في البَدء كانت الكلمة: حوار مع القراء (3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بين حين وآخر أشارك القراء الكرام في تعليقاتهم على مقالاتي وذلك إكمالاً للصورة، إذ أعتقد أن هذا التقليد مفيد، فالكاتب والقارئ هما وجهان لعملة واحدة، والقراء هم مصدر إلهام الكاتب، والكاتب هو قارئ أيضاً. وعليه أختلف عن أحد الكتاب في إيلاف سابقاً، عندما استخدم أسلوب الغمز واللمز، منتقداً إياي لأني أحياناً أرد على تعليقات القراء. لذا أرى أن التواصل وتبادل الآراء بين الكاتب والقارئ مسألة مفيدة.
بعد نشر مقالتي الأخيرة (عن ندوة الأكاديميين العراقيين في فيينا ) نشرت إيلاف نحو تسعة تعليقات، وبعضها لم ينشر، أعرف ذلك لأن هذا البعض يرسلون ردودهم لي مباشرة مع شكواهم من عدم النشر، سواءً كانت مع أو ضد ما جاء في المقالة. على أي حال أود في هذه المناسبة مناقشة بعض الردود، لأن هناك تركيز مكثف على مسألة مهمة صارت تتكرر باستمرار، ليس على مقالاتي فحسب، بل وعلى مقالات معظم الكتاب الليبراليين، وكأنها قادمة من جهة معينة واحدة، إسلاموية أو استخباراتية بعثية معروفة بمواقفها المعادية لليبراليين، ومصابة بهوس العداء للديمقراطية، وإلحاحها الشديد في إسكات الأصوات الحرة التي تفضح أعداء الكلمة الخيِّرة و حرية التعبير والتفكير. وفي نفس الوقت أشكر الأخوة الذين وقفوا معي مؤيدين لما جاء في المقالة، وكذلك الذين وجهوا نقداً بناءً لخدمة الحقيقة.
ومن هذه الردود التي أود التعليق عليها، رد القارئ تحت اسم (الصريح) وبعنوان( ليالي الأنس) ليذكرنا بأغنية الفنانة الطيبة الذكر الراحلة اسمهان (ليالي الأنس في فيينا) وكأن أي لقاء في فيينا هو للأنس فقط حتى ولو كان لقاءً فكرياً من قبل مثقفين عراقيين حرموا من وطنهم بسبب مظالم الفاشية البعثية وأيتامهم الإرهابيين بعد سقوط نظامهم الجائر، لمناقشة محنة شعبهم وكيفية الخروج منها. ويا لسخرية القدر أن "الصريح" هذا رغم ادعائه الصراحة، إلا إنه لم يجرأ حتى بذكر اسمه الحقيقي، فيقول الأخ متهكماً: "ليالي ألانس في فينا، هي الدواء الذي سيقضي على كل مشاكلنا وبلاوينا في العراق, مثلما كانت المعارضه سابقا لا هم لها سوى عقد الندوات؟ وحين تقلدوا المناصب؟؟ أنكشف المستور وطلعوا حراميه؟ لك الله يا وطني؟ يا من أصبحت مستنقع للدماء؟ ومشكورة جهود ليالي ألانس في فينا".
كما وكتب قارئ آخر باسم (جاسم) تعقيباً لا يختلف عن تعقيب صاحبنا (الصريح) وربما هو نفسه، من يدري، فإننا نتحاور مع أشباح، بعنوان (نخب معزولة) قال فيه: "نخبة معزولة عن الواقع تفكر في صالونات والواقع في مكان آخر. هؤلاء لا يزالون يعتقدون أن الواقع مصنوع من الكلمات وان الكلمات تصلح الواقع وتشير إليه مع أن الكلمات خارج سياق التطور الاجتماعي هي هواء (ربما يقصد هراء). لكن هذه طبيعة كل النخب العربية حين تفشل في صياغة التاريخ الاجتماعي تعوضه بالندوات.".
هذا النوع من المعلقين نعرفهم على حقيقتهم ونعرف مقاصدهم، إذ كانوا ضد المعارضة أيام العهد البعثي الساقط وضد العراق الجديد بعد سقوطه الأبدي، وبدلاً من إلقاء اللوم على الفاشيين الذين أحالوا العراق إلى "مستنقع للدماء" نراهم اليوم يلوموننا نحن أعداء الإرهاب وضحاياه، ويريدون إسكاتنا حتى عن مناقشة مأساة شعبنا. وكأن لسان حالهم يردد مع أسيادهم البعثيين: "الكلام ممنوع... أما أن نحكمكم بقيادة صدام حسين بالقبضة الحديدية أو نحرق العراق"، والأسوأ من ذلك أنهم يلقون اللوم في هذا الحريق على الضحايا. فالذين يسفكون دماء العراقيين الآن هم أنفسهم الذين حكموا العراق لأربعين عاماً وزجوا بشعبه في الحروب الداخلية والخارجية، واستخدموا الغازات السامة في حلبجة والأهوار، وقاموا بمجازر الأنفال وغطوا أرض العراق الطاهرة بالمقابر الجماعية. إنهم يعرفون جيداً بأنهم منبوذون من الشعب ولا يمكن أن يحكموا العراق عن طريق صناديق الاقتراع لذلك لجئوا إلى الإرهاب لفرض حكمهم على الشعب بالقوة الغاشمة قائلين: "أيها الشعب العراقي، أما أن نحكمكم رغم أنوفكم أو نقتلكم ونحيل العراق إلى مستنقع للدماء". نؤكد للسيد "الصريح" وزملاؤه (جاسم وأبو سفيان ومن لف لفهم) إن ما يجري في العراق على أيدي مجرمي البعث وحلفائهم التكفيريين ليس جديداً، ولكن للتاريخ منطقه الخاص المنصف، إنه يمهل ولا يهمل، وسوف تنتهون كما انتهى حبيبكم وسيدكم صدام في مزبلة التاريخ.
نعم لقد التقى العراقيون وأصدقائهم في ندوة الأكاديميين في فيينا بكل فخر واعتزاز، من مختلف الشتات للبحث في المحنة العراقية ومستقبله الزاهر، ولم ينزلوا فنادق الخمسة نجوم، بل فتح العراقيون المقيمون هناك لهم قلوبهم وبيوتهم لإسكانهم مع عائلاتهم، وقد ذكر ذلك بشيء من التفصيل الصديق الدكتور قاسم العكايشي في مقالته بهذا الخصوص. إن أيتام العهد الصدامي البائد يريدون ملاحقتنا حتى في منافينا وحرماننا حتى من التعبير عن آلام شعبنا، وهذا ليس بالأمر الغريب في مذهب البعث الفاشي، لأن في عراق البعث، وكذلك في سوريا البعث الآن، ممنوع على المواطن فتح فمه حتى لطبيب الأسنان، كما يردد المبتلون بهذا النظام الفاشي المقيت.
نسي أعداء الكلمة أن الكلام هو نتاج العقل، يميِّز الإنسان عن الحيوان، وهو الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الإنسان عن أفكاره وينقلها للآخرين وللأجيال القادمة. ولو اتبعنا نصيحة هؤلاء في منع الكلام لتوقف التطور والحضارة وعاد الإنسان كالحيوان الأبكم، صم بكم عمي فهم لا يفقهون. وحسب منطق أعداء الكلمة من أيتام البعث، يجب حرق جميع الكتب وغلق المدارس والمعاهد العلمية والجامعات والمكتبات ووسائل الإعلام، لأن كل هذه المؤسسات تعمل بالكلام ونشر الكلام. وبالتأكيد مصادرة حرية الكلام هي من أهم أسباب تخلف الدول العربية، فهذه الدول هي الوحيدة التي تصادر الكتب وتمنع الأفكار النيرة وتغتال المفكرين.
إن هؤلاء يرددون بعض العبارات التي حفظوها على ظهر القلب كالببغاء، دون أن يعوا معانيها ومناسبة قولها. نعم هناك أقوال وأفعال، وهناك حِكَمُ تمجد العمل على القول، ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نصمت صمت البهائم. فالأعمال هي نتاج الأفكار. والغريب أن الذين يطالبوننا بالسكوت، يبيحون لأنفسهم مواصلة الكلام والضجيج. هناك فرق بين الكلام الضجيج الفارغ والكلام المفيد. نحن نعتقد أن الدفاع عن حق الشعب في الحياة الحرة الكريمة والديمقراطية كلام مفيد، وكل ما يناقض ذلك كلام شرير القصد منه خدمة الشر.
ويشارك القارئ (أبو سفيان) زميليه (الصريح) و(جاسم) بنفس التهكم، ما عدى استخدامه لبعض الألفاظ الضخمة مثل "ضرورة تاريخية وميتاتاريخية قد تفوق بأهميتها التاريخية" ليعطي انطباعاً بأنه مثقف من وزن ثقيل!! أعتذر للقراء عن جهلي لمعنى (ميتاتاريخية) ولا أدري ما المقصود من هذه المفردة، وهل هو خطأ طباعي أم مصطلح استخدمه السيد أبو سفيان على غرار (meta-analysis) الذي يستخدمه الباحثون في تحليل البحوث التحليلية أي (تحليل التحليل)، والله أعلم!!!!
ليس غريباً أن يشاكس أبو سفيان كل ما يكتبه الليبراليون، بل الغريب أن لا يشاكسهم، والأسوأ إذا وافقهم في الرأي لا سامح الله!! فالرجل دافع عن صدام حسين في مناسبات أخرى تحت اسم "أبو سفيان"، وشتم أعداء صدام باسمه الصريح في مقالات نشرت هنا وهناك متهماً إياهم بالعمالة لأمريكا وذلك قبل أن ينكشف أمره على حقيقته فيطرد من جميع وسائل الإعلام، فلم يبقى لديه سوى بث سمومه وشتم أعداء صدام متخفياً وراء أسماء مستعارة. ويواصل (أبو سفيان) تهكمه قائلاً: "لا شك أن المشروع الديمقراطي الذي استأثر بفكر الدكتور يستحق المجازفة وركوب الأهوال...". يا أبا سفيان لقد بدأتُ بالترويج للديمقراطية ومعارضة حكم الطاغية منذ نهاية عقد الثمانينات وباسمي الصريح ولم أبالي بالأهوال ولا أريد التزكية منك. كما وقد حضرت مؤتمرات وندوات وشاركت في معظم الفعاليات ضد النظام الجائر دون الادعاء بالبطولة وقبل سقوط نظامه الجائر. وكون نظام صدام سقط إلى غير رجعة لا يمنعنا من إدانته ومواصلة عملنا لمنع ظهور صدام آخر أو أي حزب فاشستي يحل محل البعث وتحت أسماء أخرى وبنفس الآيديولوجية الفاشية. فمن يقرأ تعليقاتك يعرف أن فكر البعث مازال يعشش في بعض الرؤوس. لقد سقط صدام وبقيت الظاهرة الصدامية، ومعركتنا الحالية هي للقضاء على الصدامية ومخلفاتها العفنة ومرتزقتها من أمثالك. فالبعث الذي نهب ثروات الشعب العراقي مازال قادراً على قتل الضمائر وشراء المرتزقة.
ولكن يا أبا سفيان مهما لعبتم على الحبال كبطل السيرك، فلن يبقى إلا من أتى الحق والشعب بقلب سليم ونوايا طيبة. نعم يا أبا سفيان، أنت تقولها بتهكم ونحن نقولها بصدق وجد: "بوركت أقلامنا النيّرة التي تضيئ دروب الحرية والمجد والخلود.." وبوركت أقلام كل الخيرين من أصدقاء شعبنا الذين يقفون معه وجميع الشعوب المناضلة من أجل الخلاص من نير الأنظمة المستبدة، ونيل حقوقها الكاملة في الديمقراطية والحياة الحرة الكريمة. ومهما عملتم من صخب وضجيج عال، فـ(العربات الفارغة هي التي تعمل ضجيجاً عاليا)ً كما يقول أرنست همغوي، ومهما تصاعدت أعمال القوى الظلامية وأنصارهم من مثقفي الكوبونات النفطية، فنحن واثقون ثقة مطلقة بأنفسنا وبحق شعبنا وانتصار قضيته العادلة ومستقبله الزاهر، ونذكركم بالحكمة القائلة: "إن ظلام العالم كله لا يقوى على إطفاء شمعة".
كما وكتب قارئ باسم (انترنيتى) تعقيباً بعنوان (الأمن قبل الديمقراطية). ويسألني: "ألم تقرأ الصحف البريطانيه يا دكتور وهنا بايلاف تقول الصحف البريطانية: الأمن لا الديموقراطية هو مفتاح العراق."
أولاً، لا أعيب على القارئ (إنترنتي) إذا لم يقرأ مقالاتي السابقة، بل أؤكد له إني كنت ومازلت من أوائل الذين طالبوا ببناء الدولة القوية ومؤسساتها الأمنية أولاً لضمان الأمن قبل الديمقراطية وذلك قبل أن تنشر الصحف البريطانية مثل هذه الأفكار بعامين، ولكن كما قيل بحق:(مغنية الحي لا تطرب!!). وإلى السيد السائل هذا الرابط ليتأكد بنفسه (لمواجهة الإرهاب.. الأمن أولاً والديمقراطية ثانياً ). ومع ذلك فهذا لا يمنعنا من الترويج للديمقراطية قبل استتباب الأمن، لأن كل شيء يبدأ على شكل أفكار ثم تترجم الأفكار إلى واقع. نؤكد مرة أخرى أن هذا الصراع الدامي في العراق هو معركة حامية الوطيس بين أنصار الديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة وبين أعدائها الذين يريدون مصادرة حق الشعب في حكم نفسه بنفسه من جهة أخرى، ويريدون حكمه بالنار والحديد رغماً عنه. نؤكد لهؤلاء أن عهد الاستبداد قد ولى وإلى الأبد.
كذلك يعلق القارئ (حيران) بعنوان (بسكويت الدكتور وفينا) فيقول لا فظ فوه: " لا أدري هل أضحك أم أبكي؟ يا دكتور أنت وكل الدكاترة المحترمين والشاعرة التي فجرت دموع بعض السيدات؟ ذكرتموني بالملكه ماري أنطوانيت حين خرج الشعب جائع ويطالب برغيف الخبز؟ وقالت مقولتها الشهيرة؟ أعطوهم البسكويت؟ ندواتكم ومهرجانتكم, ومقالتكم؟ هو أشبه بالبسكويت الذي تريدون أن تطعموا به الشعب المغلوب على أمره.".
يا سيد حيران، الله لا يحيِّر عبده، كما يقولون. إن الشاعرة بلقيس التي فجرت الدموع في مآقي الحاضرين بقصائدها، يقابلها في العراق الإرهابيون من "مقاومتكم الشريفة" الذين يفجرون الأبرياء من بنات وأبناء شعبنا، ويجعلونهم أشلاءً متطايرة بمفخخاتهم والتي تتلقى المباركة والدعم منكم ومن الجماهير العربية التي تحيي هذه التفجيرات بصيحات "الله أكبر" وتقدم التهاني لذوي الانتحاريين بدلاً من التعازي. تفجير الدموع بالقصائد أفضل ملايين المرات من تفجير الأبرياء بالمفخخات يا رجل!!
كما وإن التي تمثل دور الملكة ماري أنطوانيت، هي السيدة ساجدة خيرالله طلفاح وجيشها العرمرم من أمثالكم، ساجدة طلفاح وغيرها من البعث الفاشي الذين نهبوا أموال الشعب وبنوا لهم قصوراً واشتروا منتجعات ومصايف ومشاتي وشركات واستثمارات في كل أنحاء العالم بعد أن حرموا شعبنا من ثرواته وتركوه يتضور جوعاً، أفقر شعب في أغنى بلد. إن الثورة التي قامت على الملكة ماري انطوانيت كانت بتأثير فعل الكلمات التي أطلقها مفكرو الشعب الفرنسي من أمثال جان جاك روسو وفولتير الذي قال: "أينما وجد الظلم فالكتاب هم المسؤولون عنه". نشر هؤلاء المفكرون العمالقة أفكارهم على شكل مقالات ودراسات وكلمات التي أنتم تتهكمون عليها، ولم يقم روسو ولا أي مفكر آخر بحمل السلاح ضد الطغاة، بل استخدموا القلم الذي كان سلاحهم الوحيد. فنحن الكتاب الذين يطالبنا أيتام البعث بالسكوت بحجة أننا أصحاب كلام فقط، نذكرهم بقول نابليون بونابرت: " لا يوجد في العالم سوى قوتان : السيف والعقل ، وفي المدى البعيد سيُـهزم السيف من قبل العقل ". وبتعبير آخر: سينتصر الفكر النيِّر على مفخخات الفاشية الهمجية وهراء أنصارهم المرتزقة.