خيارات المثقف الفلسطيني ( 3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تربّينا، نحن مثقفي الداخل المحتل - الضفة والقطاع والقدس - على ثقافة الخارج الفلسطيني والعربي، فكنا، نعيش ونتماسّ بين ومع الإسرائيليين، بشكل يومي، سواء كانوا محتلين عسكريين لمُدننا الفلسطينية أو مواطنين عاديين في مدنهم الإسرائيلية، بينما عقولنا مشدودة إلى هناك: إلى الخارج. هذا الحال، أنتج بالضرورة، نوعاً من المفارقة، التي لم نكن نشعر بها آنذاك، والتي لا يصعب العثور على جانبها الهزلي، بين طوايا جوانبها الجادة، حين نتأملها بعين الحاضر الآن. لقد كنا نعيش واقعاً معقداً سافراً في وضوحه وتفاصيله المباشرة، ومع هذا، كنا نراه ونحلله، لا بأعيننا وعقولنا، وإنما بأعين وعقول، المثقفين الفلسطينيين والعرب. أي كنا غير أصلاء في مقارباتنا وتحليلاتنا، لما يحدث أمام عيوننا، من واقع تاريخي، شديد التعقيد والخطورة. وحين جاءت السلطة، إثر توقيع اتفاق أوسلو، في العام 1994، لم يتغير شيء في تكويننا الثقافي والعقلي، إذ واصلنا ما يمكن تسميته، دون تعسف، ب (تقاليد الكسل المعرفي) في النظر إلى مجريات وتطورات الواقع من حولنا وحتى داخل غرف نومنا، بعيون هؤلاء، لا بعيوننا نحن. مستريحين إلى أنهم، أي هؤلاء، هم من يعرفون وهم المسيسون، وهم أصحاب الخبرة التاريخية في العمل السياسي والثقافي، وبالتالي، لننتظر ولنرَ ما سوف يحدث. كانت تلك خطيئتنا، فلم نكن نحن ذاتنا، في التحليل الأخير، بل كنا صدى الآخرين، بغض النظر عن حجم قاماتهم، ومدى اجتهادهم من عدمه. بيد أننا سرعان ما اكتشفنا الحقيقة المرة، بعد زوال نشوة ابتهاجنا، بتحقق حلم وطني عزيز علينا رغم نقصانه الفادح، تجسّد في تشكيل السلطة الوطنية، للمرة الأولى في تاريخنا الحديث، وممارسة عملها الميداني على الأرض. بدأت هذه الحقيقة المرة، منذ الشهور الأولى، لوجود هذه السلطة ذات الحكم الذاتي المحدود. فرموز ورجالات العهد الجديد، فشلوا في التفاصيل الصغيرة، التي تصنع التاريخ الكبير. وتعاملوا مع الإسرائيليين، دون كبير معرفة، وأحياناً دون صغيرها. ولم يلجأوا، مرة، إلى استشارتنا، نحن حجارة الوادي، والأكثر معرفة بعدونا، بحكم معايشتنا اليومية له، في أية مسألة. ذلك أنهم، ومنذ البدء، تعاملوا مع أنفسهم وبالتالي معنا، على أنهم أصحاب الحل والربط والمعرفة، التي لا تتسع لمزيد. كنا نراهم، في تعاملهم مع الإسرائيلي، وكأنهم قادمون من كوكب المريخ. فلا مراكز أبحاث، ثمة، ولا معلومات، ولا أرقام، ولا إحصائيات. وفوق هذا وبعده، هالنا مقدار جهلهم بالعقلية الإسرائيلية ونسقها الثقافي، فكل ما لديهم، هو إنشاء رومانسي، وتهويمات، لا تنفع أبداً، لرجل سياسة أو ثقافة. وسياستهم الكبرى، هي سياسة اللحظة بلحظة، والعشواء، والرغبوية، والتوكل على الله، التي هي، عملياً، الإسم الآخر للهرجلة. فيما عدوهم التاريخي، كشأنه دوماً، يخطط ويحسب كل صغيرة وصغيرة، ويعرف إلى أين هو ذاهب، وماذا سيفعل بالضبط في الخطوة القادمة. بمعنى مختصر، كان الإسرائيليون استراتيجيين في تعاملهم معنا: يتصرفون في المفاوضات، وفق أجندة صارمة مدروسة، وبعقل علمي ودهاء سياسي محسوب بدقة متناهية، بينما على جانبنا، غابت الاستراتيجية، وحلّت محلّها التكتيكية: نفاوض ونتصرف بالطريقة العربية، المنذورة للاستيهامات والعجز والتواكل والابتسامات البلهاء للكاميرا والتعويل على نيّات الشريك الحسنة، أي العقلية التي لا تميزّ بين الوهم والواقع، في غالب الأحيان.
هذا على الصعيد الخارجي مع إسرائيل، أما على الصعيد الداخلي، أي فيما يجري داخل مناطق السلطة العتيدة، وداخل فضاء البيت، فحدّث ولا حرج. فقد رأينا، المهزلة، ذات ملايين التفاصيل الصادمة، وهي تكبر وتنمو يومياً، منذ الأسابيع الأولى لتكوّن جسم السلطة، لتتحوّل في الأخير إلى كارثة، ولا أقول فقط هزيمة. فالهزيمة، يمكن تجاوزها أحياناً كثيرة، لكن الكارثة لا يمكن تجاوزها في الغالب، إلا بما يشبه المعجزة ! وبما أن زمن المعجزات انتهى من التاريخ البشري، إلى غير رجعة، ولا مكان لمن يؤمنون به، بين سكان عالمنا المعاصر، فإننا على الأغلب، سوف نكابد مزيداً من تداعيات الكارثة، وسوف نعاني الكثير من الأهوال، يوماً بعد يوم، وسنة وراء سنة، حتى نتجاوز كارثة بهذا الحجم . كنا نرى المهزلة ونسأل يومياً: تباً، ماذا يحدث؟؟؟ لكن لا أحد كان يجيبنا من ذوي الأمر، فالكل مشغول بما بين يديه، وكل هذا حدثَ ويحدث، لعدة أسباب، الجوهري منها، كما نرى، أننا كنا مرهونين، كشعب، لإرادة رجل واحد، يفعل ما يشاء وقتما يشاء وحيثما يشاء، دون سؤال ودون محاسبة. فمنظمة التحرير، والمجلس الوطني، والمجلس المركزي، ومن بعد، المجلس التشريعي، وجميع المؤسسات والوزارات، وغيرها، أُفرغت من مضمونها الحقيقي، وصارت مجرد يافطات فارغة، مربوطة بإصبع ياسر عرفات. في مسرح دُمى، عجيب مريب غريب، تحوّل شعبنا، على خشبته، إلى 11 مليون ظِلّ لعرفات، كل فرد فلسطيني، هو بمعنى ما ظلٌّ لا بشر، فكيف لظلال يبلغ مجموعها 11 مليوناً، في الداخل والخارج، أن تفاوض وتأخذ حقها من إسرائيل المدعومة دولياً وذات الملايين السبعة من البشر الواقعيين الماديين ! معادلة محبطة دون غرو. ومع هذا، واصل الرجل استفراده وتفرّده، وواصلنا نحن تأييدنا له أو حَرَدنا منه، دون أن نتجاوز هذا السياج. فهو شاطر، وصاحب المقولة الفلسطينية الأشهر: (لكل رجل ثمن)، فالغاضب منه، يُرضيه في نهاية المطاف. سواء بالكوتة أو المحاصصات، أو بمبلغ من المال. وهكذا تسير وسارت الأمور. وأتذكّر في سياقنا هذا، مقولة نافذة لإدوارد سعيد، وهي أن العبقرية الوحيدة لياسر عرفات، هي عبقرية شراء الذمم وتوزيع المال. لقد كان يمتلك المال دائماً، ومن يمتلك المال يمتلك الرجال الجُوف بالضرورة. لكن هذا النهج، الذي ربما نجح في الخارج، أيام الثورة، لا يمكن له النجاح في الداخل، أيام السلطة. فأنت خرجت من طور إلى طور، وأنت مسئول الآن عن شعب بكامله، وعن همومه اليومية المعيشية والوطنية، التي تنوء تحت عبئها الجبال. وأنتَ إن أعطيت وظيفة لمن لا يستحقها، مثلاً، فهذا يعني أنك سرقت وظيفةً ممن يستحقها. وعلى ذلك قِس. لم يستوعب أبو عمار، بعقله التقليدي، ما جدّ من متغيرات. أي لم يستوعب تحوّله من رجل ثورة إلى رجل دولة أو سلطة أو بدايات دولة. ولم يُشر عليه أحدٌ من مستشاريه والمقربين منه، وهم بالمناسبة كُثر، وكل واحد منهم بمرتبة وزير، بأي شيء ذي بال. فهؤلاء مشغولون، في الحقيقة والواقع، بامتيازاتهم الكبرى، ولا يجرؤ أحد منهم على التضحية بها مقابل ( إغضاب الرئيس ) بلفت نظره إلى خطأ ما ارتكبه أو خطيئة ما اقترفها. لذا ظَلّ الرجل يتصرّف، رغم دهائه الثعلبي، بعقلية الخِتيار والمختار، الجالس في ديوان العشيرة، والمانح والمانع حسب الظرف والمزاج والرغبة والأهواء. يضرب هذا بذاك، ويلعب على التناقضات، ليظل هو اللاعب الأخير ومحرّك الدُمى الأوحد. كل هذا، عزلَ عرفات عن نبض شعبه، وأنتج مرارةً كبيرة في نفوس السواد الأعظم من الناس، فالرئيس أو الملك أو الأمير، أياً كان ومهما بلغت قدراته، لا يستطيع أن يرشو شعباً بكامله في التحليل البديهي والأخير. فما بالك بياسر عرفات، زعيم الشعب الفقير وذي القدرات المادية المتواضعة قياساً إلى غيره؟ لهذا، كانت المرارة تتراكم وتتفاقم في النفوس المظلومة، ولا تجد لها متنفساً، سوى عند الخصم السياسي الطالع والمتنامي القوة والحضور، والنظيف من تهمة الفساد الإداري والمالي وحتى الوطني، ألا وهو حماس. ولقد التقطت حماس هذه الفرصة الذهبية النادرة، ووظفتها جيداً، بإمكانياتها الهائلة وبشبكة علاقاتها وببرنامجها الاجتماعي الرائد والفعّال. فانحازت لها جماهير كبيرة، لم تكن من مؤيديها أو مُحازبيها أو قريبة منها ذات يوم. وحين بدأت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، وقع عرفات في المحظور السياسي، وتجاوز الخطوط الحمراء، فعسكرَ هذه الانتفاضة، منذ أسابيعها الأولى، وصار يتبارى في تصعيد العنف، مع حماس والجهاد، حتى وصلت الحكاية، إلى تدمير شعبه، في صراع ظالم غير متكافىء، دفع هو شخصياً ثمنه الأبهظ، بما نعرف من حصاره الشهير في المقاطعة برام الله، ومن ثمّ تسميمه أو موته. انهارت السلطة قبل ذلك التاريخ وبعده، وانهارت فتح، تحصيل حاصل، بوفاة زعيمها. وفازت حماس، كما لم يتوقع أحد. فما زرعته السلطة، ممثلة بفتح، طيلة 12 سنة، من ريح صرصر، كان لا مفر من أن تحصده: عواصفَ أشبه بالزلزال. وكان هذا الزلزال السياسي، هو يوم الانتخابات، في 23 آذار الماضي. وفي صبيحة اليوم التالي، 24 من آذار، استيقظت فتح على الحقيقة الذريعة، وربما تكون نظرت إلى المرآة وسألت نفسها، سؤالنا السابق الحارق، الذي أبداً، لم تُجب هي عليه، في حينه: (تباً، ماذا حدث؟؟؟؟). وأياً يكن الجواب، فقد انطوى فصلٌ في كتاب التاريخ الفلسطيني المعاصر، وبدأ فصل آخر، لا علاقة له بالصفحات المنطوية من ذلك الفصل الغارب.
فأين موقف المثقفين الفلسطينيين، مناط حديثنا، وأين خياراتهم، من كل ما سبق؟
عملياً، وميدانياً، ركب معظم المثقفين من الداخل، مثل زملائهم العائدين، موجة الحزب الحاكم، وتوظفوا في وزارات السلطة - سواء لضرورة لقمة العيش، وهذا هو الأعم الأغلب، أو لحسابات أخرى. البعض منهم صار وزيراً، والآخر، وكيل وزارة، والبعض مدراء عامين ومدراء، الخ. ومقابل هذه المناصب، سكتوا، في الأحسن، وفي الأسوأ: نافقوا وجاملوا وطبلوا. أي، كانوا شهود زور، ومثقفي سلطان، بالمعنى التراثي الكامل للكلمة.
أما البعض الآخر، قليل العدد، ممن كان يعمل في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فقد كان يطمح لأخذ مستحقاته من الوكالة، والانتقال للعمل في السلطة. يغويهم في ذلك، بريقُ التسميات والمُسميات والألقاب الوظيفية الكبيرة، في الحكومة الوليدة ! فداخل هذه التسميات من البرستيج الاجتماعي، الذي لم يعرفوه إبان سنوات الاحتلال، ما يغري حتى أنصاف الحكماء ! مع أن هذا غير صحيح البتة. فالمدير في السلطة مثلاً، لا يأخذ راتب مدرس ابتدائي في وكالة الغوث. بل إنه لا يأخذ راتب البطالة في إسرائيل. ذلك أن سلطتنا العظيمة، المتعطشة للألقاب، أفرغت حتى اللغة من مضمونها، بل إنها عهّرت هذه اللغة، فصارت لغة بلا مضمون حقيقي أو معنى حقيقي: لغة فارغة مثل كل شيء من حولها.
والآن ماذا عن موقف وخيارات المثقفين اليساريين؟ أو من بقي منهم - وهم الشريحة المُعوّل عليها تاريخياً في حقل الثقافة؟ احتار هؤلاء، وهم يرون تنظيماتهم (الحزب الشيوعي والجبهتان الشعبية والديموقراطية)، وهي تتحالف مع حزب السلطة أو تقف قريبة منه. الحزب الشيوعي، سابقاً، حزب الشعب حالياً، على سبيل المثال لا الحصر، تحالف مع السلطة، حتى قبل وصولها إلى الضفة والقطاع. وهو الذي كان يُنظّر لاتفاق أوسلو، بما لديه من كادر، بين الناس. بل لقد لجأت فتح له، في هذه المهمة، فهو يجيد التنظير والإقناع، على عكسها تماماً. أما الجبهتان الشعبية والديموقراطية، فقد رفضتا الاتفاق وتحفظتا عليه، ومع ذلك، عملَ بعض كوادرهما في أجهزة السلطة، لضرورات ضاغطة، ما شوّش على رؤية الناس لهما ولدورهما التاريخي.
لقد كان من المنطقي ألا يتحالف الحزب الشيوعي (والذي بالمناسبة، أحبه وأحترمه، فهو حزب سلمي ولم يمارس العمل المسلح منذ نشأته، ولذا صوّتُ له في تحالفه مع الجبهة الديموقراطية، في الانتخابات الأخيره) مع السلطة. حفاظاً على طابعه الفكري والاجتماعي، وكي لا يبدو تابعاً لها وملحقاً بها. بل كان يجب أن يحافظ على استقلاله، وأن يكون في صفوف المعارضة. لكن ما حدث قد حدث، وما ينطبق على هذا الحزب، ينطبق، بهذه الدرجة أو تلك، على غيره من القوى اليسارية في الساحة.
وعليه، فقد كان الموقف موقف التباس وتشوش، بالنسبة لهؤلاء المثقفين، المحسوبين على هذه القوى، والذين هم، تاريخياً، وأتكلم هنا عن تجربتنا داخل الأراضي المحتلة، عماد الحركة الثقافية وحاضنتها منذ العام السابع والستين. فلم يبرز اسم ثقافي مهم، منذ ذلك التاريخ، إلا وكان منهم أو قريباً لهم.
إذاً، تداخلت الحدود، أحياناً بشكل ما، وأخرى حدّ التماهي، بين مشروع السلطة، وبين هؤلاء. ما نتج عنه في المحصلة، عدم التمييز الدقيق بينهم وبين السلطة بكل فسادها وعشوائيتها. وهو الأمر الذي أضرّ بهم، وأنقص من مصداقيتهم أمام الناس. ولقد استثمرت حماس كل تفاصيل المشهد لصالحها. حيث تكلمت للناس بلغة شعبوية مفهومة، معززة بإمكانيات هائلة، نظلم أي تنظيم يساري، لو قارنا بين ما يملك هو من لا شيء تقريباً، وبين ما تملك هذه الحركة الكبرى. فاليسار، كما يعرف الجميع، بلا مؤازر أو حليف، فيما حركة الإخوان المسلمين الدولية، وبعض الأنظمة العربية والإسلامية، تضخّ المال لحماس، من غير مكان.
هذا هو بالمجمل، حالنا الثقافي: القسم الأعظم من مثقفينا لجأ إلى السلطة، وانتمى إلى حركة فتح، رغم استقلاله السابق أو انتمائه السابق لليسار الماركسي أو القومي. قسم آخر من المستقلين، صمتَ واعتزل، وانشغل في همومه اليومية، بعد أن رأى غول الفساد والإفساد رؤية العين، فآثر أن ينسحب، ويلعق جراحه بمفرده، على أثر انهيار يوتوبياه الثورية المثالية. قسم ثالث، ترك السلطة وراءه ، وذهب إلى المنظمات غير الحكومية، المدعومة من الغرب، فأثرى، وبنى القصور، أو كاد. أما القسم الأخير فوقف معارضاً للسلطة، ولم يتخل عن مبادئه القديمة، وصدقه مع نفسه أولاً، وكذلك مع أحلامه ورؤاه. وكل هؤلاء، بسالبهم وبموجبهم، لم يستطيعوا تأخير وقوع الزلزال. فهذا أكبر من طاقتهم، ومن الجنون مطالبتهم بذلك، وهم في التحليل الأول والأخير، مثقفون نخبويون مهمّشون معزولون عن مجرى الحياة العام، ومعدودون بالمئات فقط، ولا يتمتعون بقوة أو نفوذ أو أي تأثير فاعل سواء أكان مادياً أم معنوياً. وبالأخص في زمن سلطة لا تؤمن بالثقافة، ولا وجود لها على أجندتها. ولا تنظر للمثقفين، إلا كأفراد زائدين، مشكوك في جدوى مهنتهم ودورهم. إنها سلطة مثل مثيلاتها العربيات: تعادي الثقافة كرافعة للوعي الخاص والعام، ولا تؤمن بالمثقف إلا خطيبَ جامع أو زجّالاً غوغائياً، أو شاعرَ منبر رديء، يدعو للحاكم الظالم، ويمدح ظلّه السائر على التراب.
لذلك، يقف المثقف الفلسطيني، المحترم والجاد، اليومَ، محشوراً في (خانة اليك)، ينظر إلى ماضيه بإشفاق، وينظر إلى مستقبله بأسى وخذلان. دون حتى مقدرة على مساءلة الذات أو الموضوع، من أجل استخلاص الدروس والعبر. فلكي تفعل ذلك، يجب أن تنفصل عن الحالة وتراقبها من بعد.. وأين لنا مثل هذا الترف ونحن نعيش في المقلاة ! إنّ ما جرّته حركةُ فتح على نفسها، وعلى عموم الشعب الفلسطيني، جرّتهُ بالضرورة على هذا المثقف المنكود. فهو أول من سيدفع الثمن في المرحلة القادمة. سيدفعه من حريته ومن أحلامه ومن مشاريعه الفكرية، ومن رؤاه الإنسانية المتسامحة، وقبوله للآخر، وإيمانه بالحوار، وبإمكانية بل ضرورة العيش المشترك، في دولة واحدة تتسع لجميع مواطنيها من فلسطينيين وإسرائيليين. فنحن، كلا الشعبين، إما أن نموت معاً، وإما أن نحيا معاً، وما من خيار آخر، في قادم الأيام. بل إن مصادرة رؤى كهذه، واستنكارها وشجبها وربما تخوين صاحبها مستقبلاً، سيكون هو الثمن الأكثر إيلاماً بالنسبة لهذا المثقف. خصوصاً وبالأخصّ، وهو يعيش الآن، في مرحلة تقودها حركة أصولية، لا مكانَ حقيقياً فيها للثقافة، ولا أفق ثقافياً، يحمل الحد الأدنى، من الرؤى المشتركة والحيّز المشترك. كيلا نتطرّف فنقول إنها حركة معادية للثقافة بمفهومها الكوني والإنساني ، وتُحرّمها وتجرّمها !
إن مثقفينا، كلهم، وبالأخص النظيف والبريء والحداثي والبوهيمي والليبرالي واليساري والعلماني والصعلوك والطفل منهم، سيدفعون الآن، الثمنَ غالياً.. ويا لنا ويا له من ثمن ! مع وجوب التنويه، إلى ظاهرة قديمة، حدثت في أوائل عهد السلطة، وهي نزوح الكثير من مثقفينا، إلى حركة فتح، بما هي الحزب الحاكم، واحتمال تكرار هذه الظاهرة، مع سلطة حماس الحالية. إنها، على العموم، وفي كل حال، ليست، كما نظنّ، ظاهرة نادرة في التاريخ. فالمثقفون الفلسطينيون، هم أيضاً خرجوا من بطن أمهاتهم، وهم أيضاً: بشر كالبشر !