السياسة الأميركية في العراق (3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحل ما يزال ممكنا
في 25/10/2006 رأى السفير الأميركي في العراق خليل زادة أن " النجاح في العراق ما يزال ممكنا". حسنا، كيف؟ إن أمكانية النجاح لا تكمن في إرسال المزيد من لجان أميركية لتقصي حقائق الواقع العراقي، فهذا الواقع أصبح صناع القرار الأميركيون يعرفونه مثلما يعرفون تفاصيل راحة اليد. والنجاح لن يكون بربط مستحقات الواقع
الحل يصبح ممكنا وعمليا، عندما توضح الولايات المتحدة الأميركية ما تريده من أهداف بعيدة المدى في العراق. والحل يصبح ممكنا عندما تؤكد الإدارة الأميركية من جديد، وبطريقة لا لبس فيها ولا غموض، أن ما يقوله الرئيس بوش عن عدم نية بلاده لسحب القوات الأميركية من جانب واحد، هو قضية لا تقبل الجدل، بأي شكل من الأشكال.
والحل يصبح ممكنا عندما تتصرف الولايات المتحدة، قولا وفعلا، أنها لا تحابي أي فريق عراقي على حساب فريق أخر، حتى يعرف جميع العراقيين، بما في ذلك من يعادون العملية السياسية القائمة، ويريدون الآن العودة للمشاركة فيها، بأنهم أمام أميركا "محايدة"، لكنها مصرة على رفض الهزيمة.
وبعدما توضح الولايات المتحدة كل هذه الأمور، فعليها أن تشرع فورا بمعالجة القضايا الخطيرة والملتهبة في العراق، أولا بأول.
وأول هذه القضايا هو، أن هناك الملايين في العراق، هم العراقيون السنة، شعروا بغبن كبير بعد سقوط نظام صدام حسين. إنهم يروون، أنهم أمام حلف أميركي شيعي كردي، يريد أن ينتقم منهم ويقصيهم من كل شيء. وقد يكون هذا الشعور سببه مخاوف وهمية، لا أساس لها، وقد يكون سببه بعض مواقف قادة العراقيين السنة أنفسهم. لكن ليست هذه المخاوف كلها من صنع الخيال، وإنما هي وليدة الوقائع اليومية. وهذا الكلام لم يعد يردده العراقيون السنة وحدهم، إنما بدأ يشاركهم أرائهم هذه، قادة في الأحزاب الشيعية (قال القيادي في التيار الصدري النائب بهاء الأعرجي "إن الطائفة السنية هي أكثر الطوائف تعرضا للظلم في الوقت الحاضر (صحيفة الشرق الأوسط في 25/10/2006).
وقد سجل العراقيون السنة اعتراضاتهم على نصوص الدستور، وسجلوا اعتراضاتهم على سير العملية الانتخابية، وسجلوا اعتراضاتهم ضد فكرة الأقاليم المذهبية، وضد الطريقة التي يتعامل معها الدستور في توزيع الثروات، وضد توزيع المناصب في أجهزة الدولة المختلفة.
والمهمة العاجلة أمام إدارة الرئيس بوش، ومهما كانت نتائج انتخابات الكونغرس (يظل الرئيس الأميركي يحتفظ، حتى لو خسر حزبه الانتخابات ، بصلاحيات دستورية واسعة. وبالإضافة لذلك، فأنه لا يوجد موقف موحد، واضح ومتكامل لدى جميع قادة الحزب الديمقراطي، بشأن العراق، بل أن الحزب لا يملك سياسة بديلة واضحة، للسياسة الحالية) هي، تكوين فريق عمل من أعلى المستويات في الإدارة الأميركية، وليكن برئاسة نائب الرئيس الأميركي، أو على الأقل وزيرة الخارجية أو وزير الدفاع، والأفضل أن يشارك فيه (لأغراض استشارية) مسؤولون حكوميون كبار من المملكة العربية السعودية والأردن ومصر والإمارات والكويت. ثم يشرع هذا الفريق بإجراء مفاوضات مكوكية، ويدشن نشاطه بعقد "خلوة" أو "خلوات" مستمرة، مع قادة العراقيين السنة، الذين يشاركون في العملية السياسية، والذين يعارضونها سلميا، والذين يتزعمون الجماعات المسلحة، ليتم التعرف على ما يريدونه بالضبط. ثم، ينقل الفريق هذه المطالب إلى زعماء قائمة الإتلاف وزعماء القائمة الكردية، والقوائم الأخرى، في خلوات مماثلة مستمرة، يتم عقدها مع زعماء الكتل، مجتمعين، أو زعماء كل قائمة، على انفراد، للتعرف على ردودهم. وهكذا، يستمر الفريق الأميركي، في عقد لقاءات مكوكية توصل الليل بالنهار، حتى التوصل إلى نتائج ملموسة.
ولا نعتقد أن قادة العراقيين السنة سيطرحون مطالب تعجيزية ومستحيلة التطبيق، لأنهم لا يريدون، مثل بقية البشر، أن ينتحروا، ولأنهم ليسوا مجموعة من تلاميذ المدارس الابتدائية، كي لا يدركوا أن الأمور تغيرت، وأن المعادلة التي تأسست عليها الدولة العراقية، كانت معادلة ظالمة وأنها انتهت في 9/4/2003، مرة واحدة وللأبد، ولن تعود مرة أخرى، مهما حصل في العراق. ولا نعتقد أنهم من الحماقة بحيث يربطون مصير ملايين العراقيين السنة بمصير شخص واحد هو صدام حسين، أو بمصير حزب واحد هو حزب البعث، وأن لا يدركوا أن هناك فرق بين البعثيين كأفراد، يجب أن يعاد النظر في طريقة التعامل معهم، وبين البعث كحزب سياسي، ألحقت سياسته وأيديولوجيته خسائر فادحة بالعراق، وبالعراقيين كلهم. ولا نظن أنهم من السذاجة وقصر النظر حتى يربطوا مصيرهم بمصير قتلة مغامرين في تنظيم القاعدة، أو بمصير مجموعة من المتطرفين في مجلس شورى المجاهدين، لا يجدون حلا لمشاكل الكون إلا بالسيف.
ومن الجانب الآخر، لا نظن أن قادة العراقيين الشيعة والأكراد من العناد، أو شطط الخيال، بحيث لم يفهموا بعد، أن مواطنيهم السنة هم رقم صعب في المعادلة العراقية، وأن العراق إما أن يكون لكل العراقيين أو لا يكون. وفيما يخص الموقف إزاء موضوعة "اجتثاث البعث"، فأننا نرى أنه من الصواب (خصوصا بعد أن قال القضاء العراقي كلمته العادلة بحق رأس النظام السابق ومسؤول الحزب الأول، صدام حسين، ومسؤول أجهزته السرية ، برزان إبراهيم، والمشرف على تطبيق "قوانين" البعث، عواد البندر) أن يعي قادة الأحزاب الشيعية، وبالأخص المتشددين منهم إزاء اجتثاث البعث، بأن الوقت قد حان للتفرغ لموضوعة استتباب الأمن وإعادة الأعمار وإشاعة الديمقراطية وإعادة سيادة البلد، وترك المؤرخين يعالجون موضوع العدالة ومعرفة حقيقة ما جرى في حقبة النظام السابق، مثلما جرى في العديد من البلدان التي عاشت الظروف نفسها في حقب تاريخية سابقة.
وعلى أي حال، فان الجانب الأميركي ومعه الجانب العربي يستطيعان، بما يملكان من إمكانيات وعوامل ضغط وأغراء، أن يذللوا ما يظهر من مصاعب، ويقربوا وجهات نظر الأطراف المتصارعة.
إنها مهمة صعبة وشاقة، لكنها غير مستحيلة. وما يجعل الحل ممكنا هو، وجود مادة دستورية تنص على أعادة كتابة بعض مواد الدستور المختلف عليها، لم يتم تفعيلها حتى الآن.والسبب الأخر لإمكانية النجاح يكمن في أن مجلس النواب لم يحسم آلية تطبيق الفيدرالية أو الأقاليم، وأبقى الباب مفتوحا في ما يخص التطبيق العملي، وشكل الفيدرالية.
ونحن نرى انه، قبل أن ينقل الفريق الأميركي مطالب قادة العراقيين السنة إلى الأطراف الأخرى، فمن الضروري أن يحصل منهم، على تعهد، ولو مؤقت ومن جانب واحد، لوقف جميع العمليات المسلحة، فورا، وإنهاء جميع مظاهر التسلح، خصوصا داخل العاصمة والمدن المختلطة طائفيا، ترافق ذلك هدنة إعلامية، أيضا. إن هذه النقطة الأخيرة، لو تمت، فأن من شأنها أن تعطي مصداقية للجانب السني المفاوض، وتظهر للرأي العام العراقي حجمه الحقيقي، وقدرته الفعلية، السياسية والتعبوية، للتحكم في نشاطات المقاومة. ومن جهة أخرى، فان هذا الأجراء، لو تمت ترجمته على الأرض، وحصد الناس ثماره، فأنه سيدفع الشارع العراقي، الشيعي قبل السني، لممارسة ضغط على قادته، ودفعهم للقيام بخطوات مقابلة ومماثلة.
وحالما يتم وضع هذه الهدنة موضع التطبيق، بل وقبل ذلك، فعلى الولايات المتحدة أن تقوم، وبالتعاون مع السلطات الحكومية، بتنفيذ خطوات فورية، دراماتيكية، خارقة وخلاقة وغير مسبوقة، لتحسين الخدمات، وتحريك النشاط الاقتصادي. ثم تشرع ببث روح التفاؤل عند العراقيين، وإفهامهم، بطريقة بعيدة عن الغوغائية والتهريج الإعلامي، وعن طريق نشر تقارير صحيحة، وموثقة بالأرقام حول ما تملكه بلادهم من إمكانيات بشرية واقتصادية، أو ما ستمنحه في المستقبل قروض الدول المانحة، وما يضيفه إلغاء الديون العراقية أو إعادة جدولتها، من قوة أضافية للاقتصاد العراقي، وكيف أن العراق أمامه فرصة حقيقية لتحقيق "معجزة اقتصادية" جديدة، على غرار ما حدث في ألمانيا بعد انتهاء الحرب الثانية، وإن ما يمنع من تحقيق ذلك هو، الصراع الدموي القائم في العراق. وبإمكان الولايات المتحدة أن تستشهد، لتأكيد هذه الفرضية، على ما تشهده منطقة كردستان العراق من نهضة اقتصادية، وكيف أن تقارير غرفة التجارة هناك، تشير إلى تزايد أعداد، ليس المليونيرين الجدد، وإنما عدد المليارديرين، أيضا.
ما يزال العراقيون، رغم الخراب، مفعمين بالأمل، فماذا عن الولايات المتحدة!
في 29 تشرين الأول 2006، نشرت بعض الصحف على صفحاتها الأولى صورة فوتوغرافية كانت قد التقطتها أحدى وكالات الأنباء من العراق. الصورة الفوتوغرافية تظهر أحد الشوارع وقد بدى كساحة حرب حقيقية، حيث ترابط مدرعة عسكرية، ونشاهد جثة مرمية على قارعة الطريق ونيران لحرائق مشتعلة. وفي الصورة، أي وسط الشارع، تظهر امرأة عراقية من عامة الناس، تجاوزت الأربعين من عمرها، وقد حملت في أحدى يديها أصيص زهور"شتلة"، يبدو أنها اشترتها توا من السوق، وعادت بها لتزرعها في بيتها.
هذه الصورة (ونتوقع أن تحصل على أحدى الجوائز العالمية) قد تبدو، في الأوقات الاعتيادية، مبتذلة ويومية ويصادفها المشاهد وهي تمر أمام ناظريه عشرات المرات. ولكن هذه الصورة تصبح ذات دلالة، وتكشف، عندما نراها هذه الأيام، أن العراقيين ما يزالون مفعمين بالأمل، والرغبة بعيش كريم، وحب الجمال، رغم نيران الحرائق وحمامات الدم، ورغم استمرار عمليات القتل التي لا يسلمون منها، في أحيان كثيرة، إلا بمصادفة عجيبة. إننا لا نعرف أي شيء عن "هوية" هذه الإنسانة العراقية: قد تكون مسلمة أو مسيحية أو مندائية، وقد تكون متدينة متعصبة، وقد تكون علمانية، وربما كانت عراقية شيعية أو سنية، مثلما قد تكون مستقلة، أو منتمية إلى حزب ما.هذه المرأة هي رمز لملايين من البشر الذين يكونون المجتمع العراقي، جسدا وقلبا وعقلا. إنهم:
* سواد السكان الحضر الذين يشكلون نحو 75 في المائة من مجموع السكان والذين نشأوا على قيم وطنية عراقية مشتركة، بعيدا عن أي تقوقع ، واعتادوا على مزاولة مهنهم في فضاءات مفتوحة، مذهبيا وعرقيا وعشائريا ومناطقيا، ويؤدون وظائفهم داخل أجهزة إدارية حكومية "عابرة" للمذاهب والطوائف. وهم يدركون أن هذه الروح العراقية الجامعة، لا تمنعهم ولا تحرم عليهم التفرد والاختلاف في حياتهم اليومية.
إننا نرى حشودهم البشرية وهم يؤدون، روحيا، شعائرهم وطقوسهم الدينية في الجوامع والحسينيات والتكايا والصوامع والكنائس. ولكن عندما يعودون إلى همومهم الحياتية اليومية، فأننا نستمع إلى تطلعاتهم المتباينة، وأرائهم الموزائيكية، في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتاريخ، والتي تعكس، ليس فقط، موزائيكهم الديموغرافي "الحضري" العام، إنما موزائيكهم داخل "الحشد" الواحد، أيضا.
* أبناء العشائر الذين تعتمد حركتهم، ليس على نصوص غيبية تسليمية ثابتة ومقدسة، وإنما على قيم دنيوية متغيرة، بتغير الزمان والمكان، والتي قد تتعارض، أحيانا، حتى مع القيم الدينية.
* طلاب الجامعات المنتشرون في كل مراكز المحافظات، تقريبا، الذين اعتادوا على ممارسة حياة جامعية مشتركة، وتشربوا بعادات وتقاليد بعيدة عن الانغلاق.
* أفراد الفئات الوسطى، من تجار وحرفيين وأطباء ومهندسين وحقوقيين وملاك أراضي وصناعيين الذين بدأت الحياة تدب في نشاطاتهم الثقافية والحياتية والحزبية والمهنية.
* النساء اللواتي رحن، منذ ثلاث سنوات، ينظمن أنفسهن بمنظمات لم تعد تحصى لكثرتها، وأصبحت لهن نسبة معينة من مقاعد البرلمان.
* مئات من كبار الضباط والكوادر الوسطية في الجيش العراقي السابق، وآلاف المنخرطين، سابقا، في حزب البعث والذين حلموا جميعا، مباشرة بعد سقوط النظام السابق، بحياة هادئة وكريمة، بعيدا عن الحروب المجانية، والقسر والتعسف.
هولاء الملايين، بمصالحهم وتطلعاتهم المتعددة والمتباينة، هم الذين يشكلون الأكثرية في المجتمع العراقي. لكن هذه الأكثرية أجبرت على الصمت، بعد أن غطى على هدير أصواتها، صخب النخب الدينية السياسية، سواء تلك التي تشارك في العملية السياسية، أو التي ترفضها وتريد إفشالها، وغطت على أصوات هذه الأكثرية، جعجعة أسلحة المليشيات وجماعات العنف، بكل انتمائتها.
إن هذه الأكثرية هي (التربة) التي تحدد نوعية ومصير (بذور) الأفكار التي تزرع فيها. إن كانت هذه التربة شديدة الملوحة فأنها لن تنبت إلا الشوك والعوسج، وإن كانت شديدة الخصوبة، فأنها تنبت التين والزيتون. وبالطبع، فأن مسألة "الشوك" و"الزيتون" تظل، فيما يخص الأفكار، مسألة نسيبة وشديدة الاختلاف، بل والتناقض. فما يراه الإسلامي المتزمت، وردا، يراه السياسي الليبرالي، عوسجا. وما يراه المدافعون عن حقوق النساء، عدالة، يراه خصومهم، تفسخا وانحلالا. وما يراه مناصرو الانفتاح على ما يدور في العالم من تطورات وما يستجد من مواقف وأفكار، تقدما، يراه خصومهم ابتعادا أو تخليا عن التقاليد الوطنية. والعكس صحيح، أيضا. ولكن، الناس، أي الملايين الذين يشكلون أكثرية المجتمع، هم الفيصل، وهم أحرار فيما يختارون، شرط أن تتوفر أمامهم فرص حقيقية لأن يختاروا بملأ حرياتهم وإراداتهم.وما دام عنوان هذه الحلقات هو "السياسة الأميركية في العراق"، فأن السؤال هو: ماذا فعلت سياسة الولايات المتحدة لهولاء الملايين في العراق، وماذا قدمت لهم، خصوصا في المجال الاقتصادي، ونشر الثقافة الديمقراطية، وثقافة التسامح، وسيادة دولة القانون؟
يتبع