كتَّاب إيلاف

بنية الثقافة العراقية دراسة في الاجيال الراحلة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

القسم الثاني: نص تسجيل المحاضرة الشفوية المطولة التي ألقاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في مجلس العمل العراقي، على قاعة ابن ماجد بالمجمع الثقافي في العاصمة ابو ظبي مساء يوم الاربعاء 8 شباط / فبراير 2006.. وقد قدّم للمحاضرة الاستاذ عيسى العزاوي. أما المحاضر فلقد قدّمه الاستاذ الدكتور بارق شّبر وحضرها لفيف من الشخصيات العراقية ووفد على مستوى عال من وزارة الثقافية العراقية ممثّلا بالاستاذة ميسون الدملوجي وكيل الوزارة الاقدم والاستاذ كامل شّياع مستشار الوزارة.. فضلا عن نخبة من المثقفين العراقيين والعرب. (لقراءة القسم الأول انقر هنــا)

اولا: التركيب التاريخي للأجيال العراقية المثقفة المعاصرة
(1) جدولة الاجيال :
يمكنني أن أوضح مختزلاً ذلك التركيب التاريخي للأجيال العراقية المثقفة، حسبما كانت هي سيرورة النهضة ومسيرة التطورات التي أثرت تاريخ العراق الحديث والمعاصر من النواحي السياسية والاجتماعية، مستفيدا من نظرية المجايلة التاريخية وفلسفة التكوين التاريخي التي استخدمتها تباعا في أكثر من حقل وموضوع تناولته تطبيقيا بالبحث والدراسة التاريخية، وستخدمنا هذه النظرية التي يجد القارىء الكريم تفصيلاتها كاملة في كتابي الموسوم: " المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي "، اقول بأن تركيب اجيال المثقفين العراقيين تتراءى على النحو التالي:


1/ اجيال القرن التاسع عشر:
اولا: الجيل الاول من القرن التاسع عشر 1799 - 1829 م.
ثانيا: الجيل الثاني من القرن التاسع عشر 1829ـ 1859م
ثالثا: الجيل الثالث من القرن التاسع عشر 1859-1889م.


2/اجيال القرن العشرين:
رابعا: الجيل النهضوي المخضرم بين القرنين التاسع عشر والعشرين 1889-1919م.
خامسا: الجيل البنائي - الوطني فيما بين الحربين العظميين الاولى والثانية 1919-1949م.
سادسا: الجيل الإبداعي والتخصصي لما بعد الحرب العالمية الثانية 1949-1979م.
سابعا: الجيل المخضرم المعاصر لحروب العراق وانسحاقه 1979 - 2009م.


3/ اجيال القرن الواحد والعشرين:
ثامنا: الجيل الاول من القرن الواحد والعشرين 2009 - 2039.
تاسعا: الجيل الثاني من القرن الواحد والعشرين 2039- 2069.
عاشرا: الجيل الثالث من القرن الواحد والعشرين 2069- 2099.

(2) تحليل تحقيب هذه الوحدات:
أجل، لقد بدأ الأوائل تلك البدايات النهضوية في الادب منتقلين من رمز العمامة الى شعار الطربوش خصوصا، ثم تبعتها الحياة الإصلاحية العثمانية ورفدها ببعض الأفكار والأشعار إلى جانب ولادة بعض الأجهزة والوسائل الجديدة لظهور الطباعة والصحافة والمدارس المدنية، ثم انتقلت الراية من خلال ذلك التأسيس إلى جيل جديد قاد مسيرة التغيرات وعلى أيدي طليعة من المثقفين العراقيين من اصحاب النزوع المثقف مدنيين وعسكريين أثروا كثيراً في الحركة النهضوية العراقية، ونقلوا مسار نهضة العراق الأولى من الحركة الإصلاحية - العثمانية إلى الحركة القومية- العربية بعد أن تخضرموا بين قرنين، فكان منهم العديد من الأدباء والشعراء والعلماء والضباط والمدرسين والأطباء، شغلتهم أفكار الدستور والحرية والمساواة ثم انخرطوا في الجمعيات العربية. وانبثق جيل آخر على أيديهم نقل المسيرة العراقة إلى حركة وطنية صرفة بعد تأسيس الدولة العراقية التي ستحل السدارة العراقية كرمز للمثقف فيها بديلا عن الطربوش العثماني، وازدهرت فعالياته فيما بين الحربين العظميين الاولى والثانية من خلال الصحافة الوطنية العراقية بشكل كبير، وكان لهذا الجيل أثره في بناء الدولة ومؤسساتها فضلاً عن الجمعيات والنوادي والأحزاب السياسية المتشربة بالنزعة القومية، وقادت مسيرة الأحداث وبنية التطورات بعد الحرب العالمية الثانية إلى ولادة جيل إبداعي ساهم بأنشطته التحديثية وأفكاره الحرة وتنظيماته الثورية وروابطه الايديولوجية ومعطياته الثرة في رفد بناء العراق المعاصر، فكيف كان ذلك؟

(3) الميزات والمواصفات: التواصل وغزارة المعطيات
يرتبط بناء العراق المعاصر بالنزعات المثقفة عند مختلف الأجيال التي ميزتها العرى الوثيقة بشكل خفي على الرغم من حالة التنافر بين أي جيلين يعقب أحدهما الآخر، إذ يصف أي خلف سلفه وببساطه متناهية بالقديم والرجعية والتخلف وعدم ملاحقة الركب! ولكن يبدو للدارس المتعمق في فلسفة تطور الأجيال وتكوينات النخب المثقفة العراقية أن ثمة علاقات وروابط وشيجة تربط كل جيل بمن سبقه حسبما تشير إليه نظرية " الأبوة والبنوة" في عملية نمو الثقافات وتطور الحضارات. وقد يكون هذا خافياً عند المؤرخ والدارس الذي يبقى يبحث في ظواهر الأمور من دون الغوص في مكامنها وبطونها واستكشاف وسائلها وادواتها وآلياتها. وعليه، فإن الذاكرة العراقية لا يمكنها مستقبلاً أن تفصل بين عناصر الأجيال الستة التي أنجبها المجتمع العراقي نفسه، وبين تكوين دولته وكيانه السياسي القوي الذي حظي بالتقدير نتيجة لاستحصاله ولاء الشعب، فامتلك خاصية الاستمرارية والتلاحم والثبات ومواجهة الخطوب عبر الزمن الصعب.
ولعل أبرز وأهم من يجيبنا عن جملة من التساؤلات النظرية الأكثر جدية، والأوسع تطبيقاً وانتشاراً بشأن مكانة العناصر الشابة المثقفة الحية في البناء التاريخية للعراق المعاصر، هو: غزارة الإنتاج فيما كتب وحرر من مذكرات وذكريات وما حقق ونشر من أوراق خاصة ورسائل وتواريخ ومعلومات وروايات وشواهد وشهادات ونصوص وتشخيصات ومؤلفات وكتابات ورسوم وآثار ومفهرسات وتوثيقات، أثرت جميعها في تاريخ العراق المعاصر، وكلها تكشف عن أدوار أصحابها خلال المراحل الأولى من حياتهم الصعبة في بناء العراق المعاصر، ليس في الميادين السياسية فحسب، بل في الحقول الثقافية والعلمية والأدبية، وإلى جانب هذه الثروة الوطنية كتب عدد من رجالات العراق عن أدوارهم السياسية والسلطوية والاجتماعية فيما يتعلق بالأحداث والوقائع المصيرية التي كانت عليها الاوضاع المزرية في بدايات القرن العشرين، فضلاً عما نشره وأنتجه المبدعون العراقيون من شعراء وفنانين وأدباء وتشكيليين ومهنيين وساسة مثقفين على امتداد المسيرة التاريخية الخصبة، بمعزل عن التباينات الفكرية والايديولوجية التي حكمت توجهاتهم السياسية الوطنية والقومية.
ومن جانب آخر، أوضحت صفحات تراكيب الأجيال العراقية بأن أبناء المدن العراقية سواء كانوا من الشباب ام الكهول يمثلهم دوما ذلك النموذج المثقف الحي الذي حمل على كاهله مهام البناء في مختلف المرافق والميادين، وخصوصاً أبناء الطبقة الوسطى المدينية التي برز منها على امتداد نصف قرن من الزمن عدد لامع من الساسة والدبلوماسيين ورجالات القضاء والأساتذة والعلماء والأطباء والشعراء والمؤرخين واللغويين والفنانين والمفكرين والصحفيين ورجال الأعمال والاقتصاديين والمدرسين والمعلمين، وقد بقي عدد كبير منهم يعمل في بيئته حتى يومنا هذا، ومنهم من غادر مهاجراً نحو العوالم القريبة والبعيدة منذ الخمسينيات نتيجة ظروف متنوعة سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وعلينا أن نذكر الدور الناصع للمرأة العراقية منذ شبابها المبكر في حمل رسالة العراق الثقافية ومشاركتها الفعالة في عدد من الميادين الأساسية، وكانت لها أدوارها المؤثرة على امتداد القرن العشرين مقارنة بأدوار غيرها من النسوة في منطقة الشرق الاوسط.

(4) ماذا نستنتج؟
هكذا، تكون الأسس القويمة التي أرساها الرجالات الأوائل من المثقفين الاقوياء في الحياة العراقية قد غدت جذوراً عميقة في الأرض وبمثابة ثوابت راسخة يستحيل اقتلاعها أو استئصالها، وأن ما يثبت ذلك استمرارية تلك الحياة وصلابتها وعملها الدائب والمنتظم يوماً بعد آخر على الرغم مما صادفته من متغايرات اجتماعية، وتحديات تاريخية صعبة، وأحداث سياسية قاسية على مدى نصف قرن من حياته المعاصرة، وكلها متغايرات وتحديات وأحداث داخلية لا يمكن تصديقها أو حتى تخيلها.. فما كان لأي شعب آخر أن يبقى على مثل هذا التنظيم من العمل والدقة لو صادف ما صادفه العراق، ولكن؟ ضعفت بعض قدراته وهزلت ثقافة أبنائه، وانكمشت ابداعاته، وغدا الفارق كبيراً بين ما كان عليه المثقفون الأوائل عن المتأخرين.

ثانياً: تطور الأجيال العراقية: دور النخبة المثقفة
دعونا نتوقف في تحليلنا أدناه، عند ثلاثة أجيال من حياة تاريخ المثقف العراقي ساهم مساهمة فعلية في بناء كل من الدولة والمجتمع للعراق المعاصر، وسأقتصر على تحليل ثلاثة من الاجيال فقط والتي يعنينا أمرها في القرن العشرين:

(1)الجيل العثماني القديم 1889- 1919: (جيل العمامة والطربوش)
الجيل النهضوي العراقي: من العثمانية نحو العروبة
السؤال الآن: كيف جرت تلك التحولات؟
لقد اشتركت العناصر العراقية المثقفة منذ ثورة تركيا الفتاة عام 1908م كنخبة مثقفة أو عسكرية، إصلاحية كانت أم نهضوية في تأسيس المشروع النهضوي - العربي سواء كان ذلك في العراق من خلال علاقاتهم القومية ومواقعهم الميدانية أم روابطهم الأدبية أم مواقفهم السياسية أم حركاتهم العسكرية أم مقالاتهم الصحفية وقصائدهم وأشعارهم بدءاً بتنظيماتهم القومية الأولى في العاصمة إستانبول وعلى الأخص جمعية المنتدى الأدبي المدنية وجمعية العهد العسكرية، أو في تشكيلات فروعها في المدن العراقية الأساسية وقد اشترك في ذلك التأسيس كل من المدنيين والعسكريين العراقيين على حد سواء، وما يميزهم من خصوصيات وسمات أنهم تفوقوا على غيرهم بـ:
1) قدرتهم التعليمية ومؤهلاتهم الثقافية وتخصصاتهم الدقيقة ومكانتهم الاجتماعية في تعزيز المواقف السياسية وإثراء الحياة النهضوية وتجذير المكونات الوطنية والتاريخية والفكرية في العراق.
2) إبداعاتهم الأدبية وخصب لغتهم العربية واقتدارهم في الكتابة والمخاطبة والتحرير والمشافهة والارتجال النثري والشعري، إلخ كثمار يانعة أنضجتها رصانة التعليم وقوته إلى جانب تربيتهم الدينية وسلوكهم الاجتماعي الحضري وإلى جانب انفتاحهم على الثقافات الأخرى.
3) حجم أعداهم النخبوية في المجتمع مقارنة بغيرهم من أبناء البيئات العربية الأخرى - ما عدا مصر- التي كانت قد نهضت على يد مؤسسها في العصر الحديث محمد علي باشا وما لحق بها من تطورات على أيدي أبنائه وخصوصا الخديوي اسماعيل.
ماذا نستنتج إذا؟
هكذا، فلو عدنا في دراستنا التاريخية إلى أبرز العناصر التي ساهمت في تأسيس البنية النخبوية في المجتمع العراقي/ المديني، وتوقفنا ملياً عند تكوينهم المعرفي في بدايات حياتهم، فسوف نجد أنهم مثلوا الفرز الطبيعي من نتاجات حركة الإصلاحية العثمانية وحركة النهضة العربية اللتين مورستا وطبقتا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فلقد تخرج العدد الكبير من المثقفين العراقيين في مدارس عليا، كما درس أغلبهم في مدارس استانبول العسكرية والمدنية والملكية الشاهانية، إضافة إلى عدد من الذين تثقفوا بثقافة أجنبية في لبنان، وتخرج بعضهم في الجامعة الأمريكية ببيروت، وعادوا ليشكلوا عناصر أساسية في التغيير الثقافي والبناء العراقي للحياة الجديدة.

(2) الجيل الوطني المستحدث 1919- 1949 (جيل السدارة الفيصلية):
جيل شباب ما بين الحربين العظميين: النزوع القومي والتكوين الوطني

تطورت أعداد مثقفي العراق فيما بعد بتأثير عوامل عدة كان من أبرزها: دور الأوائل من الرجال المخضرمين، وبتأثير الأحداث السياسية الساخنة، مع انتقال الأفكار الحرة والمبادئ الجديدة، وتأسيس أول معهد عال في العراق لتخريج نخبة من رجال القانون (= كلية الحقوق) عام 1908م، فازداد عدد المثقفين من شباب العراق ا لذي تمكن في التأثير على مجتمعه العراقي بشكل واضح، والذي سيأخذ هذه المرة، زمام المبادرة في النضال السياسي ليس ضد الاتراك العثمانيين بل ضد البريطانيين المستعمرين، وسيعمل على تعبئة الجماهير من أجل تأسيس بنية دولة عراقية تعمل على أساس وطني في خدمة المجتمع، بعد انفجار الحرب العالمية ا لأولى ومعاناة العراقيين إثر الاحتلال البريطاني المتدرج والصعب الذي لم يأت دفعة واحدة بفعل المقاومة العثمانية من قبل العراقيين (= البصرة عام 1914، العمارة عام 1915م، ا لكوت عام 1916، بغداد عام 1917م، الموصل عام 1918م وبعد توقيع هدنة مدروس).
لقد بدأ العراق أكثر توحداً أكثر من أي وقت مضى من أجل تصميم مستقبله التاريخي إثر تكوين كيانه السياسي على يد تلك النخبة الفاعلة والنشيطة التي يكونها رجالات من المثقفين والعسكريين العراقيين وبتأثير التحدي الاستعماري الجديد. ومهما قيل اليوم من ان العراق صناعة بريطانية وخصوصا في جغرافيته وحدوده، فان ذلك تزوير فاضح لتاريخه ذلك ان بريطانيا ورثت العراق مكّونا من ثلاث ولايات مهمة جدا هي الموصل وبغداد والبصرة بحدودها القديمة وبدأ ترسيم الحدود العراقية على الاسس المثّبتة رسميا منذ مئات السنين.
كان مثقفو العراق من الضباط والمثقفين والمتعلمين والمهنيين الجدد سواء كانوا أطباء أم محامين، يشكلون نخبة اجتماعية طليعية بارزة ومؤثرة، فقد أثرت بشكل مباشر في ولادة التنظيمات والتجمعات السياسية الأولى، وبإنجاز خدمات نهضوية فعالة، ناهيكم عن تأجيجها للروح الوطنية وبوسائل وأدوات محددة كالخطابة في التجمعات، كما كانت الصحافة لها دورها في نشر المقالات المؤثرة، فضلاً عن القصائد الشعرية العصماء ذات النزعة الوطنية كما وأقيمت المنتديات الأدبية والفكرية للتبشير بالأفكار الجديدة منذ عهد مبكر، فبدأ الوعي السياسي بالانتشار شيئاً فشيئاً، وأخذ إحياء للتراث يعمل على إيقاظ الشعور بزهرة الماضي الرائع للعراقيين على امتداد التاريخ، إلخ. يحدد ذلك كله معالم نشأة مجتمع جديد وولادة دولة حديثة، لقد نجح المثقف العراقي بامتلاكه للمؤهلات والقدرات والخصوصية أن يقضي على سكونية الماضي العثماني ومؤثراته، وأن يطور كثيراً من مفاهيمه بعد نجاحه في مهمتين أساسيتين:

أولاهما: النضال ضد المستعمر ورفض وجوده في العراق.

ثانيهما: تأسيس الدولة العراقية عام 1921م، لكي تغدو في خدمة المجتمع.
أما النضال الوطني، فقد دفع البعض نفسه من أجل تحقيق الأهداف العراقية، فعانى كثيراً سواء في الداخل أم بعد النفي إلى خارج العراق، أما بالنسبة لتأسيس الدولة فيكتب على جودت الأيوبي في ذكرياته قائلاً:" لا يخفى أن الوضع في العراق قد تطور كثيراً ونشأ جيل جديد من الشباب المتعلم المتوثب إلى خدمة بلده بأفكاره ومعلوماته التي اكتسبها في الداخل والخارج".

فكيف تطور ذلك؟
لقد ا ستطاع العراقيون أن يمتلكوا الهوية والانتماء ولم تبق أمامهم إلا السيادة والاستقلال من أجل تطوير حياتهم الاجتماعية وبناء نظامهم السياسي وتحديث أنماطهم السياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية وبدت ممارساتهم الديمقراطية البكر مثيرة للاعجاب ـ كما سنرى لاحقا ـ، فنشطوا بشكل بارع ابان عهدي الملك فيصل الأول 1921-1933م وولده الملك غازي 1933-1939م، في تأسيس العراق دولة ومجتمعاً على نحو جديد، ويعد المشروع التربوي / التعليمي من أبرز إنجازات عهد فيصل الاول الذي نجح بإرساء قاعدة رصينة في بناء جيل عراقي مثقف جديد، وان ذلك الجيل اللاحق ما كان ليكون لولا ذلك المشروع الاساسي والضخم. ومهما قيل في فيصل الاول من تهم فانني اعتبره الزعيم الوحيد الذي فهم العراقيين فهما حقيقيا وانه ضمن للعراق تكوينه الوطني بديلا عن اي شخصية اخرى كانت ستثير جدلا اجتماعيا لا يخدم العراق.. انني اعتبر كل سياسات فيصل الاول ايجابية وخصوصا في تجسيره العلاقة بين المثقفين والسلطويين ولكنني اسجّل عليه اعتماده الكبير على نخبة من المثقفين العرب، اذ كان من ضمن مهامه الأساسية استقدامه لعدد من الأساتذة العرب الاكفاء إلى العراق، والذين تميزوا بمقدرتهم وكفاءتهم امثال الوزير رستم حيدر الذي دفع حياته في العراق ثمنا لمواقفه، ولكنهم كانوا وراء احداث مشكلات صعبة في الدواخل الاجتماعية العراقية مثل مشكلة انيس زكريا النصولي ومشكلة درويش المقدادي ومشكلات اخرى وصلا الى مشكلة الحاج امين الحسيني.. جاء اولئك الاساتذة العرب لكي يتربى على أيديهم جيل عراقي مشبع بالروح (القومية)، وكان من أهم المؤسسات التربوية العراقية دار المعلمين العالية التي تخرج في أروقتها العشرات من شباب العراق المثقف، ويخبرنا السياسي العراقي المعروف الأستاذ حسين جميل في " مذكراته" كيف كان أبناء جيله يلتهمون المعلومات ويستلهمون الأفكار من الكتب والصحف والمجلات ومن خلال قراءات ومطالعات، وكان هناك المعهد العلمي كمؤسسة أهلية وهي أشبه بناد ومكتبة عامة، كما كان هناك جامعة آل البيت التي وقف على رأسها الأديب المعروف فهمي المدرس والتي فشلت فشلاً ذريعاً لأسباب وضحتها بالتفصيل في كتابي (انتلجينسيا العراق: نخب المثقفين في القرن العشرين..).

(3) الجيل الراديكالي والقومي الثوري 1949- 1979 (جيل الثورية السياسية)
جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية: الايديولوجيا نحو التحول:

1) التكوين المعرفي العراقي:
في دراسته لـ" النخب السياسية في الشرق الأوسط" تكاد تغيب عند جورج لينشوفسكي سياقات نخبوية لفئات عدة من المثقفين الشباب في حياة العراق المعاصر، التي تكاثرت فيها التجمعات والأحزاب السياسية والتيارات والاتجاهات الفكرية التي شكلت في مجملها رغم اختلافاتها: عناصر بناء أساسية في تطور الدولة ولكن على حساب النتائج النوعية في عمليات تطوير المجتمع وحياته المتنوعة، وهذا ما نلحظه أيضاً في مصر وبلاد الشام ولكن بدرجة أقل. ويكاد تغيب أيضاً هذه الجوانب في الدراسات العربية على قلتها في بحث ثقافة العراقيين!
ويبدو أن المثقفين العراقيين رغم انغماسهم في القضايا السياسية الصعبة على امتداد نصف قرن من حياة العراق المعاصر، إلا أن النخبة العراقية المثقفة من الشباب اختلفت بين جيلين: جيل ما بين الحربين العظميين (كالذي قدمنا عنه أعلاه) والذي اهتم كثيراً بمسألة ترسيخ أركان الدولة على حساب تطوير المجتمع وآلياته وفئاته وحاجته، في حين غدا جيل شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد انغمس في الأزمات السياسية والمشاكل الأيديولوجية المتنوعة مع تفاقم السلطة الحكم المتحالفة مع الانكليز، لكنه جيل جديد بدأ يعالج وينتقد، بل ويتمرد ويثور على مسائل سياسية من أجل ما يحتاجه المجتمع في معيشته اقتصاده بشكل أساسي.
لقد توسعت بعد الحرب العالمية الثانية في المجتمع العربي قاطبة، قوة اجتماعية جديدة ومهمة، سوف يطلق عليها في الأدبيات المختلفة الفئة الوسطية في المجتمع INTERMEDIARY - STRATUM وستكون جزءاً فعالاً في الطبقة البرجوازية التي حددت مشروعها اقتصادياً على أساس التنمية الرأسمالية مع طموحات بعض الراديكاليين لتطبيق الاشتراكية، وقد تمفصلت هذه الفئة العريضة سياسياً وايديولوجياً على عاتق البعض في قيادة النضال من أجل التحرر والتوحد والسيادة الكاملة، وعد البعض الآخر في قيادة النضال من أجل التحرر وتحقيق الأهداف الوطنية العراقية او العربية القومية.
تعتبر دار المعلمين العالية التي أسست للمرة الأولى عام 1924م على نحو بسيط ثم تكاملت في سنة 1936م أبرز مؤسسة أكاديمية عراقية رصينة ساهمت قبل تأسيس كلية الآداب العراقية وجامعة بغداد، في رفد الحياة العراقية لكل مبدع وجديد، وقد تخرج في أروقتها المئات من الطلبة والطالبات، برز منهم: العشرات من المثقفين الشباب الذين غدت أسماؤهم كبيرة ليبرزوا علماء وأدباء وشعراء رياديين، وكانت تلك الدار معقلاً عراقياً شامخاً للشباب المثقف المجدد في النهضة والتقدم، وقد سحب خريجوها من الشباب المثقف البساط من تحت أرجل أبناء الجيل الذي سبقهم وكان أغلبهم من الحقوقيين والمحامين خريجو كلية الحقوق العراقية.
وقد وقفت إلى جانب تلك الدار كلية اخرى تأسست عام 1946م للبنات هي كلية الملكة عالية (أسميت بـ" التحرير" فيما بعد، ثم أطلق عليها " البنات " لاحقاً). وكانت ثانويات العراق ومعاهده قد فتحت أبوابها أمام الطلبة العرب الشباب، إذ ساهم العراق منذ عهد مبكر في تأهيل العشرات من اليمنيين والفلسطينيين والجزائريين والتوانسة والسوريين واللبنانيين اشتهرت أسماء بعضهم فيما بعد. وهم يحملون اليوم أجمل الذكريات الخصبة عن حياتهم التي قضوها في العراق ابان الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. وهم يختلفون عن الخريجين العرب من العرب في الجيل التالي اذ كانوا من المسيسّين الحزبيين.

2) عقد الخمسينيات: تطور المعاصرة العراقية:
يمثل عقد الخمسينيات زهرة تطور المعاصرة العراقية في القرن العشرين، والتي تبناها شباب العراق المثقف في ميادين عدة كالمسرح والعزف والموسيقى والغناء والفن التشكيلي والصحافة الأدبية والشعر والشعر الحر... إلخ. إذ برز العراق في موقع الريادة العربية في حداثة كل من الفن التشكيلي والشعر الحر، متمثلاً ذلك عند مجموعة من المبدعين العراقيين الشباب الذين طارت شهرتهم في الآفاق العربية (ودعوني من ذكر الاسماء فهي كثيرة لا تعد ولا تحصى). ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء حسب، بل برزت أسماء شابة في مختلف حقول المعرفة العراقية وكان أصحابها من المبدعين الأصلاء أثر استحداث علوم وميادين جديدة ابان عقد الخمسينيات، وهو عقد يمثل مرحلة تاريخية خطيرة في حياة العراق المعاصر على مستوى الدولة وتطور المجتمع، إذ سادها التوتر السياسي المشوب بردود فعل حادة لانتلجينسيا العراق من المثقفين والأكاديميين والتكنوقراط، أثر انفتاحهم على مصادر إبداعية عالية المستوى ومراجع ثقافية رصينة بعد أن كان اعتماد من سبقهم كبيراً وأساسياً على ما يطبع في مصر فقط.

3) ذروة ا لبناء السياسي: الايديولوجية السياسية
لقد ترسخت الشعارات السياسية العراقية عند الشباب المثقف في مسارين اثنين كان انطلاقهما قد بدأ منذ العشرينيات، تمثل أولهما بالاتجاه القومي الذي بدأ بالجمعيات العربية الأولى وتطور ليبرالياً من خلال الأحزاب الوطنية وآخرها حزب الاستقلال. وتجسد ايديولوجيا فيما بعد على يد الاحزاب والجماعات القومية، وهي كثيرة ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي نجح في تسلم السلطة منذ الستينيات وبقي فيها حتى العام 2003، وتمثل ثانيهما بالاتجاه الراديكالي - الاشتراكي الذي بدأ طوباوياً وتطور فئوياً من خلال جماعة الأهالي ثم الحزب الوطني الديمقراطي - فيما بعد- وتجسد ماركسياً عند احزاب وجماعات شيوعية لينينية وماوية، ويقف على رأسها الحزب الشيوعي العراقي.
حتى إذا ما وصل كل من الاتجاهين إلى عقد الخمسينيات، كان الصراع قد اشتد بين الاتجاهين المضادين مستفيداً من موروث الانقسام الاجتماعي الذي عاشته البيئة العراقية طويلاً، فضلا عن الاسباب السياسية والخارجية التي كان لها تأثيرها في الشارع العراقي وقت ذاك وانشطة مخابرات بعض الدول في تنظيمات العراقيين الداخلية. وهكذا، " كان النزاع الذي حدث في العراق عنيفاً جداً وقد تطرف كل من الفريقين فيه تطرفاً أدى إلى نتائج فكرية واجتماعية غير محددة " ـ على حد تعبير علي الوردي ـ.
وفي خضم واقع سياسي عنيف مثل هذا كالذي استقطبه كل من الاتجاهين المؤدلجين، آمن بهما مثقفو العراق للعمل ضد السلطة الحاكمة وسياسات نظام الزعيم السياسي الشهير نوري السعيد وحكوماته المتعددة التي كان من أبرز أخطائها الداخلية، الإبقاء على سيرورة أنماطها القديمة في التعامل مع الأجيال الجديدة من الشباب الذي كان يتطلع إلى أن يجد له مكاناً تحت الشمس العراقية الوهاجة، وكان يتلهف لتولي المسؤولية السياسية والإدارية ويمارس السلطة التي كان يحتكرها أبناء جيل ما بين الحربين العظميين، أو حتى بعض شيوخ جيل التأسيس الأول والذين وقفوا ليس موقف الند من الشباب الجدد، بل موقف المرشد والموجه باعتبارهم ما زاالوا قاصرين عن تولي الادارة السياسية. يقول ناجي السويدي مخاطباً يونس السبعاوي الذي كان ثائراً:" ما كسبناه نحن الشيوخ بحكمتنا أخشى أن يضيع بحماقاتكم يا شباب". إن مثل هذه المسألة في إطارها العام إنما تعكس صراعاً بين جيلين: جيل الشباب القومي الممتلئ حماسة واندفاعاً وجيل الرجال المخضرمين من بقايا الماضي العثماني.
كان من أبرز عوامل نجاح الفئات القومية - الثورية في العراق: وجود المناخ التاريخي والنزوع القومي والدور التربوي والأرضية الخصبة التي رفعت شعارات حركة النمو والوحدة والتقدم، على حساب ضعف وانكماش الاتجاه السياسي/ العراقي الذي نادى بالشعبية والوطن والاشتراكية، كجماعة الأهالي التي بدأت عند مطلع الثلاثينيات متمثلة بمثقفين تقدميين، أمثال: حسين جميل وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وعبد القادر إسماعيل، وعلى الرغم مما تحصلت عليه من تطورات سياسية لكنها بدأت تتشبع بالتناقضات بعد مباركتها انقلاب بكر صدقي عام 1936، وعدم اكتراثها بالقومية العربية، وإنغمارها موجبة بالأفكار والتجارب الأوروبية التي كانت شائعة عهدئذٍ بين الأممية والأقليمية الضيقة، وعلى الرغم من كل ذلك، فق نجح هذا الاتجاه الراديكالي في انبثاق تجمع تحت اسم "الهيئة العامة لجمعية السعي لمكافحة ا لأمية" في عام 1933، انضم إليه العشرات من الشباب الوطني، كما نجح في تأسيس نادي بغداد لمخاطبة الشباب وتعميق وعيهم بالقضايا المختلفة في عام 1933م. وبعد عشر سنوات، أي في عام 1943م تتأسس جمعية الرابطة الثقافية، ثم تتكلل أبرز انجازات هذا الاتجاه بتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي الذي ستتوقف حياته فعلياً عام 1958م، كي يبقى الحزب الشيوعي سيداً على الساحة السياسية في العراق ابان حكم عبد الكريم قاسم والذي عاش العراق في عهده جملة صراعات القوى السياسية في العراق.

(4) منجزات ثنائية في البنية الثقافية العراقية:
من اجل ان نحلل الفكرة التي جئت بها بشكل موّسع، دعوني اقول: كان من أبرز منجزات تلك المرحلة الصعبة حدوث ثنائيات وازدواجيات قاتلة في البنية الثقافية العراقية.. اذ يتلمس المؤرخ المتأمل ان خطيّن اساسيين للمثقفين العراقيين بدءا معا منذ قبيل تشكيل الدولة واستمرا يعيشان الصراع بينهما لينتهيا في العام 2003 اثر اندحار الدولة وتراخي المجتمع.. وقد دفع العراق ثمنا غاليا من جراء ذلك الانقسام المريع في الحياة الثقافية التي تعبر عن كل من التكوين السياسي والتكوين الاجتماعي للعراق..

اولاهما: اتجاه خط ثقافي سياسي وطني عراقي تتلون فيها التيارات والجماعات والاحزاب والكتل والجمعيات والاحداث بدءا بنواة الجمعيات العراقية الاولى انتقالا الى جماعة الاهالي ثم جمعية الاصلاح الشعبي ثم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الامة ثم القاسميين.. الخ

ثانيهما: اتجاه خط ثقافي سياسي قومي تتلون فيه المنتديات والجمعيات والنوادي والاحزاب والحكومات بدءا بالجمعية العربية وانتقالا الى جمعية الجوال العربي، ونادي المثنى بن حارثة الشيباني، وجمعية الدفاع عن فلسطين في بغداد، فضلاً عن جمعية النهضة القومية ولجنة الشباب القومي ومن بعدهما نادي الجزيرة وجماعة العقداء الاربعة وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي والناصريين والحركيين.. الخ

هذه الثنائية وصراعاتها السياسية ثم السلطوية ثم الانقلابية والدموية قادت العديد من القوميات والاقليات في العراق للانتقال من تشكيلات اجتماعية خاصة بها الى تكوينات قومية سياسية لها كما حدث لدى كل من الاثوريين والاكراد والتركمان.. هذه الثنائية هي التي ضربت البنية الثقافية العراقية في الصميم اذ خسر العراقيون نتيجة تصادمتها السياسية المئات من المثقفين العراقيين الممتازين بدءا بحركة الاثوريين القومية في الثلاثينيات وسحقها، ثم بانقلاب بكر صدقي عام 1936 وسقوط جعفر العسكري بانتصار الاتجاه الاول انتقالا الى شرخ حركة 1941 وانتصار الاتجاه الثاني ومن ثم سقوط العقداء الاربعة وسقوط القوميين.. وصولا الى انقلاب / ثورة 14 تموز التي اشترك فيها الاتجاهان وما لبث ان سقط القومي تحت وطأة الوطني على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، ومن ثم تمرد القومي الكردي ثم فشل حركة الموصل عام 1959 القومية وفشل حركة كركوك وسحق التركمان عام 1959.. وصولا الى 8 شباط 1963 بانتصار الاتجاه القومي الذي ساد على العراق قرابة الاربعين سنة اي حتى 2003.. وبالرغم من مأساة المثقفين العراقيين لاشتغالهم في السياسة وانتماءاتهم المتنوعة، الا ان الصدام بين الاتجاهيم قد اضر كل من المجتمع والدولة معا.. ولم يتحمّل المجتمع بكل نخبه وفئاته المسؤولية بقدر ما تتحملها انظمة الحكم في العراق التي لم تعرف طريقا سويا من اجل بناء العراق وعلى اية اسس لها خصوصياتها.. فضلا عن هذا وذاك فان المثقفين العراقيين سواء كانوا من الشيوعيين او البعثيين لم تكن تجربتهما صالحة للعمل من اجل تاريخ العراق لا في صراعهما الدموي ولا في ائتلافهما الجبهوي، اذ كان ذلك وبالا على العراق والعراقيين على امتداد خمسين سنة.

(5) مآسي الجيش العراقي وتكريس ثقافة الاهانات:
هذه مؤسسة قديمة جدا صحيح انها ابنة التأسيس في 6 يناير / كانون الثاني 1920 (وليس كما هو متواتر خطأ في العام 1921)، الا انها لم تلد من فراغ، فالعراق شهد تأسيس اول مدرسة عسكرية في المنطقة منذ خمسين سنة على التأسيس، وان الضباط العراقيين المحترفين هم الذين شاركوا في تغيير خريطة المنطقة بقيادتهم للاحداث المهمة، ووقع على عاتقهم تأسيس الجيش العراقي الذي شجع شباب العراق للانخراط فيه كي يكونوا نواة حقيقية لجيش (عربي) كبير، مع تأسيس للكلية العسكرية العراقية التي تخرجت فيها دفعات واسعة من شباب العراق، ويقترن ذلك التأسيس باسم الزعيم العراقي البارز جعفر باشا العسكري عام 1920 وقبل تأسيس الدولة العراقية، وفي عقد الثلاثينات، صدر قانون الخدمة الالزامية لكل العراقيين، وهو القانون الذي اقترن باسم الزعيم العراقي الآخر ياسين باشا الهاشمي، إذ عمل هذا القانون على زيادة أعداد الجيش ولكن على حساب جعل العراقيين يشاركون في الحفاظ على بلادهم وخدمة السكان من الناحية الاجتماعية، وتبلور الوعي الوطني، وتعزيز الانتماء العراقي للتخلص من المشاكل العراقية المعقدة، وبرغم ما صادفه هذا القانون من الاحداث والتمردات في الفرات الاوسط، الا أن المسألة حسمت لصالح تطبيقه منذ قرابة سبعين سنة. ان ما يجعلنا ننتقد هذه " المؤسسة " ممارساتها وتحولها من مؤسسة للدفاع الى مؤسسة للقهر.. ومن اجهزة للحرب الى اجهزة للسياسة والتحّزب.. لقد ضرب الجيش مجتمع العراق في اكثر من مرة، بل وتبدّلت اخلاقيات الضباط والقادة العراقيين من رجالات شجعان مخلصين الى انقلابيين وخونة متآمرين ولهم علاقاتهم بانظمة دول اخرى مجاورة وغير مجاورة.. ومن ثم حزبيين ومن ثم اناس ضعفاء ومرتشين.. وهذا ما كانت تفصح عنه بيانات الحكومات العراقية واحدتها تلو الاخرى.. لقد كان الجندي العراقي مهان في اسمه وجنسه ولونه وشكله ولغته.. حتى غدا كل العراقيين بلا استثناء يكرهون الانخراط لتأدية خدمة العلم كراهية عمياء.

(6) إشكالية التطور وأزمة المجتمع:
يمكن القول بأن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1979 من المثقفين والمناضلين العراقيين كان جيلاً جريئاً ومبدعاً إلى حد كبير، ومبادراً في التعبير عن آرائه الحرة ومواقفه السياسية، فسجن واعتقل أو نفي وتعرض وتشرد وعلى الأخص في عقد الخمسينيات الذي كان للمثقف العراقي خلاله دوراً سياسياً طليعياً وتاريخياً واجتماعياً. مجسداً الآمال القومية بشكل جوهري ووطني بعد أن تجاوز عشق الأرض، وقد كان يرغم كل من السلطة والمجتمع معاً على أن يسمعاه. ولكن ليس في جميع الأحيان! إذ يبدو للمؤرخ بأن السلطة السياسية كانت أقل قسوة على المثقف الشاب من هيمنة السلطة الاجتماعية خصوصاً إذا لازمه التمرد وكان يطمح لإحداث تغييرات، أو كان يتطلع لإجراء تحديثات، فيصاب بالإحباط ويعيش شقاء الوعي أو "الوعي المنكود" والإخفاق المرير الذي يلازمه على مدى سنوات حياته. لقد وجدت ان العراق تمّيز ببروز مثقفين متمردين لهم مستوى عال من الحداثة اسوة بما نجده لدى المثقفين الاوربيين الحداثيين.. وهم كثر من شعراء وتشكيليين وفنانين ومخرجين عراقيين غاية في الابداع.

يقول المستشرق الفرنسي جاك بيرك: "ورسمت إحدى القصص العراقية المحاولات اليائسة التي قام بها بعض المثقفين الشباب في العراق بعد معاهدة بورتسموث لإصلاح الأوضاع في بلادهم، وصورة فشل هذه المحاولات، وفي وسع المرء أن يسمع هنا وهناك، عن الفشل المؤلم الذي مني به الكثيرون من خريجي المدارس الأجنبية العالية في حياتهم العملية، وتعود بي الخواطر الآن إلى أحد هؤلاء، وقد تخرج من كلية البولتيكنيك في فرنسا، ثم عاد إلى بلاده ليصبح وزيراً، ولكنه فشل تماماً في أن يخلق في بلاده شيئاً جديداً، جديراً بدراسته العليا، ومن المهم كل الأهمية، أن السياسات الفعلية، والسلطان الحقيقي في هذه البلاد يؤثران طرقاً أخرى، ولذا فإن الإنسان التقني لا يحظى إلا بدعم المصالح المصرفية والقيادات العسكرية ".
وكان لمعطيات بعض الشباب على أي حال، شأن ليس في الذيوع والانتشار وكسب الشهرة، بل في إثارة العواطف، وترويض الأفكار، والسعي نحو التقدم، على الرغم، أنهم كانوا يعيشون على حلم لم يتحقق، أو أنهم كانوا يتوهمون تحقيقه من خلال إيمان أغلبيتهم بعملية حرق المراحل التاريخية" كما أسموها وأنهم سيحققون أهداف الأمة والوصول إلى ما وصله العالم المتقدم بين عشية وضحاها.!
وعليه، فإن الجيل الذي سبقهم كان الأقدر على تمييز الأمور نظراً لاتساع أفقه وانفتاح تفكيره، إن ما يميز المثقف العراقي الشاب أنه أخذ ينغمس منذ الخمسينات ويوماً بعد آخر في أزمة مضامين التراث ومشاكله وإشكالياته، إذ يرى بأن تراثه هو المثل الأعلى في التقدم الحضاري المعاصر، وقد قاده هذا الانغلاق على هذا المفهوم إلى عزلة في تفكيره رفقة تركيب ذهني بعيدين جداً عن مسألة التحديث السياسي والفكري والاجتماعي على مدى عقود عدة من المعاصرة العربية.

(4)الجيل الاحادي الاخير 1979- 2009 (جيل الحروب والحصار والمآسي)
هذا الجيل البائس الذي كان قد تربى وحظي بتكوين تربوي وثقافي رائع ولاغلب ولادات ما بعد الحرب العالمية الثانية.. جيل 14 تموز / يوليو 1958 الذي حظي برعاية خاصة وعاش التقلبات السياسية واستلهم الافكار الجديدة.. هذا الجيل يخسر الالاف المؤلفة من ابنائه في الحروب والحصار واعمال العنف.. هذا الجيل الذي ما ان يبدأ لكي يمثّل ارادته الوطنية حتى تسحقه الاجهزة الامنية ويعيش انغلاقا على العالم.. انه يعيش ايضا ارهاصات ما حدث في المنطقة كلها من تغييرات كبرى اثر انتصار الثورة الدينية في ايران وتبدأ الحياة السياسية فصولا جديدة لولادة حركات وجماعات دينية لتغدو يوما بعد آخر ازاء الاحزاب الوطنية والقومية واليسارية.. هذا الجيل الذي سيق الى جبهات القتال رغما عنه ودفع الدم مهراقا وعاش اسوأ الظروف واحلك الايام على مدى عقدين كاملين من الزمن، ولم يزل حتى اليوم يعاني من افرازات الماضي العقيم.
هذا الجيل المعاصر اليوم الذي سيلفظ انفاسه الاخيرة عند نهاية هذا العقد تقلصت ابداعاته وضعفت قدراته على العطاء وهو يعيش المأساة التي تزداد حلكة وظلمة يوما بعد آخر.. ولقد انغلق على ذاته بعد ان احكم الطوق على عقله وذهنه وثقافته من خلال المحرّمات والممنوعات في زمن بدأ العالم خلال العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين يتسارع بشكل مخيف ويوفّر المعلومات ويطور الاتصالات.. لقد عاني الجيل المعاصر من كل الموبقات وعاش كل التشظيات وحالات الفقر المدقع والبحث عن لقمة العيش.. جيل بدأ يتسّرب اصجاب الكفاءات منه الى خارج العراق ليتشتتوا في الافاق مع معاناة من نوع آخر.. اما اولئك الذين حوصروا، فلقد حرموا من القراءات وابداء الرأي والتعبير ونشر الابداع.. هزلت الجامعات العراقية كثيرا بعد ان غدت المدارس ضعيفة المستوى.. ولم يزل يعيش ابناء هذا الجيل على فقدان الثقة بالنفس وعلى الرؤية الخاوية للمستقبل.. انني اعترف بأن هناك امكانات رائعة وطاقات مكبوتة ومواهب لا تقدر بثمن.. ولكنها بحاجة الى اعادة تكوين وتجديد في التفكير مع توفير الاليات والظروف الطبيعية.. ان ابناء هذا الجيل قد فقد الكثير من نزوعاته الوطنية بعد ان وجد ضالته في هويات ومرجعيات يجد فيها الحماية والتعبير وهناك الالاف المؤلفة من ابناء هذا الجيل انتكس انتكاسات فكرية وسايكلوجية ليرتد نحو الماضي فيحمل نزعات ماضوية كي يرضي فيها ذاته.. وهو بحاجة الى اعادة تقكير بل بحاجة الى استراتيجية تفكير كي تغرس ليس عنده حسب، فدوره يكاد ينقضي، بل ليزرعها عند اولاده الذين يتكونوّن اليوم في ظل ظروف صعبة جدا.. واوضاع فاسدة بحاجة الى اصلاحات جذرية.

استنتاجات وتساؤلات:
هكذا، نعلم كم كان حجم الدور الذي مثله المثقفون العراقيون وثقله في مسيرة الأحداث والتطورات التي رافقت عملية بناء كل من الدولة والمجتمع في العراق المعاصر، وكم كان للازدياد المفاجئ في أعداهم والأعداد في تكوينهم وتأهيلهم نسبة لعدد سكان العراق من مزية خاصة ليس في تمكنهم من الوعي، بل مشاركتهم في الأحداث واتخاذهم للمواقف كعاملين فاعلين في المجتمع أم طلبة في الثانويات والمدارس والمعاهد العليا، ثم مشاعرهم المتقدة إزاء الأحداث القومية كالذي حدث في فلسطين ومصر، وأنحاء أخرى من أرض العروبة، أم إزاء التطورات السياسية في داخل العراق، وما سجلوا من صفحات وطنية لامعة، وعلى امتداد السنوات الطويلة في نصف قرن حافل بممارساتهم وأدوارهم ومشاركاتهم في مجموعة ضخمة من القضايا الأساسية والخطيرة كالتي طرحت من قبلهم سواء كانت على منابر حزبية، أو مقالات صحفية، أو أشعار ملتزمة أو محاضرات خصبة، ناهيكم عن الطروحات في تأجيج الرأي العام في التظاهرات الضخمة والاضطرابات والاعتصامات والتجمعات والمؤتمرات والانتخابات والنقابات. إلخ. كلها كانت تشكل أسساً في التفكير والممارسة العراقيين، وقد تأثرت بها سياسياً وثقافياً عدة أقطار عربية في المشرق والمغرب العربيين.
ولم يتوقف حجم المشاركة في مركز العاصمة بغداد لوحدها، إذ كانت هناك مشاركات حية لأولئك الذين يقطنون في الحواضر العراقية كالموصل والبصرة والنجف وكربلاء والسليمانية والحلة والناصرية وكركوك وغيرها، إن مراجعة استطلاعية لما صدر في العراق من صحف ومجلات على مدى خمسين سنة 1908-1958م، ترينا كم كان حضور ذلك المثقف العراقي فيها من خلال التحرير والنشر والمراسلة لأدبيات ثقافية وعلمية وأدبية وسياسية، فضلاً عما نشر بأقلامهم في صحف ومجلات عربية مصرية ولبنانية وكم اكتشفت من مزايا أخرى تمثلها الفروسية والرجولة والمكاسب سواء في حركة الفتوة أو الحركة الكشفية أو في الميادين والملاعب الرياضية.
ولكن؟
علينا أن نتساءل اليوم: ما هو حجم الفارق النوعي بين جيل اليوم وأجيال الأمس؟ وما هي المهام الأساسية الملقاة على جيل اليوم لكي يتعلم الكثير من الأجيال الشابة التي سبقته؟ وما هي جملة القيم العراقية في التربية والسلوك والعمل واحترام الزمن لكي نبقيها مغروسة عند الشباب ليساهم في البناء والتطور ورفد مستقبل الأجيال القادمة؟

السؤال: متى تنتعش الانساق الثقافية العراقية ومتى تركد ركودا تاريخيا؟
ان الثقافة العراقية اليوم راكدة ركودا مأساويا، فكيف السيبل الى استعادة بينتها من جديد؟ وكيف لها ان تنتعش في ظل تكوين سياسي؟ ان اولى المهمّات التي لابد ان يعيها كل العراقيين هو تنوير العراقيين واستعادة تفكيرهم المدني بدل ما يسيطر على ذهنيتهم الجماعية اليوم. ليعرف كل العراقيين بأن العراق لم يحكمه رجال الدين على امتداد التاريخ ابدا. ان الحياة الثقافية العراقية لابد ان تعّبر عن اساليب وحاجات مجتمع.. انها ان لم تفعل ذلك في مثل هذا العصر الذي سيمثله جيل جديد بعد سنوات قلائل، فان ثقافة العراقيين ستنغلق على نفسها شيئا فشيئا من دون ان يتفتح احدها على الاخر.. انها بحاجة الى تجسير للفجوة دوما بين الحكام وبين المثقفين وعلى الحكام الاستئناس لما يقوله المثقفون.. لا يمكن ابدا ابقاء الحالة على درجة من الخصام.. انها بحاجة الى تجديد في القيم الثقافية ومستلزمات العطاء والاعتناء باصحابه من المبدعين الحقيقيين.. اذ لا يمكن اعدام الحياة الثقافية العراقية تحت اي مسمّيات او آليات باعلاء قيم الغلو والمنع والتطرف او اساليب الجهالة والعتمة او اتباع الاقصاء او السكوت عن تحطيم الرموز او الانتشاء بطغيان العادات البالية على حساب الثقافة الجميلة. انها بحاجة الى وعي العراقيين الذي سوف لن يأتي بين يوم وليلة، بل انه بحاجة الى ركائز تربوية واعلامية من اجل تكوين ثقافي وابداعي جديد.. انها بحاجة الى المرأة العراقية التي لابد ان يكون لها شخصيتها وانفتاحها وانطلاقها بديلا عن تقوقعها وعزلتها وبلادتها وتغليف نفسها.. انها بحاجة الى الالتزام بكّل ما يرتقي بالنشر والاعلام وعلى درجة من الامانة والحيادية.. انها بحاجة الى برامج تتولاها وزارة الثقافة لتطوير الثقافة العراقية.,. انها بحاجة الى تكافؤ الفرص بحيث يعطي لكل مبدع حقيقي دوره في اي مرفق من مرافق الثقافة.. انها بحاجة الى العمل الجماعي، فالفردية لا تخلق ثقافة عراقية راقية.. لابد من تجمعات ثقافية وبيوتات فنية وجماعات موسيقية ومنتديات اجتماعية ونواد ليلية.. واخيرا، ذكرّني اليوم احد الاصدقاء قائلا بأن الحاجة ماسة الى المكتبات العامة في كل العراق، فقلت له: نعم الرأي ولكن هذا العصر بحاجة الى وسائل الاتصالات والمعلومات والكومبيوتر الى جانب الاعلام والمكتبات.. فهل سننجح حقا في استعادة العراق ثقافيا؟ وهل سيتخلص الجيل القادم من كل ما يرجعه الى الوراء ومن الاوهام والعادات البالية؟ وهل سينجح ابناء الجيل القادم في الخروج على العالم من جديد وهو يحمل ثقافة عراقية متطورة في كل مجالات الابداع؟ هذا ما نتمناه ان يحدث في المستقبل المنظور لا البعيد..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف