفه: " ومن لا يرى روعة إنسجام كل هذه الأرقام المقدسة التي يكشف كل منها معنىً روحياً في غاية من الدقة ! ثمانية هو رقم كمال كلّ مربع؛ أربعة هو عدد الأناجيل؛ خمسة عدد جهات العالم؛ وسبعة عدد هبات الروح القدس " (ص 40).

بخصوص المطابقات السالفة الذكر؛ فيما يتعلق بالأعداد ودلالاتها، يمكن لنا أن ندرجَ " عبور البشروش " على مدارج التصنيف نفسه، المفترض. بدءاً يجب التشديد على مسألة الفهارس والعناوين، في روايات بركات بشكل عام، والمشتركة فيما بينها بسمة الغرابة المستوفية شروط المتن؛ هذا المتن بلغته البليغة، الصعبة، الغنية بإستعاراتها وكناياتها وإيحاءاتها. هنا أيضاً، نجتاسُ فرضاً فصول الرواية، (الأربعة)، في إحالة لإشاراتٍ عن تلك الأعداد. ففي سياق السرد، يظهرُ دوماً أربعة أشخاص ذوو ملامح متشابهة، كأنهم صورٌ لشخص واحد: زيهم أخضر، شعورهم رمادية طويلة، على أعينهم اليمنى عصابات جلدية مع أنها سليمة، حناجرهم مثقوبة.. (ص 55). سنتدارك لاحقاً ما يحمّله الكاتب لأولئك الأشخاص وأشباههم من إحالة لرموز معينة، دينية كانت أم اسطورية. فما يهمنا الآن هو التأكيد مجدداً، ومن خلال شواهد النص، على أنّ هذا الرقم / 4، المُلغز، له إستدلال متوافق مع عدد فصول " عبور البشروش "، الأربعة. في موضع آخر من هذه الرواية، نقرأ ما يُشبه " تكراراً " لتشبيهات المعلم غوليامو، سالفة الذكر، المُقيلة ما أسماهُ الأرقامَ المقدسة ومعانيها الروحية: " أوراق رسمية ممهورة بختم اهليلجي يمثل مجازات الكون الأربعة: الفراغ، السكون، السديم والثقل " (ص 115). كذلك يُصادفنا هذا الرقم نفسه، في أحد إستعارات الكتاب والتي تتضمنها صورة خروف كان يخص إمراة، إسمها " وطفة "؛ بصفته كضحية لإحدى غارات الطائرات العراقية على قرى الأكراد؛ وبإيحاء ترميزه للسيد المسيح وكذلك للراوي وسلالته الذين: " بقوائم لا تحصى، أعلنوا القطيعة مع الخلود، ليعفوا أنفسهم من مجازات الإنسان الغارق في البحث عن حضوره الثاني " (ص 240). إستناداً لهذه الإستعارة، فإنّ تركيز الكاتب على قوائم الخروف التي " لا تحصى " _ وهي أربعة، على كل حال _ يُجيز لنا أنْ نحيله إلى أرض الكرد، المقسمة سياسياً إلى أربع كيانات، تابعة. أما بالنسبة لزمن الرواية، فثمة أكثر من إشارة فيها عن إمتداده على رقعة العقد من الأعوام، بدءاً بحلول الراوي في مهجره؛ جزيرة قبرص. فهو في حديثه عن الجريمة، يؤكد أنه لا يستطيع تقديم برهان على حصولها: " لا رائحة للجثة بعد تسع سنين " (ص 34). بيد أنّ تلك الفترة الزمنية، المذكورة، إنما هي إسترجاعٌ من لدن الراوي لكل ما حصل معه، مذ وطئت قدماه أرض الجزيرة القبرصية. فيما أنّ أسبوعاً واحداً حسب، حاسماً، كان مقدراً له تأطيرَ زمن " عبور البشروش "، الحقيقي؛ وهو الأسبوع الذي سبق إنهيار " المتحف ": أهو تقاطع آخر لنص بركات مع نص إيكو / القرين بزعمنا، أم الأمر محض إتفاق ؟

قلنا أنّ جغرافيّة " إسم الوردة "، كانت ضمن حدود دير لفرقة الفرنسيسكان، القائم في مكان ما من شبه الجزيرة الإيطالية. هذا الدير، كان يتشامخ بكتلته الصخرية الهائلة وسط خلاء مريع؛ اللهم إلا من وجودٍ قريب لقرية نائية، يقتات جياعها من بقايا أطعمة مطبخه العامر. كأني بهذا الدير العظيم صورة مصغرة عن العالم. ها هنا العمائرُ والمواضع المختلفة الإستعمال (وعددها يُحيلنا، كمدلول ربما، إلى فصول الكتاب السبعة)، تومي لمناحي الحياة كافة: فالكنيسة ُ، إيمانٌ وطقوس؛ المكتبة، معرفة ٌ وفنون؛ المختبرُ، علومٌ وإكتشافات وإختراعات؛ المبقلة، نشاط ٌ إقتصادي وإنتاج؛ المطبخ، حاجاتُ الجسد؛ المقبرة، مستقرٌ أخير للأجساد الفانية؛ المَعْظمة، خلودٌ مقنن. هي ذي، مجدداً، " سباعيّة " اخرى، ترمّزُ بتقديرنا لأيام الخلق السبعة؛ إنسجاماً مع إتجاهات هذه الرواية الفكرية والفلسفية. ومما له معناه، أيضاً، أن تكون كنوز الدنيا الغريبة العجيبة، محفوظة في خزائن اولئك الرهبان المعزولين في تلك البقعة القصية؛ وخاصة ً الأشياء النادرة، المقدسة، العائدة لزمن الرسالات السماوية، من وقت الطوفان إلى خاتمة الأنبياء: " لو كان الديرُ مرآة للعالم لوجدتَ الجواب.. كي تكون للعالم مرآة يجب أن يكون للعالم شكل " (ص 142). لا غرو، إذاً، أن يختار إيكو لأبطال عمله هكذا مكان منعزل ومتوحد، كيما يستنفضوه عن كثب تأثراً لخطى القاتل من جهة، وتوقاً وراء حقيقة العالم من جهة اخرى. ومما يدعو للحيرة، حقاً، أن يتواشج فعل الجريمة، في روايتنا هذه، مع فعل المعرفة. إلا أنّ حيرتنا ستتبدد لجهة ما أكد عليه النقد الجديد _ بإتجاهه البنيويّ خصوصاً _ من إرتباط فكرة الجريمة أدبياً بما دعاه " باختين "، في أبحاثه القيمة عن دستويفسكي، بـ " رواية المغامرة "؛ حيث تصبح الفكرة فيها برأي الباحث: " الكشف الأكثر عمقاً في حماسة الشخصية في الحياة " (6). وعلى هذا، كان على قاريء العمل حبس أنفاسه مع كل خطوة من سَيْر (التحقيق) الموكل للمعلم غوليامو بطلب من رئيس الدير. فهذه الجرائم الغامضة، التي هزت طمأنينة وسلام وهدوء الدير _ بشكلها الظاهر على الأقل _ ما كانت سوى صورة مصغرة (مرآة ؟) لصراعات اخرى، محتدمة في كل مكان خارج أسواره؛ صراعات مذهبية، دموية، قسّمتْ أوروبا إلى شيَع وفِرق متخاصمة، يؤججُ نارَها منازعاتُ المُلك بين السلطة الدينية للبابا والسلطة الزمنية للأباطرة.

المكان في " عبور البشروش "، مثلما أشرنا من قبل، غير ثابت فيها؛ اللهمّ إلا ما كان في صورته العريضة كمستقر راهن للشخصيات الرئيسة. وإذا نحينا جانباً تلك الإحالات الزمنية، المتنوّعة، إلى أمكنة اخرى على الوتيرة ذاتها من التنوّع؛ فجغرافية هذه الرواية محصورة ضمن حدود " نيقوسيا "، عاصمة الجزيرة القبرصية. رحلة الأبطال، إذاً، رستْ أخيراً في هذا المكان. بيْدَ أنّ مغامرة هؤلاء، كانت قد إستهلتْ منذئذٍ في الواقع (وفي الفانتاسيا، أيضاً، بشكل خاص)، رامية ً حيواتهم إلى مصائر غامضة، مجهولة. ثمة أمكنة ثابتة، أربع، في روايتنا وهي: المسكن، أينَ يقيم الراوي؛ المتحف، حيثُ يعمل؛ المطعم، مجمع الرفقة والغرباء؛ والقبة، بناء للتأمل المجرد. فإذا كانت أمكنة " إسم الوردة "، السبع، من واردات رمزيتها المفصحة عن عقيدة الخلق بأيامه السبعة، كما سلف وقلنا؛ فنحن هنا، في " عبور البشروش "، كما لو أننا أمام ما أسماه الراوي " مجازات الكون الأربعة " تماهياً مع التصوّرات الفلكيّة / المعمارية، التي تبوح بها صفحات الرواية جميعاً: " فتهشمت المجرات السبعة الحصينة، وتبادلت البروج المتناظرة في مستعمرة أيلول شهواتها الدائرية " (ص 89). إلا أنّ رواية بركات " تستعير " أحياناً دلالات الأمكنة من رواية إيكو؛ كما في رمز المطبخ (= المطعم)، إضافة لرمز المَعْظمَة التي نرى دلالة عليها في: " حدائق العظام، التي يتحدث عنها جانو، كما لو كانت أمامه " (ص 118).مسألة الزمن هنا، والمتحدد بأسبوع واحد سبق إنهيار المتحف؛ لا يعدُ عن كونه إلتباساً آخر في رواية بركات. فإذ رمّز إيكو أيام روايته، السبعة، وفقاً لعقيدة الخلق والتكوين، فإنه ربما غالى في عبث رمزيته المتعلقة بالمدة الزمنية نفسها. كذلك الأمر مع بركات، الممهل أبطاله أسبوعاً يتحركون خلاله قبيْل تداعي عمارتهم المرجوة (المتحف). هذه الرمزية هنا وهناك، تتطلب وقفة متأنية نوعاً. قلنا أنّ الدير في " إسم الوردة " هو، بمعنى ما، صورة للعالم. فإنهياره الناجم عن حريق متعمّد، نشب في المكتبة، كان من المفترض أن يستدعي إستدلالاً بيّناً عن يوم القيامة. غير أنّ حقيقة نجاة الراوي ومعلمه من بين النيران، مع العديد من الكتب المخطوطة، النادرة، ما كان له إلا أنْ يُبشر بسِفر آخر، جديد، لخلق الإنسان وتكوين العالم. فلا غرو أن يقول غوليامو أنّ الدير هو " عالم مصغر " (ص 219). علاوة على إشارة اخرى لغوليامو، بمناسبة شرحه نظام الإشارات لتلميذه ادسو: " وأنا أعلمك أن تقرأ الدلالات التي يكلمنا بها العالم، وكأنه كتاب مفتوح " (ص 41). إذا كان العالم " كتاباً مفتوحاً "، وفق ما سلف، ألا يعني ذلك أنّ إحتراق (الكتاب) المنشود الذي يُنسب لأرسطو، ضمن المكتبة التي أتت عليها النيران، ربما يكون صورة مجازية عن القيامة ؟ إذا جاز لنا تطبيق التصور نفسه، مع ما يمكن إستدراكه من دلالات " عبور البشروش "، في مسألة رمزية المكان تحديداً؛ سنرى ان تقاطع هذه الرواية الأخيرة مع سلفتها، متحققٌ هنا أيضاً. لابدّ قبل كل شيء، من إعادة صوغ الأبعاد الأربعة لرواية بركات؛ بما هي أمكنة / إشارات: المسكنُ، عالمُ الموجود؛ المطعم، عالمُ العبث؛ المتحفُ؛ عالمُ المعرفة؛ والقبة عالمٌ بديل. إنّ الجريمة، بوصفها واقعاً يتعايش معه الراوي مذ الأسطر الأولى لحكايته، قد أرتكبتْ في قبو المسكن الذي يعيش فيه. والمطعم، يتجلى عبثه في جلسات الراوي مع صديقه جانو، وكذلك مع فتاة بريطانية إسمها " جين ". وهذه الفتاة، بحرية علاقاتها مع شخصيات السرد، ربما تذكرنا بقرينتها؛ فتاة " إسم الوردة "، وعلاقاتها الجسدية مع أشخاص متعددين؛ ولو أنها مُجبرة هنا، بحكم الجوع (= المطبخ، كمكان لتلك العلاقات السرية / وكرمز لحاجة الجسد). وعلى كل حال، شاءَ بركات أن تكون " فتاته " إمرأة مثقفة، ورسامة، شغلتْ الجلسات المتسمة بالجدل والمعميات (= المطعم، كمكان ورمز). علاوة على واقع إختراق تلك الجلسات، من قبل أشخاص غير واقعيين وبالرغم من مرئيتهم وأشكالهم البشرية. ربما يُضافر رؤيتنا لرمز المطعم، ما نعرفه عن وقوعه بمواجهة ذلك البناء الذي يُدعى " القبة "؛ البناء الغريب، الغامض، المتناهض في عمارته جنباً إلى جنب مع التداعي المتواتر، البطيء، للمتحف: وذلك ما عنيناه من كون هذا الأخير كعالم / مدخر للمعرفة، وأنّ إنهياره المتوافق مع إكتمال القبة كان ترميزاً من لدن الكاتب لقيامةٍ ما. إفتراضنا هذا، يعززه تشبيه الراوي لذلك المتحف بشكل السفينة: " تخترقه الأنفاق على شكل متاهة " (ص 94). إحالة كاتبنا بركات إلى رمز الطوفان، المتمثل في (السفينة)، نرتادها أيضاً في روايات اخرى له (" معسكرات الأبد "، كمثال): وهو هنا، في " عبور البشروش "، ربما يريد القول بأنّ إنهيار المتحف / سفينة نوح، إنما هو نذيرُ قيامةٍ أكثرَ منه أملاً بالخلاص ؟

هوامش ومصادر:

1 _ امبرتو إيكو، إسم الوردة _ الطبعة العربية في تونس 1992
2 _ جان إيف تادييه، النقد الأدبي في القرن العشرين _ الطبعة العربية في حلب 1993، ص 33
3 _ سليم بركات، الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش _ بيروت 1994
4 _ امبرتو إيكو، عملية القراءة وبنية الشيفرة: من كتاب " المعنى الأدبي " لوليم راي _ الطبعة العربية في بغداد 1987، ص 140
5 _ جمانة حداد، حوار مع امبرتو إيكو _ ملحق " النهار " الثقافي، ليوم 18 كانون الثاني 2004
6 _ ميخائيل باختين، شعرية دستويفسكي _ الطبعة العربية في بغداد 1986، ص 18

Dilor7@hotmail.com

الحلقة الأولى

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف