عالم الأدب

الجريمة والعقاب: طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة الثالثة

الأولى

الثانية

بيئة وشخصيات: البعدُ الرمزيّ

1 ـ كرنفال المكان والزمان
إن تفكيك وتركيب معمار البنى الأساسية لقصتيْ دستويفسكي ومحفوظ، وهو ما حاولنا القيام به في ما سبق من دراستنا، قد يسهل علينا مهمة إجراء المقاربة المناسبة، المفترضة، فيما يخصّ بيئتها وأبطالها، أيضاً. علماً بأنه لم يكن في وارد خطتنا هنا، التطرق إلى الأسلوب الفني الخاص بكلا المؤلفين، إلا ما كان ضمن ثيمة المقارنة. وإستكمالاً لبحثنا هذا، سنحاول كذلك تكوين صورة عامة عن البعد الرمزيّ، الواحد، لموضوعتيْ المكان والزمان في روايتيْ "الجريمة والعقاب" و "الطريق"، تمهيداً للدخول في البعد نفسه، فيما يتعلق بشخصياتهما؛ وهما الروايتان الكلاسيكيتان، التي تسعى مقاربتنا هذه لجمعهما مع بعضهما، بإفتراض إنعكاس إحداهما في الاخرى. لا بد قبل كل شيء من القول، بأنّ المكان لدى دستويفسكي الروائي، قد إكتسب مدلولاً بالغ الأهمية، إن كان على مستوى الفكرة أو الرمز. وخليق بالملاحظة هنا، أن تكون بطرسبورغ هي مكانُ أحداث " الجريمة والعقاب "؛ هيَ المدينة الكبرى، التي تتجاور في أبنيتها ومساكنها أنواع البشر المختلفة، وتزخر طرقاتها بالأفكار والأحلام والأوهام والهذيانات. إن كل اللقاءات الحاسمة، على تأكيد باختين، الناقد الروسي، بين إنسان وإنسان وبين وعي ووعي، تقع في آخر لحظات الأزمة: " أي تقع في مكان وزمن أسراري وبطريقة كرنفالية ". (1)
إنّ فعل " التخطي "، الموحي بالمكان، شكّلَ كما لاحظناه في ما سلف من دراستنا، أساسَ فكرة " راسكولنيكوف " ؛ بطل رواية دستويفسكي هذه. الفكرة، المترسخة في لا وعيه، عن " العائق " الأخلاقي الذي يتوجّب على صنو نابليون أن يتجاوزه. هذا البطل، يجدُ في الطرقات مكاناً مناسباً لأحلامه وأفكاره، فضلاً عن ما يتوفر فيها من شتى المصادفات المحتملة: " ألم أذهبَ إلى هناك وأنا أعرف أن كل شيء سيتم، وكأنه مسطور في كتاب؟ وعلى الرغم من أنه ألقى على نفسه هذا السؤال للمرة المائة منذ أمس، فإنه إستمرّ يتابع الطريق " (2). أجل، الطريق الذي سيمضي فيه، إلى النهاية، بطل " الجريمة والعقاب " ؛ ومن سيتابعه، بعد قرن كامل، " صابر "، بطلُ رواية " الطريق ". فمما له مغزاه حقا، بالنسبة لمبدعنا المصريّ نجيب محفوظ، أن تحمل نصف رواياته أسماء أمكنة؛ وفيها بطبيعة الحال، الرواية موضوع هذا البحث: " وسرعان ما توثقت علاقات خفية بينه وبين الفندق، كأنما جاءه على ميعاد، ووجدَ نفسه يعبرُ الطريق نحوه " (3). ها نحنذا، هنا أيضاً، أمام فعل " التخطي "، سالف التنويه؛ والمنوّع من فعل " يعبرُ ". هذا الفعل، مشروط بالعلاقة بين صابر والفندق. وليس مصادفة، على رأينا، أنّ ذلك الفندق حملَ إسم " القاهرة ": فالمرموز هنا، هوَ المكان الذي سيقرر مصير بطل الرواية.
إنتبه غروسمان، الناقد الروسي، إلى إرتباط " الجريمة والعقاب " بالفترة الزمنية التي كتبت فيها. لقد إقترح في هذا الشأن، أن يكون للرواية عنوان آخر، هوَ " 1865 "؛ مبرراً ذلك بأنّ هذه الرواية، لم تكن إلا صدى للتيارات الفكرية والأخلاقية، السائدة آنذاك (4). إن رواية محفوظ، " الطريق "، التي صدرت عام 1964، عبّرت بدورها عن أزمة بطلها في خضم التغيّرات المصاحبة لتحوّل مصر إلى نوع من رأسمالية الدولة. وإذا كان إقتراحُ ناقدنا الروسيّ حصيفاً، بالنسبة لزمن الرواية، فإننا نجدُ إسم " الطريق "، الموحي بالمكان، الأكثر مناسبة كعنوان آخر، مقترح، لرواية " الجريمة والعقاب "، التي بين أيدينا! وعلى كل حال، فإنّ كلاً من دستويفسكي ومحفوظ لم يفصل الإبداع عن الظروف التاريخية والإجتماعية، ولم يسمحا، بالمقابل، أن يذوب فيها. بقي أن نقول، أنّ " الجريمة والعقاب " و " الطريق "، تتخطيان الزمن التقليدي إلى الزمن المأزوم، الذي يعادل فيه اليوم أعواماً. فبتقليص اللحظة الزمنية، هنا وهناك، صار للأحداث بعداً دراماتيكياً عاصفاً.

2 ـ شخصيات المغامرة

أ ـ البطل:
إنّ خصوصية المكان والزمان، في " الجريمة والعقاب " و " الطريق "، ما كان لها إلا أن تنعكس على مسارات شخصياتهما ومصائرهم. ونلاحظ هنا، أنّ ما يجمع بطليْ العمليْن؛ راسكولنيكوف وصابر، كون كل منهما بلا سيرة حياة متشكلة سردياً، فضلاً عن أنّ الماضي لديه يتحدد في بعض الذكريات المرتبطة جوهرياً بالحدث " الراهن ". إنّ مرتكبَ الجريمة ( أو الخطيئة )، يُنظر إليه بوصفه البطل الذي يجرؤ على خرق القانون العام ـ المشترك، بين أفراد المجتمع. وحينما تكون الجريمة مرتبطة بـ " فكرة " ما، متسلطة على إرادة البطل، فإنّ إزدواجية شخصيته تكمن هنا: أيْ تناقض فعله الدموي، المرتكب، مع هدفه المنزه عن الأغراض الأنانية. ويعتبرُ مفهوم " الإزدواجية "، الموصوف، أهم ميزة لرؤيا كل من محفوظ ودستويفسكي، فيما يخصّ بطليْ روايتيهما. أما أهم المفاصل المشتركة بين هذين البطلين، فنعتقد أنها محددة على مستوى الشخصية، بهذه النقاط: أ ـ تغرّب كلاهما عن الوسط الذي يحيا فيه. فراسكولنيكوف، بنظر زملائه في الدراسة، كان إنساناً متكبراً؛ وهوَ من جهته ينظر إلى من حوله بإزدراء: والأمر مع صابر، أنه كان يعتبر أفراد المجتمع الذي نشأ هو بين ظهرانيه أعداءً؛ فيما كان هؤلاء ينظرون بسخرية إلى تكبّره وتعاليه عليهم. ب ـ حساسية كلا البطلين من الأقاويل، المتداولة في وسطه، ولمتناولة بالسوء سيرة أفراد من عائلته. ج ـ تطابق الصفات الشخصية لراسكولنيكوف الطالب، مع ما نعلمه عن بيوغرافية المؤلف دستويفسكي، حينما كان طالباً: وفي " الطريق "، نعلم أن صابراً عانى طويلاً من الصرع؛ وهوَ المرض المرتبط بإسم دستويفسكي. د ـ تهمة " الجنون بخيال "، تلاحق إجتماعياً كلا البطليْن.
في حالة الجريمة المزدوجة، التي إرتكبها راسكولنيكوف، نجدُ أنّ قتله للمرابية العجوز كان متعمداّ، فيما أنّ مصرع أختها جرى بغير إرادته ورغبته. وهنا يصحّ التأويل النقديّ لكلمة البطل، عندما هتف: " إنني قتلت نفسي وليس العجوز " ( ص 681 )؛ من أنّ البطل يُعلن الحقيقة الكامنة وراء الجريمة. إذ أنّ ضحيتيْه تمثلان قطبَيْ نفسه، الداخليين: التسلط والخنوع (5). وهذه الإزدواجية لدى البطل، يقرها أيضاً أحد أصدقائه، بحديثه عن راسكولنيكوف: " إنّ في جسده عقليتيْن متناقضتيْن " ( ص 367 ). وعنصر الترميز، المدهش، في " الجريمة والعقاب "، يبرز خصوصاً في شخصيّة " سفيدريكايلوف ": إنه يمثل ما يمكن وصفه بـ " القرين " / أو الصنو المشوّه لراسكولنيكوف. فهذا الرجل، الذي عملت دونيا في منزله كمربية وعانت ما عانته من تحرشاته الفظة، لم يكن يهمه إقتراف أعمال مشينة في سبيل مطامعه الشخصية أو نزواته الخسيسة. جدير بالتنويه أيضاً، أنّ سفيدريكاليوف هذا، هوَ الوحيد من بين شخصيات الرواية الذي يخرق مسألة تفرد بطلها بالسرد: " إنّ هذا الرجل أصبح منذ زمن ما ضرورة ملحة بالنسبة إليه. ولكن ما هو التفاهم أو التشابه الذي يجمع بينهما؟ " ( ص 747 ). نلتفتُ إلى رواية " الطريق "، وإذا ببطلها أيضاً قد إرتكب جريمة مزدوجة. إنه يقتل العجوز أبو النجا، بشكل مدروس ومخطط له. فيما نراه بعدئذٍ وقد وقعَ ضحية مكيدة، ماكرة، تجرّه إلى قتل عشيقته كريمة، ويغير وعي منه. إننا هنا، نستطيعُ الإفتراض بأنّ الضحيتيْن تمثلان قطبيْ نفس البطل، الداخليين. وهذا ما يذهب إليه السرد، من أنّ إلهام بلقائها مع صابر: " كشفت عن طبيعة ثانية فيه " ( ص 44 ). كما ويجوز لنا الإفتراض، بأنّ الرحيمي ( والد صابر، المختفي )، قد مثل بالنسبة لإبنه نوعاً من " القرين ". فعلى الرغم من أننا لا نقع، في السرد، على أثر حيّ لهذا الرجل؛ إلا أنّ معلوماتنا عنه، تأتت عن طريق محامي إبنه، صابر: إنه رجلٌ يذكرنا، فوراً، بسفيدريكايلوف؛ خصوصاً أن المبدأ الذي إشترعه لحياته قائم على إرتكاب المحرمات في سبيل إرضاء نزواته. علاوة على أنّ شخصية الأب هذا، تتجسّد في أحلام صابر وهذياناته، علاوة على مونولوجه: " أبي.. لمَ تصرّ على الإختفاء؟ قال: " أمكَ تظن أنها قتلتني، وفي الحقيقة أنا الذي قتلها ". إذن فأنت مخيف، لأنك قاتل ". ( ص 89 )
تحدثنا فيما سبق، في الحلقة الاولى من هذه الدراسة، عن ملامح البطل الأسطوري، الهائم في رحلة البحث عن معنى الوجود والحياة. يجدر القول هنا، أنّ شخصيات الأساطير والمغامرة، قد تماهت في أعمال دستويفسكي ومحفوظ، على السواء. حيث جرى هنا وهناك، إسباغ المعاصرة على تلك الشخصيات الأسطورية، من خلال نماذج إنسانية فريدة. وكتب " باختين "، الناقد الروسي، بخصوص أدب مواطنه دستويفسكي: " إنّ المهمات التي تمليها الطبيعة البشرية الخالدة ( المحافظة على الذات، التعطش للفوز والغلبة، التعطش للتملك، الحبّ الحسيّ )؛ هذه المهمات، هي التي تحدد المحور المغامري " (6). والرواية، كما هو معروف، تطورت عن قصص المغامرة، والمستلهمة بدورها الأسطورة. ويعتبر الباحث الانتربولوجي، " ستراوس "، أنّ الأسطورة هي التي تقف خلف المواد القصصية، المعالجة مظهراً خاصاً لثقافة معينة (7). من جهتنا، نفترض هنا وجود سمات مشتركة بين أسطورة " أوديب "، تحديداً، وبين الروايتيْن موضوع هذا البحث؛ كما تجلى لنا في عدة نقاط أساسية، وكذلك: " حين يكون صحيحاً أنّ كلّ قصة ( كلّ كشفٍ عن الحقيقة )، إنما هيَ إظهارٌ للأب الغائب (المختبيء، أو المؤقنم ) " (8). وقد عمدنا فيما يلي إلى جدولة الثيمات الأسطورية لقصة " أوديب " مع الموتيفات الروائية لقصتيْنا موضوع البحث، ومن ثم ألحقنا بكل منها خطاطة مفترضة، منظمة وفقاً لتأويلنا لسياقها ومدلولاتها. دون أن ننسى التنويه هنا، بأنّ هدف مقاربتنا هوَ إستدلاليّ لا إستنتاجيّ:
ـ أوديب / إسمه يعني " القدَم المتورّمة " (9): 1 ـ حلم لايوس الأب = نذير خرق القوانين. 2 ـ النشوء مع أب مزيّف، ثمّ رحيله في فتوته إلى " طيبة " = البحث عن الأب. 3 ـ في الطريق يقتلُ الإسبارطيّ، ثمّ يخلص المدينة من أبي الهول = حوافز خرق القوانين. 4 ـ يتزوّج جوكاستا = إرتكاب الخطيئة. 5 ـ غضب الآلهة وما أعقبها من فقئه عينيه بعيد إنتحار جوكاستا = الجزاء. 6 ـ تؤازره إبنته أنتيغونا في منفاه = عودة إلى الأصل.
ـ راسكولنيكوف / إسمه يعني " المنشق ": 1 ـ يفقد أباه منذ الصغر، ثمّ يرحل شاباً إلى " بطرسبورغ " = البحث عن الأب. 2 ـ مقالته في الصحيفة عن " تخطي العائق "، ثمّ تلقيه رسالة الأم ولقائه والد سونيا = حوافز خرق القوانين. 3 ـ الحلم = نذير خرق القوانين. 4 ـ يقتل المرابية وأختها = إرتكاب الخطيئة. 5 ـ إستنفار السلطات، ثمّ الإعتراف والحكم بالسجن = الجزاء. 6 ـ تؤازره سونيا ودونيا في منفاه = عودة إلى الأصل.
ـ صابر / إسمه طباق لمعنى " المتمرد ": 1 ـ يكتشف حقيقة الأب المفقود، ثمّ يرحل شاباً إلى " القاهرة " = البحث عن الأب. 2 ـ الإعلان في صحيفة " أبو الهول "، ثم عشقه لكريمة = حوافز خرق القوانين. 3 ـ الحلم = نذير خرق القوانين. 4 ـ يقتل زوج كريمة = إرتكاب الخطيئة. 5 ـ إستنفار السلطات، ثم يقتل كريمة ويحكم بالإعدام = الجزاء. 6 ـ تؤازره إلهام حتى النهاية = عودة إلى الأصل.

ب ـ الآخرون:
" هل تفهم يا سيدي العزيز، ماذا يعني أن تجدَ كل الطرق قد سدت في وجهك؟ ـ تذكرَ فجأة السؤال الذي طرحه عليه مارميلادوف أمس ـ " ذلك أن كل إنسان بحاجة إلى أن يجد ولو طريقاً واحداً يستطيع أن يسلكه ". هذا الخطاب، هو جزء من مونولوج طويل، يحتدم في نفس راسكولنيكوف. إنه يستعيد فيه محاورات الأبطال الآخرين معه، ثم يقوم هو بمجادلتهم. هكذا، نجد هذه الشخصيات قد دخلت، منذ الصفحات الأولى للرواية، في وعي البطل. علاوة على ملاحظتنا، أن معظم أولئك الأبطال يتقاسمون السكنى، أو يتجاورون، مع بعضهم البعض وبطريق المصادفة. ذاك المونولوج، إذاً، الذي يؤكد على مفهوم " الطريق "، لا يمكن إلا أن يُحيلنا إلى الرواية المحفوظية؛ " الطريق "، ليسَ بتأكيدها على العنوان حسب، بل كمكان ورمز. ففي هذه الرواية الأخيرة، القرينة على فرضنا، نتحسس إسلوب محفوظ، المونولوجي؛ الجديد آنئذٍ، والذي كتبَ به قبلاً روايتيْن، هما " اللص والكلاب " و " السمان والخريف ". يقوم إسلوب كاتبنا هذا، المستحدث، على حكر السرد بشخصية البطل. وفضلاً عن تلك التوافقات الإسلوبية بين روايتيْ " الجريمة والعقاب " و " الطريق "، من ناحية طريقة السرد، فإن هذه الأخيرة، أتاحت لبطلها أيضاً ثيمة " الصدفة "؛ بما كان من لقائه مع معظم الشخصيات الاخرى، وفي يوم وصوله لمدينة القاهرة. غير أن وحدة الشخصية في السرد، هنا وهناك، يجب ألا تحجب عن أعيننا إسلوب كل من المؤلفيْن؛ المبنيّ على دمج أكثر من قصة في السياق السرديّ ذاته. لا بل إن دستويفسكي، من جهته، يسمح لبطل آخر ( هوَ سفيدريكايلوف ) بخرق وحدة السرد في روايته، وبالتالي بخرق توحّد بطلها نفسه بالمونولوج. ولكن، دعونا الآن نمضي في مقاربتنا، الشاملة أولئك الأبطال الآخرين.

سونيا / كريمة:
ما أن يلمّ راسكولنيكوف بقصة سونيا، عن طريق والدها، حتى يختارها شريكة " فكرته " القائمة على قتل المرابية. غير أن إنتماء حبيبته هذه، بحسب تصنيفه، لفئة " الخانعين " في المجتمع، يجعله في حوار جدليّ معها. إلا أن بطلنا نفسه، كما سبق ونوهنا، يعاني من إنفصام في شخصيته؛ وبالتالي فإن مجادلته تلك إنما هيّ مجادلة مع أحد قطبيْ نفسه بالذات؛ أيْ الخنوع. ها هوَ راسكولنيكوف يجدُ " قريناً " لسونيا؛ إنها ليزافيتا، أخت المرابية، والتي تعامل كالعبيد مما يضطرها، أيضاً، لبيع جسدها. وعلى هذا، فإن قتل بطلنا لهذه الفتاة المسكينة، ودونما قصد منه، إنما كان قتلاً للجانب الآخر من نفسه: " نظر إلى سونيا، وفجأة بدا وجهها شبيهاً بوجه ليزافيتا ". ( ص 667 )
في رواية " الطريق "، علمنا أنّ كريمة أصبحت عشيقة لصابر، ثم شريكته في الجريمة: إنها إمرأة شابة، سبق لزوجها الأول أن باعها للعجوز أبو النجا، صاحب الفندق. فإذا كانت كرامة كريمة / كزوجة، تمتهن يوميا، كما هو شأن سونيا / كمومس؛ فلا ريبَ أن شخصية الزوج بالنسبة للأولى ( العجوز أبو النجا )، ستذكرنا بشخصية العجوز المرابية، بالنسبة لراسكولنيكوف، حبيب الثانية. وإذ نظر هذا الأخير لحبيته كشهيدة وقديسة، بحسب العقيدة الدينية ( مريم المجدلية )، فقد شاء كاتبنا المصري إعتماد العقيدة الدينية، المترسخة في الوعيّ الشرقيّ، خصوصاً؛ عن " أصل الشرّ في الكون "؛ بجعله المرأة كمطية للشيطان ( حواء ): " ثم جاء صوتها كأنما يزحف من جحر " ( رواية الطريق، ص 105 ). هذا في المرموز الدينيّ، أما على أرض الواقع، فإنّ بطل محفوظ يجدُ قريناً لعشيقته، كريمة، في شخص أمه الراحلة، بسيمة: فهذه الأخيرة، سبق في شبابها أن هربت من بيت زوجها ( الرحيمي، والد صابر )، برفقة شخص ما لبث أن راح يتاجر بجسدها. وبسيمة أخيراً، حينما وضعت إبنها أمام الإختيار الوحيد ( البحث عن الأب )، كانت قد وجهته عملياً إلى الطريق المفضي لكريمة؛ وبالتالي إلى قدَر الجريمة: " أما كريمة، فإمتداد حيّ لأمه فيما تهبه من متعة وجريمة " ( ص 97 ). ونفترض أنّ إندفاع صابر، الأعمى، لقتل عشيقته، كان من ضمن خطة محفوظ الفنية؛ وهي الخطة المتأثرة بمرامي دستويفسكي في مسألة مقتل ليزافيتا: أي تعرية مبدأ الخلاص الفردي، مهما تكن ذرائعه مشروعة وعادلة.

دونيا / إلهام:
إفترضنا فيما سلف من دراستنا، أنّ رسالة الأم كانت الحافز الرئيس لراسكولنيكوف، في عزمه على تنفيذ جريمته. إنّ قطبيْ نفس البطل، هنا أيضاً، يتمثلان بشكل حاد. فالأم الخانعة مظهراً تجسدُ، رمزياً على الأقل، الموقف المتسلط غير العابيء بإعتبارات الحبّ، بقبولها زواجَ دونيا بذلك الرجل المكتهل، ما دام ذلك سيؤمن للإبن الحبيب إمكانية تحسين ظروف حياته. ودونيا، من الجهة الاخرى، يتكشف موقفها عن الخنوع، بقبولها لمشروع الزواج. هذا، مع التذكير، بأنها نفس الفتاة التي خرجت من إمتحاناً شبيهاً، سابقاً، أكثر حزماً وقوة إرادة: إذ عملت مربية لدى سيد ثرية، وتعرضت لتحرشات زوجها ( سفيدريكايلوف ). على أن دونيا، تستعيد فيما بعد قوة إرادتها، الموصوفة، فتطرد خطيبها وتصدّ سفيدريكاليوف بقسوة، فضلاً عن موقفها المتفهم لأخيها ومساندتها له بعيد إعترافه بجريمته.
شخصية إلهام في " الطريق "، جديرة بالتأمل، لما تلقيه من ضوء على اسلوب محفوظ، الفني. إنّ عمل هذه الفتاة في صحيفة، إسمها " أبو الهول "، يحيلنا إلى الإسم، كرمز خالد للأسرار؛ وبالتالي إلى شخصية بطلتنا، الملغزة. فهي تمثل، على إفتراضنا، جانب الحكمة، المخذول دوماً، في نفس صابر. هذا الأمر، يؤكده تلك العلاقة الملتبسة ببطلنا، والمتراوحة في مستوى الصداقة؛ أو حتى " الأخوة ". هذه الصفة الأخيرة، الوهمية، شاء الحلم أن يرمزها وخصوصاً ما تبعه من معرفة صابر أن في بيت إلهام مفقودٌ أيضاً: الأب! ولنقل أيضاً، أنّ إزدواجية البطل، تتمثل في شخصية هذه الفتاة: الخنوع المتبدي بعلاقتها مع صابر، والصلابة أمام حقائق الحياة ومصاعبها؛ كما في مسألة رفضها لخطيب إشترط عليها ترك عملها. ثم ما كان من وقوفها، إلى النهاية، بجانب صابر، فبقيت بالنسبة له: " الحقيقة الوحيدة التي عرفها ". ( ص 76 )

بورفير / الساوي:
" يدعونني عالم نفساني. كذب، أنا واقعي وحسب، إلى أقصى درجة. أي أنا أصور كل أعماق النفس الإنسانية " (10). هكذا كتب دستويفسكي، في دفتر مذكراته، رداً على بعض معاصريه الذين رأوا في أسلوبه، المونولوجي، نوعاً من " التطبيق الأدبي " لعلم النفس. لعل رواية " الجريمة والعقاب "، هي الأكثر من بين أعمال كاتبنا، الموحية بذلك التصور، الموسوم. الملاحظ، من جهة اخرى، نلاحظ أنّ أطول الحوارات في تلك الرواية، قد جرت بين راسكولنيكوف وبورفير. هذه الأخير، كمحقق نابه ومثقف، إتبع في قضية الجريمة، المناطة به، طرقاً نفسانية مبتكرة. فهوَ لم يعمد إلى توقيف المشتبه به ( راسكولنيكوف )، بالرغم من شكوكه القوية حوله. لا بل إن لقاءاتهما الثلاثة، لم تكن إستجواباً بالمعنى الحرفيّ، القانونيّ، المعروف. فقد عمد هذا المحقق إلى لغة إشارات حوارية، تصل إلى أعماق راسكولنيكوف، مستفزة ضميره وإرادته، سواءً بسواء. وحينما يواجه المحقق بطلنا، أخيراً، يعرض عليه الإعتراف، متيحاً له عقوبة مخففة تعيده مجدداً إلى حياته الطبيعية، كبشر سويّ.
أما محقق " الطريق "، فإنه بحسب خطة مؤلفها، الفنية، يظل متماهياً في ظل العجوز، المدعو " الساوي "؛ معاون القتيل، صاحب الفندق. لقد إكتفى ذلك المحقق، الفعليّ، بمحضر واحد، مبتسر، مع صابر. ثم ما لبث أن إختفى تماماً من السرد، تاركاً للعجوز الساوي مهمة رصد وتحري أمر المشتبه به في الفندق؛ وهما كريمة وعشيقها. جدير هنا بالملاحظة، أنّ أطول حوارات " الطريق "، تجري أيضاً بين صابر والساوي. فهذا العجوز، الماكر، إتبع خطة محبكة، بإلقائه ظل من الشك حول حياة كريمة؛ بزعمه أنها ما فتأت على علاقة بالرجل الأول الذي باعها للعجوز أبو النجا. كان هدف الخطة، كما سيتبينه المرء لاحقاً، جرّ صابر إلى منزل عشيقته تلك، ليصار إلى ضبطه معها وإدانتهما معاً: " وغير بعيد أن تكون الآن هدفاً لعين أو أكثر. ولن تدري بما يدور حولك. كعم خليل قبل أن تهوي عليه ضربتكَ " ( ص 135 ). المدهش، أنّ هذه الصورة، المجازية، سبق وأن إستعملها حرفياً، تقريباً، المحققُ بورفير، خلال حديثه مع راسكولنيكوف. فهوَ في حواره ذاك، يذكر بطلنا بأساليب المحققين في تعمّد التلهي بأمور جانبية، بعيدة عن المسألة قيدَ البحث، ثم الإنهيال فجأة على المتهم: " كضربة فأس على جمجمته ". ( ص 557 )

المراجع:
1 ـ ميخائيل باختين، شعرية دستويفسكي / الطبعة العربية في بغداد 1986، ص 261
2 ـ دستويفسكي، الجريمة والعقاب / الطبعة العربية لدار الحياة في بيروت، بلا تاريخ، ص 834
: وجميع إستشهاداتنا هنا، مأخوذة من هذه الطبعة
3 ـ نجيب محفوظ، الطريق ـ الطبعة السابعة في القاهرة 1981، ص 27: وجميع إستشهاداتنا هنا، مأخوذة من هذه الطبعة، أيضاً
4 ـ ريتشارد بيس، دستويفسكي: دراسة لرواياته العظمى / الطبعة العربية في دمشق 1976، ص 44 5 ـ المصدر نفسه، ص 68
6 ـ شعرية دستويفسكي، ص 152
7 ـ روبرت شولز، البنيوية في الأدب / الطبعة العربية في دمشق 1984، ص 85
8 ـ رولان بارت، لذة النص / الطبعة العربية في حلب 1992، ص 34
9 ـ يفترض " ستراوس "، أنّ أبطال الميثولوجيات يحملون غالباً أسماء تفصح عن عاهة ما، في تكوينهم: أنظر، البنيوية في الأدب، مصدر مذكور، ص 86
10 ـ شعرية دستويفسكي، ص 86

Dilor7@hotmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف