الكبد الوبائي .. كارثةَ جديدةَ تهدد المصريين (2 / 2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ومازلنا مع قصة انتشار التهاب الكبد الوبائي (فيروس سي)، وهو مرض فيروسي شديد العدوى، يَعِيشُ في مجرىِ الدمّ وينتقل من خلال الاتصال بدمِّ شخصِ مُصَابِ، وغالبا ما يكون المرض، في مراحلِه المبكّرةِ، غير مصحوب بأية أعراض ظاهرة، حيث أن حوالي 60-70 % من المصابين لا يظُهِرِون أي علامات للمرض. وخلافا لبقية الفيروساتِ مثل الحلقة الأولى الأنفلونزا، فإن الغالبية العظمى من مرض الكبد الوبائي لا تزول من تلقاء نفسها. ولنسبة تصل إلى 85 % مِنْ المرضى، تُصبحُ العدوى مزمنة وتَبْقى في مجرىِ الدمّ لمدة 6 شهور أَو أكثر.
ويلاحظ أن التهاب الكبد (سي) المزمن مرض منهك ويترتب عليه الإعياء الشديد، وأعراض مشابهة للأنفلونزا وآلالام العضلات والمفاصل والحمّى والحِكّة واضطرابات النومِ وآلام البطن وتغَيرات الشهيةِ والغثيان والتغييرات الإدراكية والكآبة والصداع والتقلبات المزاجِية. وإذا ترك مرض التهاب الكبد (سي) المزمن بدون علاج لسنوات طوال، فقد يتسبب في سرطان الكبد والتليف الكبدي ثم يؤدي في النهاية للوفاة. وتتطور حالة كل مريض بشكل منفرد، حيث يذهب الباحثين إلى أن عدم العلاج سوف يؤدي في أغلب الحالات إلى تليف الكبد في أقل من 20 عاما، أو على أكثر تقدير خلال 30 عاما. وفي هذه الحالة، يكون الخيار الوحيد هو زرع الكبد وهو ليس خياراً سديداً لأسباب دينية وثقافية فضلاً عن كلفته.
وخلال الفترة السابقة على ظهور مرض التهاب الكبد (سي) أثناء قيام مسئولو الصحة المصريين بمعالجة مرضى البلهارسيا بالحقن الملوثة، لم تكن المشكلة تكمن في عدم إدراكهم لحقيقة أن الطريقة المستخدمة سوف تسهم في نشر المرض. فلم يكن هذا المرض الذي يصيب الناس، في حد ذاته، معلوم على وجه التحديد، بينما كان التهاب الكبد (ألف) و(باء) معلومَين سلفاً بفترة طويلة. وما لبث العلماء في أواخر السبعينات أن اكتشفوا أن مرض التهاب الكبد الذي ينتج عن نقل الدم لا يحدث بواسطة أي من هذين النوعين. وظل الأمر هكذا حتى عام 1989 عندما تم تحديد هذا المرض وتوثيقه كمرض مستقل. ومن المحزن أن اِخْتِصَاصِيُّ الوَبائِيَّات يعتقدون أن ذلك قد يكون أكثر الجراثيم الناقلة للعدوى بواسطة الدم في عالم الطب. والتهاب الكبد (سي) منذ ذلك الوقت، أصبح ينتقل مباشرة عبر الأجيال، أو بمعنى أدق من الأم إلى وليدها من خلال المشيمة.
الوضع الحالي
لا شك أن الحكومة المصرية تعلم العلاقة الوثيقة بين علاج البلهارسيا ووباء التهاب الكبد (سي) منذ 10 سنوات تقريباً. وهو أمر ليس غريباَ في ظل نظام مبارك، وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك محاولات محدودة للإقرار العام بالوضع. وعندما أصبحت العلاقة الآنف ذكرها معلومة للعامة، بدأت صرخات المواطنين المصريين تتعالى ضد افتقار الحكومة للمسئولية وفشلها في اتخاذ الإجراءات المناسبة لمواجهة الأزمة. وقد ذكر البعض أن الناس بدأت تنظر إلى المسألة على أنها إرادة الله، وأن الحكومة إذا لم تقوم بإعلام الناس حول الأساس الحقيقي للمرض، فإن الوضع القائم من غير المحتمل أن يتغير.
وعلى الرغم من حقيقة أن التهاب الكبد (سي) لم يكن نتيجة مقصودة مِنْ حُقَنِ البلهارسيا، فإنه يجب على الحكومة أن تنهض وتقبل المسئولية عن الوضع القائم. الاعتراف بالذنب بالنسبة لهذه الكارثة هي الخطوة الأولى نحو طمأنة الشعب المصري بأن الحكومة أصبحت تأخذ المسألة على محمل الجدِ. فقط بالاعتراف بما حدث وبمدى الانتشار الحالي لمرض التهاب الكبد (سي) في مصر، يمكن للحكومة أن تعالج المشكلة بطريقة فعالة. لا يوجد مصل لعلاج التهاب الكبد (سي) ولكن هناك طرق لمنع انتشار هذا المرض المنهك والقاتل في غالبية الأحيان.
أنه لأمر ضروري أن تدرك الحكومة المصرية خطورة الموقف وأن تقر بمسئوليتها وأن تعمل مباشرة على وضع البرامج في الأماكن التي تضمن وصولها ليس فقط لسكان المدن وإنما أيضا للقرى الفقيرة لتعليمهم كيفية وقف انتشار وباء التهاب الكبد (سي).
إحدى الآثار المترتبة على حملة الصمتِ التي تنتهجها الحكومة أن الناس لا يدركون أنهم مصابون بالمرض حتى يصلوا إلى مراحل متأخرة. الأطباء الذين يدرسون الوباءَ، بالإضافة إلى أخصائيي الكبدِ الذين يُعالجونَ المرضى المصابين بالمرضِ، غالبا ما يقللون من خطورة المرض، ويبدو أنهم يهابون خسارة برامجهم أو حتى وظائفهم. ففي ظل التهديدات التي تَلُوحُ في وجوههم لن يكون بإمكانهم تشخيص المرض وعلاجه بفاعلية.
وعلى الرغم من أن العديد من المرضى لا تظهر عليهم الأعراض في المرحلة الحادة من المرض، إلا أن فحص الدم يمكن أن يكشف المرض في 98% من المرضى وذلك بعد مرور 15 أسبوعاً من الإصابة به.
وفي دولة تواجه هذه النسبة العالية من الإصابة بالمرض، فإن هذه الاختبارات يجب أن تتم بشكل روتيني، خصوصاً في المناطق التي تسجل نسب عالية من الإصابة بالمرض.
عَلاجَ التهاب الكبد
هناك علاج لمرض التهاب الكبد (سي) بنسبة شفاء 82% إذا تم اكتشاف المرض في مراحلِه المبكّرةِ. وبالتالي فإنه من الضروري تشخيص حالة المرضى والبدأ في العلاج في أسرع وقت ممكن. ولهذا السبب فإن شفافية الحكومة والمعالجة الفعالة وبذل الجهود الوقائية من قِبل المجتمع الطبي هي أمور هامة للغاية.
حالياً تتم معالجة التهاب الكبد (سي) بواسطة مزيج من عقارين. الأول؛ "إنترفيرون" interferon) ) وينبغي حقنه مرة أسبوعياً، والثاني؛ "ريبافرين" (ribavarin) وهو حبة تؤخذ مرتين يومياً. و مدّةَ هذا النظامِ العلاجي عادة ما تكون 12 شهربالنسبة لمرض التهاب الكبد (سي) من نمط فيروس4، وهو الأكثر انتشاراً في مصر. وعندما يتم استكمال دورة العلاج، فإن 82 % مِنْ المرضى بالتهاب الكبد الوبائي (سي) نمط 4 يبرأون منه، وهذا عدد جِدّ رائع. العلاج المتوفر حاليا لمرض التهاب الكبد (سي) باهظ الثمن، وعلى كل الأحوال فهو يتراوح ما بين 30،000-40،000 دولار لكل مريض، وهذا النظام العلاجي قد يُسبّبَ أعراضاً جانبية كالأنفلونزا والاكتئاب وفقدان الوزن والنوم المتقطع والهياج والنسيان. كما أن هناك تحاليل الدم التي ينبغي القيام بها خلال فترة المتابعة ويتم بالتبعية إضافتها للتكلفة.
والعلاج الوحيد الآخر لالتهاب الكبد (سي) هو زراعة الكبد. وهذا الخيارِ غير راجح لعدد مِنْ الأسبابِ: 1) أغلى بكثير من الوصفات العلاجية، 2) الأشخاص المصابون بالمرض سوف يُعَرِضوا الكبد المزروع للإصابة أيضا، 3) يرفض الناس في مصر مسألة زراعة الكبد لأسباب ثقافية.
التعليم والمنع
يتضح جليا أن الطريقة المُثلى لمعالجة التهاب الكبد (سي) هي منعه من الانتشار. المرض ينتقل في مصر بطريقة مختلفة تماما عنه في البلدان الأخرى والقيام بحملة وقائية فعالة تستهدف كل من الحضريون والريفيون على حد سواء سوف يسهم في تقليص معدل الإصابة بالمرض في مصر بما يقترب مع معدل الدول الأخرى.
غالبية المصريين يصابوا بالمرض عند طبيبِ الأسنان أَو الحلاقِ، أو في بيوتِهم، أو خلال الاتصال العاديِ بدم ملوث، أَو من الأم إلى طفلها من خلال المشيمةِ. وأوّل الأهدافِ التي يجب أن توضع في الاعتبار هم المحترفين - أطباء الأسنان والحلاقين. فيجب توعيتهم إلى كيفية التعقيم السليم لشفرات الحلاقة و مقلِّمة الأظافروأدوات الأسنان وأية أشياء أخرى قد تلامس دم المريض أو الزبون وهو مما يمنع العديد من الإصابات بالعدوى بطريقة غير مقصودة وغير مطلوبة في ذات الوقت.
يجب على الناس داخل المنازل أن يدركوا ضرورة التخلص من ثقافة مشاركة الأدوات الشخصية. فكل فرد يجب أن يكون لديه ما يخصه من فرشاة الأسنان والمشط ومقلِّمة الأظافر وشفرات الحلاقة والمنشفة ولا يتشارك بهم مع أفراد العائلة الآخرين. وأي دم مُرَاق في المنزل، ينبغي تنظيفه على الفور بالمنظف. وحتى الدم الجاف قد يكون ناقل للعدوى، ففيروس التهاب الكبد (سي) قد يتحمل البقاء على سطوح الأجواء البيئية المحيطة في درجة حرارة الغرفة على الأقل 16 ساعة وبحدود 4 أيام. ويجب على الناس أن يعلموا أن التهاب الكبد (سي) لا ينتقل عن طريق الاتصال الجنسي الأُحادِيُّ الزَّوج ولكنه قد ينتقل بممارسة الجنس مع أكثر من شريك أو الاشتراك في الحقن التي تستخدم للحقن الوريدي بما في ذلك الأنسولين.
وأخيراً،
فإن التوعية أمر سهل وبسيط لمواجهة الوباء. وهناك قدر كاف من الأموال اللازمة لتمويل هذه الجهود. فقط نسبة ضئيلة من الميزانية العسكرية إذا تم توجيهها نحو معالجة ومكافحة مرض التهاب الكبد (سي)، سوف تساهم في تغيير مسار مستقبل الشعب المصري. ففي بضع سنين، بالتعليم والمعالجة السليمة، سوف يضمحل تَفَشّ هذا المرض بشكل مثير. وظيفة الحكومة هي أن تحمي مواطنيها. وبالرغم من أن الحكومة المصرية لم تَعنِِ التسبب في أي ضرر نحو الشعب بمعالجة البلهارسيا، إلا أن النتيجة الماثلة هي أزمة صحية ذات أبعاد خطيرة. فإذا طرقت باب أي مواطن مصري - سواء في مصر أو في الخارج - فسوف تجد على الأقل واحد من أعضاء الأسرة مصاب بالتهاب الكبد (سي). إنه لزاما على الحكومة أن تتولى مسئولية هذا الوباء - سواء ماديا أو معنويا - من أجل صيانة أرواح المواطنين المصريين الآن وفي المستقبل. فمنذ الانقلاب العسكري عام 1952، والحكومة المصرية تشجع الشعب على الانشغال بأمور غير حصرية - بداية بالأمور الخارجية مثل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي وحتى المشاكل الداخلية المشتملة على الطائفية الدينية التي قسمتنا تحت تشجيع من الحكومة. وهذه يشتت الناس عن التركيز في المشاكل الحقيقية داخل الدولة، وبالتحديد سوء الإدارة والفساد المستوطن. يجب على المواطنين المصريين أن يَتعلّموا مُقَاوَمَة التَركيز على هذه الأمورِ الغريبةِ ويبدأوا في التركيز على المشاكل الحقيقية في الدولة. ربما قد يكون هناك شيء ايجابي ينتج عن مأساة التهاب الكبد (سي)، بحيث أنها إذا تركت دون انتباه، فسوف تؤثر على مصر لأجيال وأجيال. الحقيقة أنني أتمنى أن تتسبب هذه الحالة في نفض الشعب المصري من أحلام اليقظة وتحركهم نحو اتخاذ خطوات ثابتة في سبيل حل مشاكل مصر الحقيقية.
ناشط مصري يعيش في الولايات المتحدة