كتَّاب إيلاف

اللاعنف في الإسلام (3)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الجزء الثالث

الأول / الثاني

مع سيطرة الدولة على الأفراد لحل النزاعات داخل مربع الدولة الواحدة نشأ تلقائيا مرضان خطيران: الحرب مع الدول المجاورة. والطغيان الداخلي. ومن أجل هذين المرضين بعث الأنبياء: التحرر من الطغيان الداخلي، ونشر السلام بين الأنام. وبهذه الطريقة نفهم معنى مجيء الأنبياء في التاريخ، وطريقتهم في التغيير السياسي القائم على فهم عميق للإنسان: أن أفضل ما يؤخذ من الإنسان هو بالإقناع والإيمان وليس بالكراهية والإكراه.
وإذا كانت هذه رسالة الأنبياء جميعا فكيف نفهم نصوصاً من القرآن تحض على القتل كما جاء في سورة الفتح عن الأعراب (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم شديد تقاتلونهم أو يسلمون)؟ أو الآيات النارية في القتال في أمكنة أخرى مثل سورة التوبة، "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" أو "فاقتلوهم حيث ثقفتموهم"؟
وهذا المعنى أشكل على احد الكتاب ممن وصلتني مقالته بالانترنت فقال بأن القرآن كتاب عنف؟ وأنه مصدر كل هذا الإرهاب في العالم؟ وهو تهور منه واستعجال، وعدم إدراك القرآن والتاريخ والسياسة والإنسان والمجتمع.
يصف (أورهان بيار): اللاعنف في الإسلام في الفترة المكية أنه " غير مرتبط بالتسامح كما هو معروف عند رموز اللاعنف (النبي عيسى , ماني . غاندي) بل تسامح غير القادر على الرد بالمثل فالآيات لا تحرض على القتل والحرب لكنها تتوعد غير الموالين للدعوة الجديدة بشر العقاب وبنار جهنم ".
أي أن القتل والقتال أصيل في الإسلام أخفى وجهه لمصلحة تكتيكية.
ليمضي فيقول أنه لاحقاً:
"تظهر له كلمتا الغزو والسبي ومدى تأثيرها في الحياة القبلية ويبدل هاتان الكلمتان بأخريين الفتح والغنيمة ويدعمه القرآن في الوسيلة الجديدة لنشر الدين ويبدأ الإسلام بولادته الجديدة كحركة عنفيه تقوم أساساً على الفتح و جمع الغنائم وهذا ما يرجوه كل أعرابي وبهذا الشكل ومع أول نصر لمحمد في بدر تكبر الحركة ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل".
ثم ليكشف الإسلام القناع عن وجهه الحقيقي حين يقول:
" ينتفي هذا الخيار الديمقراطي ليتحول الأمر إلى تخيير بين قبول الإسلام أو الدخول في طاعة المسلمين"
ليقرر السيد أورهان هذا الحكم أنه :
" من خلال مراجعتي المقتضبة لبعض جوانب العنف في المرجع الإسلامي الرئيسي توصلت إلى أنه لولا العنف الذي أستخدم بكثافة شديدة لما تمكن محمد ولا من خلفه من نشر عقيدتهم"
أو يقرر:
" . كما توصلت إلى أن الأسلوب العنفي والإسلام شيئان متلازمان لا يمكن فصلهما فكل شعب يسلم يتحول إلى الناطق بالحق والمسئول عن أوامر الله على الأرض ويبدأ باحتلال واستعمار الغير باسم الفتح فما علاقة البرابرة الترك ونشر الإسلام واحتلال أوربة وهم أبعد البشر عن الحضارة في الفترة السلجوقية والعثمانية".
وينتهي الكاتب أورهان إلى هذه الخلاصة:
" إن العنف المنفلت من عقاله الذي نعاني منه اليوم منبعه الرئيسي هو النص القرآني الذي يحلل قتل ومعاداة ومحاربة المخالف مهما كان , فالإسلام لا يقبل الاختلاف والعالم في نظره قسمان لا ثالث لهما مسلمون وكفار وواجب المسلمين هو الجهاد في سبيل الله وهو محاربة الكفار حتى ينصاعوا لكلمة الله بقبول الإسلام أو الخضوع والاستسلام للمسلمين".
والواقع فإن السيد أورهان بيار ليس الوحيد ولا الأول ولن يكون الأخير قطعاً الذي يصل إلى هذا الاستنتاج الذي أحزن عليه، في تكريس مفهوم العنف، حتى في حقل السلام النبوي، كما أنه ينطح جدار التاريخ بدون أثارة من علم. والحل الذي قد يقربنا قليلا للفهم ليست النصوص لوحدها إذا تعطل الفهم التاريخي، وحتى النصوص فيجب جمعها ومقارنتها بظروفها التاريخية وهو ما سنأتي عليه، فلو أردنا أن نأتي بآيات الرحمة والموعظة الحسنة وادفع بالتي هي أحسن وكفوا وأيديكم وأقيموا الصلاة لكانت العشرات المواجهة للنصوص التي استشهد بها الأخ الفاضل، ولو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا.
والتهور في إطلاق الأحكام غير جيد، ويبدو أنه السيد أورهان لم يقرأ القرآن جيدا، وهو قطعا كذلك، وإن قرأه فكما فعل ذلك القس الذي قال أن القرآن دعا إلى ألوهية المسيح فخطف آية من سورة الزخرف قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين؟؟ مع أن ما قبلها وما بعدها جاء لتفنيد ألوهية المسيح ومشكلة التثليث برمتها.
وهنا نرى أن السيد أورهان وقع في خطأ منهجي فلم يسلك الطريق العلمي في استعراض الأدلة جميعا ومقارنتها والوصول إلى النتائج باعتدال وترك المجال لاحتمالات الخطأ، وهذا هو الفرق بين العمل العلمي وغير العلمي.
ونحن في هذه المقاربة نخالف كل التيارات التقليدية من إسلامية وغير إسلامية في الوصول إلى تقرير أن اللاعنف هو عمل الأنبياء وهو لب التوحيد وهي عملية ولادة الإنسان الجديد باعتماد عقله وروحه وليس عضلاته والعصا.
وكما يقول عالم الاجتماع العراقي الوردي أن النصوص لم تحل يوما مشكلة، وحين التناطح يأتي الجميع بكل الأدلة العقلية والنقلية على صحة مذهبه، وهو ما فعلته الدول الإسلامية في حرب الخليج الثانية، حين انعقد مؤتمران في بغداد ومكة، كل يقول أنه على حق وخصمه الخاطيء الشرير، حتى حلت أمريكا المشكلة بصواريخ البلطة ودبابات الأبرامز وطائرات الأباتشي، حلتها بدون مؤتمرات إسلامية وبدون مصحف وحديث وناسخ ومنسوخ.
وهو الشيء الذي يجب فهمه تحت فكرة (البنيوية في القرآن) أو التراكب الموضوعي. أو (المنطق الداخلي للقرآن). فآيات القرآن مثل نجوم السماء متناثرة نزلت على مكث، حسب المناسبات والأوضاع النفسية، ولا تبوح بأسرارها إلى من عاش هذه الظروف النفسية، كما حدث معي في سجن الشيح حسن في دمشق حينما قرأت الآية أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون؟ فكأنها نزلت علي يومها وأعطتني من الهدوء الشيء الكثير، ولا يوجد في نهاية القرآن فهرس لموضوعاته، ولذا يجب أن نفعل كما فعل (تيكي براهي) و(يوهان كبلر) حينما نظرا في النجوم فخرجا بنظام خاص ومنطق خاص في عالم النجوم وكذلك آيات القرآن المنجمة.
وبالمقابل فقد جاءتني رسالة أخرى بالاتجاه المعاكس تماما من رجل فاضل هو (م. ص) الذي يقول إننا لا نوافقك فيما تذهب إليه في مذهب اللاعنف، فلم يفهم رسالتي تماما، ولم يستوعب رسالتي في مئات المقالات التي كتبتها تماماً؛ فالرجل يذهب في تفسير صراعي ولدي آدم إلى تفسير جديد، يقول فيه إن الذي قُتِل (بالضم) كان سيدافع عن نفسه، كما جاء في قصة ولدي آدم التي أشرنا إليها أن هناك مذهبان: من يؤمن بالقتل سبيلا لحل المشاكل، ومن لا يهدد ولا يخاف من التهديد ويستعد للموت من طرف واحد دون مد اليد بالأذى للآخر.
قال الأخ إن القتل كان غيلة، وأن ابن آدم الذي أعلن موقفه أنه لن يقتل ولو بسط الأخر له في اليد كان كاذبا مدعيا متظاهرا، فلو شعر بأن أخيه توجه له ليقتله لمد يده إليه بالقتل، وهذا تكذيب للقرآن والنبي والصالحين ومبدأ الفلاسفة وطريقة الأنبياء في التغيير. وقتل لكل الحكمة الموجودة في الآيات من سورة المائدة، والتي ختمها القرآن بقوله: من أجل ذلك؟؟ أي أن القصة سيقت لأخذ العبرة، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
ومما جاء في أحاديث الفتنة التي لم يطلع عليها الأخ إشارة واضحة إلى مذهب ابن آدم في عدم الدفاع عن النفس، وهي عشرات الأحاديث المغيبة في تراث تشرب بالدم، بأشد من بني إسرائيل الذين أشربوا في قلوبهم العجل.
قال الأخ: "و لا نتخيل أن قابيل عندما جاء لتنفيذ جريمته، أن أخاه قد وقف أمامه مبتسماً محبّاً و هو يراه يرفع الفأس ليهوي بها على رأسه، بل يغلب الظن أن القتل كان غيلة، و ليصحح لنا الدكتور إن كانت لديه معلومات أفضل"
ولا أعرف كيف وصل إلى هذا الفهم المنكوس على رأسه؟
وهذا الاختلاط عند الكاتب المذكور جاء من فكرة (الدفاع عن النفس)، ونسي الحديث الذي يقول أن القاتل والمقتول في النار، لأنهما انطلقا من نفس القاعدة النفسية " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه"
وهذا الاختلاط في فكرة الدفاع عن النفس منشأها أن الصراع البشري ينفجر عند هذا المنعطف تماما في تصور كل واحد أنه يدافع عن نفسه؟ فالعمل مبرر مشرعن، ولكن من المدافع ومن المهاجم؟
لقد قالت إيران والعراق نفس الكلمة في الحرب العقيم التي لم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟
وكل الحروب نشأت تقريبا بنفس الحجة.
والفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه) يقول: إن كل وزارات العالم المخصصة للقتل والقتال اسمها (وزارة الدفاع) وهي مخصصة للهجوم؟ فلم نسمع عن دولة سمت وزارة الحربية عندها (وزارة الهجوم)؟؟
ويقول نيتشه أن هذا العنوان يحمل النية السيئة للآخرين أنهم سيهجمون فيجب أن يدافعوا.
والحروب الأهلية تنشب تحت ضغط هذا الشعور: علي قتله قبل أن يقتلني؟ ولأتغدى به قبل أن يتعشى بي؟!
ولكن لو سيطرت فكرة مغايرة على الناس فقال كل واحد لن أقتل ولو مد يده بالقتل لانطفأت الحروب، ولكن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين. وهنا تأتي معنى الصلاة، أي دور الثقافة في تحرير الإنسان من علاقات القوة، وهو لب التوحيد.
وفكرة الدفاع عن النفس سوف نحاول أيضا تفكيكها أثناء بحثنا عن مشكلة العنف واللاعنف في القرآن.
والحديث الذي يتحدث عن الدفاع عن النفس في وجه لص، هو غير الحديث الذي يتحدث في عدم الدفاع عن النفس تجاه الدولة، فالعمل الفردي الشخصي غير العمل الاجتماعي السياسي، وحينما شجع الحديث المؤمن ان يعرف ركوب الخيل والسباحة والرماية، وأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، فكله يصب في خانة مختلفة عن التغيير الاجتماعي السياسي الذي نتحدث عنه، فأن يعترض شقي طريق أحدنا فنحن مخيرون بين حسن التصرف للتخلص منه بالتي هي أحسن، أو طلب الدولة للتدخل، فهذا عمل الدولة، في الحجز بين الناس وكف العدوان، كما هو الحال في مطافيء الدفاع المدني، التي تهرع إلى إطفاء الحرائق، وهذه هي مهمة الشرطة والجيش، لحجز المعتدين من المرضى النفسيين وأشباههم، وهو أمر حادث وواقع، ويبقى لمن تعرض لهذه المواقف الصعبة في ظل غياب الدولة أن يدافع عن نفسه فرديا بالطريقة التي يردع فيها الشقي عن العدوان، وحديثنا ليس هنا، والأخ لم يستوعب مقالتي وظن أن هذا مثل ذاك، والأمر ليس كذلك، وسوف نحاول استعراض فكرة العنف واللاعنف في الإطار القرآني، من أجل فهم هذه الأفكار متناسقة في حزمة
واحدة، وإلا كذبنا على الله

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف