دراما الذاكرة الشعرية: منظرطبيعي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إن أوضح تعريف بكاتب ملغز مثل هارولد بنتر نعثر عليه في كلمات ديفيد هير، حيث كتب مرة يقول: "لقد فعل بنتر ماقاله أودن ما على الشاعر أن يفعله. لقد نظّف قنوات اللغة
انقر هنا لقراءة الترجمة الكاملة لـ"منظر طبيعي"
اقرأ ايضا: مسرحية هارولد بنتر: أمسية
الأنكَليزية من شوائبها، فأصبحت مفرداتها تجري برشاقة وسلاسة.".كتب بنتر أربع مسرحيات ـ تراجيكوميدية ـ تجريبية خلال عام واحد )1969)، إعتمدت الذاكرة بؤرة لتجمّع ضوء الفكرة، والصمت لغة،إيقاع ودلالة، أما الزمن فهو زمن دائري
إنها ثيمات ذات سمة بيكيتية ـ بروستية، تتحدث بسخرية مبّطنة عن جوهر العلاقة الذكورية ـ الأنثوية. علاقة الرجل والمرأة، الزوج والزوجة، العشيق والعشيقة. أفكار مشوشة مختصرة لعواطف متوترة، جوهرها الجنس والحب الشهواني، الغيرة، الخيانة، الضجر والرتابة، العزلة والكآبة، في تخوم سنوات اليأس، لعلاقات وزيجات أصبحت ذكراها نائية جداً. و هذه المسرحيات هي على التوالي:
Night -1 (أمسية)
Landscape-2 (منظر طبيعي)
Silence -3 (صمت)
Old Times -4 (أيام زمان)
***
مسرحية "منظر طبيعي" 1968، دراما شعرية في فصل واحد تتضمن شخصيتان فقط، هما الزوجان بيث وداف اللذان يعيشان ويعملان في منزل ريفي عائد لمستخدمهما السيد سايكس المتوفى على الأرجح. كان داف يعمل سائقا ً عند السيد سايكس أما بيث فقد كانت مدبّرة لمنزله.
تبدأ هذه المسرحية وتنتهي والزوجان يجلسان في مطبخ كبير أجرد وموحش، تفصل بين مقعديهما طاولة طعام طويلة جداً هي بمثابة مجاز لعزلتهما وإنفصالهما، وهما يواصلان ذكرياتهما بصوت عالٍ في محادثة شبه شبحية، هي تستعيد ذكرى أحلامها المضيئة عند شاطىء البحر وحكاية الرجل الذي كان يستلقي معها عند تلال الرمل، وهو يتذكر خيانته لها
بيث وداف لايتحدثان معنا أو إلينا ولا إلى بعضهما البعض إنما كلٌّ يتحدّث إلى نفسه، فما يجري أمامنا هو وجود شخصيتين منفصلتين عن بعضهما البعض فيزيائياً وعاطفياً فضلاً عن أنهما منفصلتين عن البيئة التي يتواجدان فيها. هذه الصورة، مجازاً، تبدو لنا أشبه بلوحة زيتية لمنظر طبيعي ساكن وخالٍ من الحركة تماماً.
على الرغم من وضوح هاتين الشخصيتين في مقدمة الصورة إلا أن تفاصيل مونولوجاتهما مبهمة مضببة وملغزة. أما خلفية الصورة فهي نائية ملتبسة ليس بوسع المرء النفاذ إليها بيسر لفك مغاليق تلك المظاهر المّضللِة للأحداث والشخصيات المُتخيـلِة.
مونولوجاتهما شحيحة وموجزة، صافية ونائية ينيرها خيط شعاع شاحب أو رمادي في غسق العمر والوهن.
إنها شظايا كلمات قيلت في يوم ما ونسيت حينها وهاهي تستيقظ ثانية من سباتها العميق لتفتح جراحات قديمة منسية بسياقات لغوية أقل منطقية وأكثر غموضاً.
عبر مونولوجاتهما المتعارضة والملغزة تلك يوحي لنا بنتر إلى حد ما إن من الصعب التعويل على مصداقية الذكريات والأحلام تلك، فبيث مثلاً تقول وهي تتذكر:(إستدارت المرأتان وظلتا تتطلعان نحوي) إلا أنها سرعان ما تستدرك الحديث فجأة بقولها: (كلا، كلا. أنا التي إستدرت، فقد كانتا واقفتان وأنا أمشي). أو إلتباس هوية الرجل الذي تتذكر بشغف أنها إلتقته عند شاطىء البحر، فعبر فشظايا كلماتها توحي لنا أن ذلك الرجل يمكن أن يكون داف أو ربما السيد سايكس نفسه، أو من الممكن جداً أن ذاكرتها أصبحت تمزج مابين الأثنين.
الملاحظة التي يوردها بنتر في مستهل هذه الدراما تشير إلى أن داف كان يوجه حديثه إلى بيث بشكل عادي وواقعي إلا أنها كانت تزوغ وتتطلع صوب جهة أخرى، صوب فضاء الحلم. أما الشيء الأكثر غرابة في الأمر فهو أن لا أحد فيهما يسمع صوت الآخر!. موقفهما من عدم الأصغاء للآخر لايوحي فقط على أنهما منفصلين وينفر أحدهما من الآخر، إنما يؤكد أيضاً أنه نوع من ذلك الأنفصال والنفور اليومي المتكرر والمعتاد، فليس شيئاً مستغرباً بالنسبة لداف مثلاً حين يسألها ولاتجيب عن أسئلته. أو نراه أحياناً يسعى إلى تجسير تلك الصلة المتقوضة بينهما عبر ثرثرته المضجرة بحكاية تمشيّه مع كلبه أو لقاءاته في الحانة أو رحلته إلى سكوتلندا مع السيد سايكس، لكنه يذكرّها فجأة وبشكل عدواني كيف أنه إغتصبها أو خانها مع إمرأة أخرى. إلا أن محاولاته تلك كلها تبوء بالفشل فهو لم يستطع أن يحقق هدفه الغامض أو المعلن معها. حين يقترح عليها القيام بنزهة إلى البحيرة مثلاً تصمت دون جواب. أما عندما يتذكر، وبإحساس من الندم، إعترافه المبكر بخيانته لها، نراها تغيّر موضوع الحديث. وحين يسألها إن كانت تحب أن يتحدث معها أم لا لاتجيب، لكنه ورغم عدم صدور أية إستجابة منها يسارع بخفة في القول: "أظن أنك تحبين ذلك"!. محاولة منه في الحفاظ على وهم العلاقة بينهما. إلا أنه وفي كل مرة يحاول التشبث بها تزوغ منه. إنه لايستطيع مغادرتها أو هجرها لأن ثمة بقايا حب قديم، ثمة إلتزام ما بينهما إزاء ذلك الرباط المقدس. لذا يبقى هذا اللحن متواصلاً أبداً، هي تجلس في جانب تحلم بالرجل الذي تحب، وهو يجلس في الجانب الآخر يهذي ويثرثر بدون توقف.
يلمح لنا بنتر عبر خفايا الكلمات ولحظات الصمت الناطق بأنها كانت تسمعه، فحين يقول لها مثلاً: "لايوجد ثمة أحد في المتنزه" تجيبه هي بـ "ليس ثمة أحد على الشاطىء".
محتمل جداً أن سبب التعارض بينهما هو إصرار كلّ منهما على التمسك بموقفه، فداف هو بحاجة ماسة إلى إجابة محددة ترفض بيث أن تمنحها إياه، وهذا بدوره يؤجج غضبه ويدفع بنزاع أقطاب هذه الدراما في نفس الوقت نحو التصاعد. فحين يتذكرها مثلاً أنها كانت نادراً ما تضحك عندما كانت شابة وأنها كانت كئيبة، تتذكر هي لقاءها بذلك الرجل عند الشاطىء حين كانت تضحك وتضحك وتضحك. وحين يتحدث هو عن نفسه تتذكر هي رجلاً رقيقاً كانت تستلقي إلى جانبه من دون أن تذكر إسمه.
ذكرياتها رقيقة وهشة فيما ذكرياته فظة حادة وعدوانية. تداعياتها للحّظات العذبة والجميلة تتقاطع وتتزامن وحديثه الفج المفعم بمفردات بذيئة كبراز الكلب وذروق البط أو الخيانة الأغتصاب..إلخ.. الذي يسهم بطريقة أو بأخرى في توسيع الهوة بينهما إن لم نقل يحيل مناخ الدراما إلى نوع من الكوميديات الصاخبة.
حين يعلن لها داف أن المهم حقاً هو أنهما سوية الآن، يقولها برقة وهدوء في البدء إلا أنه فجأة يغير الموضوع واللهجة ليكشف عن وحشية مرعبة وقساوة حادة حين يذكرّها بمضاجعته لها في ردهة المنزل وأمام الكلب وعلى وقع رنين الجرس المتأرجح. أما هي فبدلاً من الأستسلام لغضبه ووحشيته، تواصل تداعياتها بصفاء تتذكر تلك اللحظات المضيئة.
نحن هنا في مواجهة نموذجان متعارضان ومتناحران، زوجان كانا يوم ما متحابين ثم إنفصلا فجأة وأصبح كل منهما ضمناً ينبذ الآخر. ربما كان الدافع الحاسم وراء إنهيار زيجتهما تلك خيانته المبكرة لها ما دفعها ومنذ تلك اللحظة إلى العزلة والتكتم بشكل تام . أما الشيء الذي يجعل الأمر أكثر سوءاً فهو كما يبدو أنه قد أطلعها على خيانته تلك بعد يوم من ذهابه معها الى الفراش، وهذا ما جعل الصورة أكثر فزعاً في مخيلتها. وهكذا يكون قد قبلهّا قبلة الوداع، قبلة يهودا، فإنقطعت هي عن الحديث معه منذ ذلك الوقت. ربما كان للسيد سايكس دور توفيقي في وقت ما لخلق نوع من التوازن بين هذين الزوجين، فقد كان لبيث حينها عملها الخاص بها حيث كانت تقوم بترتيب شؤون المنزل للسيد سايكس، أما الآن فليس لديها شيئاً لتقوم به سوى التشبث بذكرياتها. لذا من الممكن جداً أنها تعتقد بأن الحواجز بينها وبين زوجها أصبحت مطلقة منذ غياب ذلك السيد.
ححسناً، والآن ومرة أخرى، من هذا الرجل الذي تتحدث عنه بيث في تداعياتها؟
أهو عشيقها حقاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل معنى أن ذلك هو إستجابة منطقية منها إزاء خيانته لها؟
من الممكن بالطبع أن يكون ذلك الرجل هو داف نفسه كما أشرنا من قبل، وإذا صح هذا الأفتراض عندئذ تصبح عملية إختلاق عشيق الحلم هو مجرد نوع من الأغاضة أو محاولة لرد الأهانة التي لحقت بها إزاء خيانته تلك.
لايمكن بالطبع القبول بوجهة النظر التي تقول مثلاً أن العشيق الذي تستدعيه ذاكرتها، سواء أكان زوجها داف في شبابه أو ربما السيد سايكس نفسه، هو شيء ملفق صادر من وحي مخيلتها المنهكة. كلا، كلا لايمكن ذلك والدليل أنها كانت تتذكر زوجها بعض الأحيان، لاسيما بعد إعترافه بخيانته لها بمدة قصيرة أو طويلة.
إن كلا التذكارين، ذكرى العشيق وذكرى الزوج، يعني بالنسبة لها الشيء الكثير، فأحداهما سعيدة والآخرى مؤلمة، ويبدو أنهما يختلطان معاً في مخيلتها.
الواضح جداً إن الصلة بين بيث وداف مقطوعة تماماً بالكامل وغير قابلة للتغيير على الأطلاق، إلا إن الجملة الأخيرة التي تنطقها بيث في ختام المسرحية قائلة: "أوه، أنتَ حبي الحقيقي"، تهز أركان الصورة التي رُسمت في مخيلتنا، لأنها جملة غامضة وملتبسة وخاضعة لكثير من التأويل. لكن مع ذلك يبقَ لوقع هذه الجملة الملغزة في ختام هذه الدراما وقع الضوء في العتمة.
"منظر طبيعي" مسرحية شبيهة بحلم أو بموجة تتشكل وتتلاشى في ذات اللحظة. إنها دراما منفتحة على قراءات وتأويلات شتى حبلى بالكثير من المعاني والدلالات.
ملاحظة:
الصور المرفقة بالموضوع مستقاة من العرض الذي أخرجه هارولد بنتر عام 1994 على خشبة مسرح كوتيسلو (المسرح الوطني الملكي) في لندن، حيث لعبت الممثلة بينيلوب ويلتن دور (بيث) ولعب (داف) الممثل آين هولم.
علي كامل. لندن
alikamel50@yahoo.co.uk