السياسة الأميركية في العراق (4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اللحظة العابرة و المستقبل.
طوال السنوات الثلاث الماضيات أتعبت الولايات المتحدة، العراقيين، إلى حد الإعياء، وأتعبت نفسها، عندما بالغت كثيرا في التعامل مع نخب سياسية دينية بعينها، من الشيعة والسنة، بطريقة بدت وكأن هذه النخب هي الممثل "الشرعي والوحيد" للملايين من أبناء طوائفهم، دون أن تتعب نفسها بالإصغاء لأصوات هولاء الملايين أنفسهم، والتعرف،
بالطبع، أن ما قلناه لا يعني، بأي حال من الأحوال، ولا بأي شكل من الأشكال، أن هذه النخب لا تمثل أحدا، ولا يعني أن الأحزاب الدينية السياسية ليس من حقها أن تبشر بآرائها، مهما كانت هذه الآراء، وتدافع عنها، وتقنع الناس بقبولها، وتنشط من أجل تحقيقها. هذا كله من حقها، تماما، مثلما هو حق للقوى الأخرى المختلفة معها، شرط أن يتم ذلك وفقا لما أقره الدستور العراقي وحده، وما تبيحه القوانين المرعية، الرسمية، وحدها.
إن ما أردنا قوله هو، أن هذه النخب السياسية الدينية الحاكمة، وغير الحاكمة، على اختلاف طوائفها، تريد أن تمسك بلحظة تاريخية عابرة ومؤقتة، هي اللحظة التي يعيشها حاليا المجتمع العراقي، وتجعل منها، بوسائل غير تلك التي أقرها الدستور، منطلقا وأساسا، وتبني عليها مشاريع إستراتيجية مستقبلية للعراق كله، وفقا لتصورها هي، ورغباتها.
ولكي تحقق هدفها هذا، فأن هذه النخب تجاهد بكل ما لديها من إمكانيات وطاقات ووسائل، باتجاه شل حركة المجتمع، أو تعطيلها بالكامل، لأطول فترة زمنية ممكنة، من أجل إثبات أن ما نسمعه من ضجيج، وما نشاهده من أحداث فوق سطح المجتمع، يتطابق ويتناغم بالكامل مع إيقاع ما يحدث في أعماق المجتمع. أو بمعنى آخر، أن هذه النخب تريد إثبات أن حراكها هي، هو حراك المجتمع بأكمله. وهدف كهذا لا يتحقق إلا ب"تشغيل" "هوية" واحدة بعينها عند الفرد العراقي، وتعطيل "الهويات" الأخرى، أو على الأقل، تصويرها وكأنها نوعا من أنواع الترف، أو تصويرها وكأنها هويات مصطنعة.
"هويات" عراقية أم هوية واحدة ؟
فالمعروف أن الفرد العراقي الواحد (وهذا ينطبق، بالطبع، على المجتمعات الأخرى في العالم، وفقا لظروف ولطبيعة كل مجتمع) يحمل داخل ذاته، وفي آن واحد، ليست "هوية" واحدة، وإنما عدد من الهويات: هوية الدولة- الأمة، أي جنسيته العراقية/ هويته الجنسية، أي ذكر أو أنثى/ هويته العرقية، أي عربي أو كردي أو تركماني ... الخ/ هويته العشائرية، أي العشيرة التي ينتمي إليها/ هويته الدينية، أي مسلم أو مسيحي أو صابئي/ هويته المذهبية، أي شيعي أو سني أو كاثوليكي أو بروتستانتي/ هويته المناطقية، أي من هذه المنطقة أو تلك أو من هذه المدينة أو تلك/ هويته المهنية، أي طبيب أو كناس أو عسكري ... الخ/ هويته الطبقية أي غني أو فقير أو من الطبقة المتوسطة/ هويته العمرية، أي شاب أو شيخ/ هويته السياسية، أي ينتمي لهذا الحزب أو ذاك/ هويته الأيديولوجية أي إسلامي متشدد أو علماني، أو ماركسي أو ليبرالي، وهكذا.
كل هوية من هذه الهويات هي، "انتماء"، له همومه الخاصة، ومشاكله الخاصة، وحتى "لغته" الخاصة ( للمثال وليس للحصر: مفردات القاموس العشائري داخل المضيف تختلف عن المفردات القاموسية للحضر داخل المقاهي، وهموم النساء تختلف عن تلك التي عند الرجال، وتطلعات الشباب تختلف عن تطلعات الشيوخ، وهكذا) وتترتب عليه التزامات وحقوق وواجبات.
هذه الهويات بإمكانها أن تتعايش، بتآخي وبسلام، وفي آن واحد، داخل الفرد الواحد، فيقول هذا الفرد بأنه: رجل/عراقي/عربي/مسلم/شيعي/من طبقة فقيرة/من العشيرة الفلانية/ من المدينة الفلانية/ يمارس المهنة الفلانية/ينتمي للحزب الفلاني (ويمكن، بالطبع التنويع على هذا المنوال). وهذا الفرد عندما يقول ذلك، فأنه لا يجد، في داخله، تعارضا، أو تناقضا بين هذه الهويات المختلفة، وهذا ما نقصده بتآخي الهويات.
إما تراتبية هذه الهويات وتحديد أي منها الهوية الكبرى أو الأكبر، وأي منها الصغرى، أو الأصغر، فان ذلك يعود للفرد نفسه، أي لوعيه الذاتي. فهناك عراقيون اختاروا أن تكون الهوية العشائرية هي الهوية الكبرى، فماتوا دفاعا، ليس عن العراق "الوطن"، ولكن عن العشيرة التي ينتمون إليها، بوجه العشائر الأخرى، التي هي "عراقية"، أيضا. وهناك من أعتلى المشانق، أو خسر الكثير، دفاعا عن الحزب السياسي الذي ينتمي إليه، أي "هويته السياسية". وهناك من مات دفاعا عن المذهب الديني أو الطائفة التي ينتمي إليها. وهناك من مات دفاعا عن الديانة التي يعتنقها. وهناك من سجن وفصل من وظيفته، وربما مات، دفاعا عن مطالبه النقابية. وهناك من مات دفاعا عن انتمائه العرقي، أو هويته القومية، وهناك من فقد روحه دفاعا عن مصالح وطنية عامة "هويته العراقية".
وباستثناء هوية الجنس والعرق اللذين يكتسبهما الفرد، بايولوجيا، فأن جميع هذه الهويات، هي هويات غير ثابتة ومتغيرة، بما في ذلك الديانة والمذهب، بل حتى الهوية العشائرية ( في العراق يوجد مصطلحان عشائريان هما "يذب جرش" و"يكسر العصا". والاثنان يعنيان أن يغير الفرد عشيرته، مخيرا أو مجبرا).
وتراتبية هذه الهويات،هي الأخرى متغيرة. وإعادة ترتيبها، تحدث إما بملأ الاختيار الحر للفرد، أو بالإجبار، أي بفعل عوامل خارجية. فقد يقضي فرد ما (وما دمنا نتحدث عن العراق) فنقول عراقي ما، شطرا من حياته، دفاعا عن هويته الوطنية "العراقية" باعتبارها "الهوية الكبرى" أو "الأكبر"، ويعتبر الهويات الأخرى هويات صغرى. لكن هذا الفرد نفسه قد يرى لاحقا، إن هويته الطائفية أو المذهبية أو العرقية هي الهوية الكبرى، فيقول: أنا شيعي أو سني أو كردي أو تركماني، قبل أن أكون عراقي. وقد يبدأ فرد عراقي آخر، حياته وهو يعتبر هويته العشائرية هي، الهوية الكبرى، لكنه ينتمي لاحقا إلى حزب سياسي ما، فيرى أن هويته السياسية هي هويته الكبرى، وليست هويته العشائرية. ولو كان عندنا متسعا من الوقت، لأوردنا مزيدا من حالات حية وملموسة حول هذه النقطة.
وهذا التغيير في تراتبية الهويات هو أمر طبيعي، وحق من حقوق الأفراد، ما دام يتم وفقا لرغبات الأفراد، وبملأ حرياتهم. لكن هذا "التغيير" في سلم أولويات الهوية، يصبح تعسفيا، ويشل حركة المجتمع الطبيعية، ويلغي تنوعه، إذا تم بالقوة، ترهيبا أو ترغيبا. وهذا ما يحدث حاليا داخل المجتمع العراقي. فما يحدث فوق سطح هذا المجتمع، الذي يربو عدد نفوسه نحو خمسة وعشرين مليون نسمة، يجعل المرء يعتقد، أن الداينمو الوحيد الذي يحدد حركة العراقيين هو، الداينمو المذهبي، أو الإثني، أو كأن لا اصطفاف داخل المجتمع، سوى الاصطفاف السني الشيعي، وما من هموم أخرى للناس، غير هذا الهم: لا نشاط نقابي مهني، ولا حركة نسوية ناشطة، ولا نشاط شباب مطلبي، ولا نشاط حزبي متنوع في برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا حركة مطلبية لأبناء الحي الواحد المختلط، أو المدينة الواحدة المختلطة. كل شيء يبدو معطلا، أو هو معطل، فعلا.
وللإمعان في تعزيز هذا الاصطفاف الثنائي، فأنه أصبح من المألوف أن تستخدم القوة المجردة أو المعنوية لقمع أي حالة من محاولات التنوع، أو الخروج عن هذه الثنائية، فيتم اضطهاد الفرد الذي يتمسك بهوية أخرى، من خارج هذه الثنائية، أو يتهم بالخيانة، أي خيانة هذه الثنائية، وبالتالي خيانة الطائفة التي ولد فيها ( يتردد هذه الأيام مصطلح "جحوش الشيعة" لتوصيف العراقيين الشيعة الذين يعارضون طروحات الأحزاب السياسية الشيعية الحالية). وبالمقابل، فان الفرد الذي يدافع عن هذه الثنائية، أو لا يتمرد ضدها، تتم مكافأته، حتى لو كان فاسدا أو مرتشيا، أو كذابا.
وكما قلنا توا، فأن النخب السياسية الدينية، المشاركة في العملية السياسية والمعادية لها، الشيعية والسنية على السواء، تجاهد، بكل ما لديها من طاقات، وبكل ما لديها من وسائل، من أجل تصوير اللحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها المجتمع العراقي وهي، كما يعرف الجميع، لحظة محتقنة واستثنائية ومؤقتة، باعتبارها (الصح) الذي لا (يصح) إلا هو، لا في الوقت الحاضر، فحسب، وإنما لا يصح إلا هو، في المستقبل، أيضا. وهنا، قد يكون مفيدا أن نتذكر ما قاله السيد عمار الحكيم، نجل سماحة السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، في شهر آب 2005 بأنه" إذا كان الأمر يتطلب تسمية للجمهورية العراقية المقبلة، فلأحرى أن تكون جمهورية العراق الإسلامية الفدرالية". من الواضح أن السيد الحكيم، أو، بالأحرى، القوى الإسلامية التي ينتمي إليها، كانت تريد الإمساك بلحظة تاريخية عابرة وتجعل منها أساسا لتحديد مستقبل البلاد بأكملها. ولكننا نعرف الآن، أن ما طالبت به تلك القوى لم يحدث، ليس لأنها اقتنعت بأن مطلبها غير صحيح، ولكن توازنات الواقع أجبرتها على التنازل. وفي هذه الأيام بدأت قوى سياسية إسلامية سنية متطرفة، مستغلة اللحظة التاريخية الراهنة، الحديث، أو بالأحرى شرعت، في تأسيس إمارة إسلامية في المناطق الغربية من العراق. ولكن قوى عراقية من نفس المنطقة والديانة والمذهب، بدأت تتصدى لهذه الإمارة، ومقاتلة المطالبين بتأسيسها.
إن الرهان، ومن أي جهة جاء، على لحظة تاريخية مؤقتة، و"تحنيطها"، وبالتالي، التعامل معها كاستنتاج استراتيجي مستقبلي، هي مهمة تتسم بقصر النظر، ولا تريد الاتعاظ بتجارب التاريخ في العراق وفي غيره. وهذه التجارب من الكثرة بحيث تستعصي على الاستشهاد، لكننا سنذكر حالات قليلة جدا.
تجارب
1) بعد الاحتلال البريطاني للعراق في بداية عشرينات القرن الماضي، حدثت ضده ثورة قادتها العشائر العراقية، بالتعاون مع رجال الدين. ووفقا لسيرورة تلك اللحظة التاريخية، وطبيعة القوى القائدة خلالها، فقد كان من المفترض أن صيرورة المجتمع العراقي ستكون مطابقة لرؤى وقيم وتصورات القوى القائدة في تلك اللحظة. لكن الذي حث لاحقا هو، أن المجتمع العراقي، عندما استأنف نشاطه الاعتيادي، فانه أخرج من رحمه قوى سياسية واجتماعية، استطاعت أن تفرض قيمها، وهي قيم لا تتعارض بالضرورة، وكليا، عن القيم العشائرية والدينية، ولكنها، مع ذلك قيم جديدة.
2) بعد ثورة 14 تموز 1958، نشأ وضع سياسي أتاح لقوى اليسار العراقي، يتقدمهم الحزب الشيوعي، أن تنشر تصوراتها الخاصة، وتكسب الشارع العراقي. وقد استطاع الحزب الشيوعي أن يحشد عام 1959 تظاهرة اشترك فيها مليون شخص، في بلد لا يتعدى سكانه سبعة ملاين،آنذاك. ولكن ما حدث بعد ذلك كشف أن المجتمع العراقي في تلك الأيام، كان يتحرك وفقا للحظة تاريخية عابرة، قد تكون تركت بصماتها العميقة، لكنها كانت تخفي تحت سطحها اتجاهات اجتماعية مختلفة.
3) منذ ثلاث سنوات تشهد المناطق الغربية والوسطى وبعض أجزاء في المنطقة الشمالية (محافظات الانبار وصلاح الدين وديالى والموصل وكركوك)، نشاطا يكاد أن يكون طاغيا، ومتصاعدا، للفكر الإسلامي الأصولي. والسؤال الذي نطرحه، هنا، هو: هل هذا النشاط الحالي نتاج للحظة تاريخية مؤقتة، أم هو سيرورة طبيعية وامتداد للإرث السياسي الأيدلوجي الذي عرفته، تاريخيا، هذه المناطق ؟ لو عدنا إلى التاريخ، لوجدنا أن هذه المناطق لم تكن يوما من الأيام، حاضنة لأفكار الإسلام السياسي المتطرف، بقدر ما كانت موطنا للأفكار القومية العروبية العلمانية، أي حزب البعث، حركة القوميين العرب، وما يماثلهما. ووفقا لما يراه بعض الباحثين، فأن هذه المناطق شهدت، منذ أربعينيات القرن الماضي، محاولات لتأسيس حركة الأخوان المسلمين، خصوصا تلك المحاولات التي قام بها الشيخ محمد محمود الصواف (1914-1992)، لكن تلك المحاولات لم تثمر. وقد نشط في منتصف الأربعينيات أخوانيون مصريون كانوا يعملون بالعراق كمدرسين، يقودهم شخص أسمه الشيخ محمد عبد الحميد. لكن هذا الأخير توصل إلى نتيجة، وأعلن ذلك من على المنبر، وفقا لرواية الشيخ الصواف نفسه: "إن العراق لا يصلح للدعوة، ولا تصلح له بسبب الفساد الذي استشرى والإلحاد الذي انتشر، والشيوعية التي أخذت بزمام الأمور" (د. رسول محمد رسول، من باب الموصل إلى باب الحلمية، صحيفة الإتحاد في10/01/2006).
وبالطبع، عندما يقول هذا الداعية "العراق لا يصلح للدعوة"، فإنما كان يقصد، تحديدا، المناطق السنية، لأن حركة الأخوان المسلمين لا تنشط إلا في هذه المناطق السنية. قد يقول قائل، إن الظروف تغيرت منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه. وهذا كلام صحيح. لكن، أليس صحيحا، أيضا، أن يقال، أن سكان هذه المناطق يفكرون ويتصرفون، هذه الأيام، وفقا لما تمليه عليهم اللحظة المؤقتة التي تعيشها مناطقهم، ويعيشها العراق كله. ويكفي أن نستعيد للأذهان، الحراك السياسي المنفتح الذي شهدته هذه المناطق خلال الأشهر القليلة التي أعقبت سقوط نظام صدام، وما تشهده حاليا من انغلاق وتقوقع.
4) المعروف أن ايطاليا كانت قد توحدت عام 1870 وأصبحت ملكية دستورية مثل بريطانيا، ولكن التقاليد الديمقراطية فشلت في أن تتطور، لان الحكومات وقتها كان يديرها سياسيون فاسدون، وسيلتهم الوحيدة للفوز بالانتخابات كانت الرشوة وشراء الذمم، وحالما يصبحون في السلطة فأنهم كانوا يتفرغون لتطمين مصالحهم الخاصة، أكثر من حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للبلاد. وظلت تلك الحكومات دائما رمزا للفساد والانحطاط، لا تحظى بثقة الشعب ولا باحترامه. وتلك الظروف التي لم تتغير كثيرا بعد الحرب العالمية الأولى هي التي جعلت موسوليني المولود عام 1883 أن يصبح رئيسا للوزراء عام 1922، وتتصاعد شعبية حزبه، ليرتفع عدد أعضاء الحزب الفاشي من عشرين ألف عام 1920 إلى 248 ألف عام 1921 ثم إلى 300 ألف عام 1922 . ونعرف جميعا كيف تطورت الأمور بعد ذلك، وكيف أخرج المجتمع الإيطالي من رحمه قوى فرضت نفسها، وتم التخلص من موسوليني وحكمه الفاشي، و أصبحت ايطاليا، لاحقا، واحدة من الديمقراطيات في العالم.
5) وفي ألمانيا، وبعد دحر النظام الهتلري، وجد الحلفاء أمامهم سكان مثقلين بالإحباط والهزيمة، بذهن مشتت ومعنويات هابطة، يلفهم الخوف من روح الانتقام الداخلي، خصوصا عند أعضاء الحزب النازي الذين كان عددهم يربو على سبعة ملايين، إذا حسبنا أصدقائهم وأفراد عائلاتهم. لقد كانت تلك أيام عصيبة، حيث تم سحق الحزب النازي ومنعه من ممارسة النشاط السياسي واعتقال أكثر من 200 ألف من النازيين، فقط في المنطقة الغربية، وتقديم نحو 100 ألف منهم إلى المحاكمات، وتنفيذ أحكام الإعدام بحق نحو 800 منهم. وشهدت تلك الأيام انهيار الدولة أو بالأحرى اختفائها، خصوصا خلال السنوات الأولى. وبسبب سيادة وترسخ العقيدة العسكرية، والنزعة الحربية التوسعية، وطغيان أفكار ومشاعر الاستعلاء الشوفيني العنصري، عند الألمان، فأن مخاوف حقيقية كانت تراود الكثيرين، بشأن نجاح النظام الديمقراطي الليبرالي عند دحر النازية. ولكن، بعد التأكد من أن النازية قبرت إلى الأبد وأصبح الألمان، قبل قوات الحلفاء، على قناعة تامة بذلك، اتخذت الأمور منحى آخر، وبدأت عملية دمقرطة البلاد تتقدم، ولكن رويدا رويدا. وحتى الشخصيات الألمانية التي قادت، لاحقا، ألمانيا في طريق التقدم الاقتصادي والتطور الديمقراطي، أمثال كونراد اديناور وتيدور هس وصحبهم، الذين لم تلوثهم أفكار النازية، فقد سطع نجمهم في البداية في الانتخابات المحلية، ولم يصبحوا قادة وطنين، إلا بعد مرور أربع سنوات على انتهاء الحرب، أي في الانتخابات العامة التي جرت عام 1949 .
يتبع الحلقة الأخيرة: الصدمة والترويح، بدلا من الصدمة والترويع