نهاية العراق من دون شهادة وفاة! (2/2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كتاب يطالب بشهادات ميلاد لثلاثة كانتونات؟
الحرب لماذا؟ البناء اين؟ العنف بديلا السلام
يتهم غاليبيرث إدارة الرئيس جورج بوش بجّر أمريكا للحرب من أجل الحرب لا من اجل البناء، ويعتقد المؤلف ان حكومة الولايات المتحدة كانت لديها رغبة محمومة لتكرار تجربة أفغانستان، وكان الدور على العراق كهدف استراتيجي وصفته هي نفسها: إنه سهل غاية السهولة. هنا، اريد التوقف لأسأل المؤلف وهو امريكي ابن حكومة الولايات المتحدة الامريكية: هل يمكنه ان يفصح لنا عن اهداف الولايات المتحدى الحقيقية من الحرب على العراق؟ ان العراقيين برغم صداقات بعضهم مع الامريكان، ولكنهم لا يمكن اقناعهم ان الولايات المتحدة قد (حرّرت العراق) من صدام حسين ونظامه لوجه الله! هل لنا ان نعرف نحن العراقيين ما اهداف الولايات المتحدة من كل هذه الحرب وتمفصل التوترات وجعل العراق بؤرة ارهابية، وجعل اهله يعيشون دوامة العنف باقسى حالاته؟؟ هل لدى المؤلف ما يقدّمه لنا عن اهداف الولايات المتحدة الامريكية.. ولماذا لا تعّرف العراقيين باوراقها؟ خصوصا وانهم شركاء معها على ترابهم؟ والسؤال الاخر: لماذا لم تستمع الولايات المتحدة لأي من العراقيين منذ اكثر من ثلاث سنوات؟ وبرغم كل المصائب، فهي تمعن بترسيخ ما تريد فعله ولا تقبل الاستماع الى أي عراقي ناضج؟ لماذا قبلت ان تجعل اناسا معينين في السلطة من دون اخرين اكثر كفاءة واصدق رؤى وانظف تاريخا؟؟ لماذا قبلت في التعامل مع احزاب دينية كي تغدو تلك الاحزاب في السلطة؟ لماذا لم تفرض على تلك الاحزاب تبديل اجندتها السابقة من اجل بناء العراق الجديد؟
العراق: مركزا لجذب الارهاب
السؤال الان: هل يقنعنا غاليبيرث بأن الهدف جعل العراق مركزا لجذب الارهاب؟ ويقول المؤلف: لقد صوت النائب الجمهوري والتر جونز لصالح قرار غزو العراق في عام 2003 وكنت أنا من أشد المعارضين لهذا القرار ولكن ما أن بدأت الحرب أغلقت فمي وقلت إن ما ينبغي علينا عمله هو ما ينبغي علينا عمله ولكن يتعين علينا أن نخرج من العراق بأسرع وقت ممكن ويبدو أن أحداً قد سمع كلماتي.وأثناء الجلسة الثانية للمجلس اقترح جونز إصدار قرار يطلب من بوش تحديد جدول زمني للحرب والخروج من العراق، ولكن بوش عارض بمنتهى القوة ذلك الاقتراح وقال إنه سيعطي فرصة للإرهابيين لإعداد أجندتهم". ويستطرد المؤلف قائلا: "إن جونز ونوابا كثيرين ديموقراطيين وجمهوريين يرون وهذه هي الحقيقة أن أمريكا فعلت كل شيء دون جدوى وأن شيئا لم يعد بمقدورها عمله وأنه لا بد من الاعتراف بالفشل وجمع قواتنا والرحيل وترك العراقيين يخوضون معركتهم مع الحد الأدنى من التدخل الأمريكي. ويتفق كثيرون على أن كل ما فعلته إدارة بوش في العراق أو ما ستفعله هو محاولات لا طائل منها سواء لتحقيق ما لا يمكن - عملياً - تحقيقه أو ربما الآن أو في مرحلة مقبلة البقاء فقط لحفظ ماء الوجه".
هنا أسأل: من يصدّق ان امريكا ستخرج من العراق مثلما دخلت اليه؟ وهنا لا يعنيني ابدا ما الذي تريده الولايات المتحدة من العراق كونها تقبل كل المتغيرات اذا أمنّت على مصالحها، ولكن يعنيني ما الذي يريده العراقيون كل العراقيين كونهم غير متقبلين للثوابت، وغير مدركين للمصالح العليا التي ينبغي العمل من اجلها.. لابد ان يدرك كل العراقيين بأن الولايات المتحدة غير آبهة بما يحصل من ايجابيات او سلبيات داخل العراق وسواء نجح العراقيون في اعمار بلدهم وحافظوا على وحدته ام عمّت الكوارث كل العراق.. المطلوب: مصالح الامريكيين (وبس).. وعلى العراقيين ان يدركوا ان كل ما يشغل بالهم وما يكتنفهم من صراعات داخلية هي الارضية الصالحة التي تمتد من خلالها المصالح الخارجية الدولية والاقليمية.. ليس من السهولة على الولايات المتحدة الاعتراف بالفشل، لأنني ارى انها نجحت ولم تفشل في حين فشل العراقيون ولم ينجحوا.. وانها انتصرت في تحقيق ما ارادته من جعل العراق مثل هكذا بؤرة متعفّنة، ولكن العراقيين هزموا في ان يحققّوا احلامهم التي كانوا يحلمون بها في جعل العراق مشروعا حضاريا للعالم كله!
منذ سقوط الصنم
يبدأ غاليبيرث كتابه " نهاية العراق " بتصويراللحظة التاريخية التي تمّ فيها إسقاط تمثال صدام حسين ويقول: " يحلو للمسؤولين في إدارة الرئيس بوش أن يرددوا دوماً عبارتهم الشهيرة: "لكل مشكلة عندنا حل لها " ولكن الذي فعلوه بالعراق يؤكد أنهم يخلقون المشاكل، ولا يجدون لها الحلول، والعراق الآن بلا صدام، الذي كان نظامه البعثي، ومثله نظام حكم بول بوت في كمبوديا، من أسوأ الأنظمة الدموية ابان النصف الثاني من القرن العشرين، فما الذي فعلته هذه الإدارة الامريكية العبقرية؟".يقول غاليبيرث إنه "منذ أن أسقط المارينز الأمريكيون تمثال صدام حسين بميدان الفردوس ببغداد، سارت الأمور مع أمريكا في العراق من سيئ إلى أسوأ، وانهارت طموحاتها المعلنة لإقامة نموذج ديموقراطي يمكن تعميمه في الشرق الأوسط. وتبدو أمريكا الآن وكأنها ستبقى في حرب مفتوحة بالعراق إلى مالا نهاية وسط تصاعد ضغط الطوائف التي نفذ صبرها بالفعل وباتت الحرب الأهلية هي العنوان الوحيد لعراق ما بعد صدام.وكان يمكن تفادي ما حدث لو كانت إدارة بوش قد وضعت سياسة حكيمة في تفادي الفوضى التي عمت العراق بسبب ترك الأمريكيين الحبل على الغارب منذ أول أيام الاحتلال لنهب وتدمير المؤسسات في بغداد ".
هذا كلام سليم لا يمكن ان يعترض عليه أي عراقي حتى وان كان صديقا للولايات المتحدة ومعجبا بسياستها، ولكن هل باستطاعة الولايات المتحدة اليوم ان تعترف باخطائها قبل ان تجد لها المبررات وقبل ان تجد لها العلاجات البدائية وقبل ان تنفرد برأيها؟؟ هل يمكنها ان تمنح العراقيين فرصة تاريخية كي تجعلهم اصحاب وطن واحد بدل اذكاء روح الانقسام وبث المعلومات الكاذبة؟ هل باستطاعة الولايات المتحدة ان تعيد صياغة العملية السياسية بالطريقة التي يمكن ان يقبلها كل العراقيين؟ هل باستطاعتها ان تفتح بينها وبين العراقيين بابا للمحادثات بشأن ما يمكن عمله المشترك من اجل المستقبل؟ لقد بدأت الاخطاء الجسام منذ ساعة سقوط الصنم في ساحة الفردوس التاريخية.. وفي تلك الساعة وفي ذاك المكان بالذات كان صدام حسين برفقة ولديه عدي وقصي وبمعيتهم احد مرافقي عدي يمرون بسيارتهم وفيها العديد من حقائبهم وقد توقفوا قليلا، وما ان شاهد صدام صنمه يطاح به، التفت نحو ولديه قائلا: لقد سقطنا حقيقة، علينا ان نفترق الان كل مع حقائبه، وانت يا (....) ما عليك الا ان تغرب عنّا، يقول هذا المرافق الذي خدمهم بحمل حقائبهم من مكان لآخر: لقد اخذوا كل الحقائب ومضوا بعد ان تركوني من دون أي حقيبة! (حدّثني بذلك احد الاصدقاء الاطباء العراقيين الثقاة نقلا عن الشخص المرافق الذي كان يصطحبونه معهم والذي لا يمكننا ذكر اسمه حفاظا على حياته).
طبيعة الاخطاء القاتلة
يستطرد غارليبيرث مسجلا مشاعر بعض مسؤولي الرئيس بوش الذين يجد انهم سعداء بهذا المشهد وكأنه جزء من الانتصار، متهمّا إدارة الرئيس الامريكي بارتكاب أخطاء قاتلة في عراق ما بعد صدام وتبني استراتيجيات تؤكد عدم إدراكها لطبيعة العراق وفهمها لهذه البلاد الصعبة متعددة الطوائف والأعراق كما وانهم كانوا وما زالوا من البعد بمكان عن ادراك العوامل التي تحكم العلاقات بين هذه الطوائف العراقية.. واستطيع ان اضيف بأن الامريكيين لم يدركوا البنية المتداخلة للمجتمع العراقي الذي لم يكن في يوم من الايام منفصلا عن بعضه الاخر ولا بمحارب لبعضه الاخر ولا بمستهجن لبعضه الاخر.. ربما كان هناك اختلاف ثقافي لكنه لم تصل درجة الاختلاف الى نفي الاخر وابادته!
ويبقى المؤلف يسجّل قائلا بأن هذه الأخطاء الامريكية قد حالت دون نجاح عمليات الإعمار أو إقامة أي حكومة مركزية قوية في المستقبل. وهنا ينبغي ان اعّلق قائلا بأنها ليست اخطاء يمكن للادارة الامريكية الاعتراف بها، بقدر ما هي سياسة معينة تنفّذ لتحقيق اهداف معينة.. فاذا اعتبرها العراقيون اخطاء، فلهم الحق في ضياع احلامهم وانهيار بلادهم وكارثة مستقبلهم، ومن اخطاء العراقيين انفسهم انهم صفقوا للاخطاء وكانوا وما زالوا يراهنون على تقسيم العراق من دون ان يحسبوا أي حساب لمصيرهم؟ بعد ان رقصوا للفيدراليات العراقية طويلا! وكم انتقدني الاصدقاء كوني وقفت ضد فيدراليات العراق (باستثناء اقليم كردستان).
ويقول غارليبيرت: "إن المأزق الذي وضعت إدارة بوش العراق فيه هو دفعها للأمور في طريق يمكن أن يطالب فيه البعض بإقامة ديكتاتورية لاستعادة الأمن والدولة الموحدة". أي بمعنى: ان الولايات المتحدة لا مانع لديها ان تنّصب حكومة مركزية يقف على رأسها دكتاتور جديد ليس لاستعادة الامن والنظام والدولة الموّحدة، بل من اجل ضمان مصالحها الحيوية في الشرق الاوسط والعالم كله!
الحصيلة المؤلمة
يؤكد غارليبيرت مخاوفه من أن يؤدي المنحنى الخطير الذي تتخذه الأحداث الصعبة إلى هذا المسار من نتائج الحرب... قائلا إنه: " منذ غزو العراق حدث ما يلي:
اولا: سقطت الآف مؤلفة من العراقيين بين قتلى ومذبوحين وجرحى نتيجة انتشار أعمال العنف الدموي في العراق بعد فشل سياسات الاحتلال الأمنية، كما سقطت أعداد كبيرة من الجنود الأمريكيين ما بين قتلى وجرحى أيضاً بسبب هذه السياسات التي لا توفر أي نوع من الأمن، لا للأمريكيين ولا لشركائهم في التحالف ولا للعراقيين المدنيين.
ثانيا: دفعت سياسات بوش في العراق إلى ظهور جماعات إرهابية شرسة، تمكنت منذ اللحظة الأولى من السيطرة على اصقاع مهمة من العراق وانتزاع زمام المبادرة من سلطة الاحتلال وكذلك الحكومة المؤقتة - فيما بعد - برئاسة د. إياد علاوي ومازالت حتى يومنا هذا.وقد ظهر هذا بوضوح عندما اغتال الإرهابيون رئيس بعثة الأمم المتحدة السيد سيرجي دي ميللو ثم اغتالوا بعد ذلك الزعيم الشيعي البارز آية الله محمد باقر الحكيم، ومئات الشخصيات العراقية ناهيك عن مسلسل قطع رؤوس الأجانب والعراقيين معا. والكل يسأل منذ اكثر من ثلاث سنوات: لماذا لم يفرغ العراق من الاسلحة؟ لماذا بقيت الحدود الدولية مفتوحة على مصراعيها؟ لماذا لم تعلن حالات طوارئ. لماذا لم يمنع التجول؟ لماذا لم يحاكم القتلة والمجرمين؟ لماذا تفرض الادارة الامريكية الفيتو على القرار العراقي؟
ثالثا: سماح الأمريكيين بأعمال النهب والسلب والسرقة لكل ممتلكات الدولة ومؤسساتها وانفلات الامور في عموم العراق (ما عدا حماية وزارة النفط العراقية) في بداية دخولهم العراق كلف العراق مليارات الدولارات، كما أدى سماحهم بتدمير المؤسسات العراقية وسرقة موجودات المال العام إلى خسائر فادحة، ويطالب المؤلف قائلا: سيتعين على الأمريكيين إذا ما استمروا في البلاد إعادة البناء وتعويض الخسائر من جيب دافع الضرائب الأمريكي.
رابعا: أنفق الأمريكيون أكثر من 200 مليار دولار في حربهم على العراق على عكس ما حدث في حرب الخليج الأولى عندما عادت عليهم تلك الحرب ببعض المكاسب المالية نتيجة لمساهمات دول أخرى في تكلفة الحرب. واعتقد ان المؤلف لم يقع على ارقام حقيقية في ما انفقته الولايات المتحدة في حربها على العراق، وما الذي استفادت منه ولم تزل؟
خامسا: ومع تصاعد موجات الاعتراض والتمردات والثورة على الاحتلال الأمريكي في الجنوب الشيعي أو المثلث السني، حاولت واشنطن تشكيل وحدات أجهزة أمنية من العراقيين كدرع واق يتلقى الضربات الموجعة بدلاً من جنودها، إلا أن الأمر لم ولن ينجح ابدا، وما حدث حقيقة هو انضمام أعداد كبيرة من الشرطة العراقية التي جهزتها أمريكا إلى الجماعات المسلحة والميليشيات التي تقاوم الاحتلال أو إلى الجماعات المتوحشة التي تمارس الإرهاب.
سادسا: انفراط عقد التحالف الدولي، اذ لم تستطع إدارة بوش الاحتفاظ بحلفائها في حربها على العراق في السنوات الثلاث المنصرمة، اذ جاءت الانتخابات الإسبانية ـ مثلا ـ وذهب أزنار رئيس الوزراء الحليف وجاء زاباتيرو رئيس الوزراء وهو المعروف بنقمته على الحرب، فقام بسحب قواته. والآن هناك خطط لمعظم حكومات القوات المشاركة في التحالف الدولي للانسحاب من العراق.
ما الذي تعرفه عن تاريخ العراق العثماني؟
هل صحيح كما يذكر مؤلفنا ان ادارة بوش تائهة؟ انني اعتقد بأنها ليست تائهة اذ لم تزل ثمة اوراق تتلاعب بها اذا ما عرفنا ما الذي اعدت له وما الذي تخطط للوصول اليه! يقول غاليبيرث "إن الصورة الآن تؤكد أن الولايات المتحدة وإدارة بوش على وجه التحديد لا تعرف ما تفعله في العراق، وكذلك لا تعرف ما ستفعله فيما بعد، وتبدو عاجزة لا حيلة لها في مواجهة الأوضاع هناك". انني اخالف غاليبيرث في هذه الرؤية، اذ ان لدى الامريكيين سيناريوهات اخرى يمكن عرضها خصوصا وان العراق قد وصل الى درجة اللاعودة ـ كما يتصّور الامريكيون ومنهم مؤلفنا ـ الذي بقي يسجل قائلا: "هناك حكمة قديمة تقول إن تقسيم العراق لن يزيده إلا جراحاً بل وسيؤدي إلى المزيد من عدم استقراره، الأمر الذي يجب تفاديه مهما كلف الأمر، غير أن مراجعة سريعة لتاريخ العراق تؤكد أن العراق كان في الأصل بلداً مقسماً إلى ثلاث ولايات وظل كذلك حتى العهد العثماني قبل أن توحده بريطانيا وتنصب عليه ملكاً في أواخر الحرب العالمية الأولى فالأمر إذن لصالح العراق وليس لعدم استقراره". ان غاليبيرث لم يدرك مغزى الحكمة القديمة التي تدولها العراقيون منذ الاف السنين.. وانه لم يفهم ابدا تاريخ العراق الحديث الذي لا تفيده ابدا مراجعة سريعة ـ كما يريد ـ، بل ان التعمّق بذلك التاريخ يوصلنا الى ان العراق لم يكن في الاصل بلدا مقسما لا من الناحية الاجتماعية ولا الجغرافية ولا حتى السياسية اذ كان مكوّنا من ثلاث ولايات كبرى تتصّل احداها بالاخرى استراتيجيا وتقف احداها في الذود عن مصالح الاخرى.. فضلا عن القوة الحيوية الاقتصادية والتجارية بروابط عبر مسالك برية ونهرية لم تنقطع ابدا.. بل وان تكوين العراق الاداري قد ولد من خلال نظام الشرق الذي اسّسه السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 وبقائه في العراق لمدة تقترب من ستة اشهر! لقد نجحت بريطانيا في تأسيس دولة لا في توحيد بلاد عرفت نفسها موحدة منذ ازمان قديمة.. وعليه، فان نظرية غاليبيرث ومن ينحو نحوه في تقسيم العراق هي كارثة للعراق وليس لصالح العراق وستثبت الايام ما اقول!
السياسة الطائفية ام الوحدة الوطنية؟
ويسجّل غاليبيرث قائلا: "إن أمريكا قد كسبت الحرب في التاسع من أبريل / نيسان عام 2003، ولكنها قد خسرتها في نفس اليوم. حيث غزت الطائفية وهي تتحدث عن عراق موحد.وقد كان من الممكن تفادى ما وصلت إليه الأمور لولا أن القصة من قبل الغزو كانت غير محبوكة". و يستطرد المؤلف قائلا: " أن إدارة بوش فشلت في جمع جميع أطياف الشعب العراقي على أي شيء واحد وأن أزمة وضع الدستور العراقي الجديد كانت خير دليل على ذلك. وأن الإستراتيجية الأمريكية التي ترتكز على إقامة حكومة مركزية قوية لم تحقق أي نجاح حتى الآن إلا على الورق فقط". وهنا علّي القول بأن امريكا كانت ولم تزل كاسبة الحرب، اذ علينا ان نفرّق بين تلاقي الاسباب للحرب بين الامريكيين والعراقيين، ولكن كلا من الطرفين قد افترقا في الاسلوب والاداة. وبالرغم من تأييد واضح من قبل عراقيين للسياسة الامريكية في العراق، الا ان خذلان امريكا للعراقيين في كل كبيرة وصغيرة، جعلهم لا يعرفون كيف يحكمون ولا يتحاورون ولا يفكرون.. ربما يقول البعض مدافعا: ان العراق لولا الامريكان لتمزق اربا اربا منذ زمن طويل! وهنا لابد ان نرد بالقول: ان الامريكان لو احكموا السيطرة من قبل مؤسسات العراق واغلقوا الحدود واستشاروا رجالات العراق وخبرائه لما حدث ما حدث!
ايها العراقيون: هل تمزّق العراق فعلا؟
ويقول غاليبيرث في مكان آخر: "إن الولايات المتحدة يجب أن تركز الآن ليس على استعادة العراق الموحد الذي دمره سياسيو بوش غير المتمرسين والحمقى ولا على فبركة وحدة مزيفة وكاذبة لهذا البلد ولكن تركز على منع انتشار الحرب الأهلية المدمرة والمميتة. ويتعين عليها قبول الحقيقة الماثلة الآن للأعين، وهي أن العراق تمزق، وأن تعمل مع الشيعة والعرب السنة والأكراد لتعزيز المناطق شبه المستقلة أصلاً. وإذا تم استقلال هذه المناطق فإنه سيكون عليها هي توفير الأمن لسكانها الذين ينتمون لعرق أو طائفة واحدة ". هنا، لا استطيع ان اقف مع غاليبيرث في دعوته الحالمة، فالهدم شيئ والبناء شيئ آخر.. واذا كان الامريكيون من وراء هدم العراق، فان العراق لا يمكن ان يعيده ويبنيه الا العراقيين! ان الاقرار " بأن العراق قد تمّزق.. "، فهذا اعلان عن وفاة لم تحصل بعد يا غاليبيرث.. فكيف تدعو الى اصدار شهادات ميلاد لكيانات غير مؤهلة ان تتنفس في منطقة قلب الشرق الاوسط المغلقة؟ وكيف لها ان تتنفس وكل من ايران وتركيا بالمرصاد في ان تقّطع اوصال العراق؟ اذا كان اقليم كردستان قد عاش اشبه بمنفصل منذ العام 1991، لكنه مع كل ما حدث لم ينفصل عن العراق والظروف كانت ولم تزل مؤاتية في داخل العراق، فكيف يمكنك اعتبار مناطق اخرى بشبه مستقلة او منفصلة وتريد من الولايات المتحدة بفصلها عن العراق الام؟ كيف يمكن لمناطق حيوية ومهمة ومعتمدة على المركز ان تعتمد على نفسها في حماية نفسها بعد الانفصال؟ وهل يمكن ان ينفصل اقليم عن العراق لسبب طائفي ويلقى مباركة من مؤلف وخبير دبلوماسي امريكي؟
العراق ليس يوغسلافيا جديدة!!
ويمضي غاليبيرث قائلاً: " ان أكراد العراق لا يقلون عن الفلسطينيين أو الليتوانيين أو الكروات من حيث استحقاقهم للاستقلال، وإذا كان من الشيعة الذين يشكلون الأغلبية من يريدون إدارة شؤونهم بأنفسهم أو حتى إقامة دولتهم فعلى أي أساس يمكن أن ننكر عليهم هذا الحق؟ العراق يوغسلافيا جديدة... ". اننا نعترف كعراقيين بحقوق الاكراد العراقيين في نيل استحقاقهم وتقرير مصيرهم.. ولكن الحقيقة ان العراق حاضنتهم الجغرافية والاستراتيجية. انني اعتقد اعتقادا جازما ان اقليم كردستان لو كان يقع في مكان اخر من العالم لاستقل منذ ازمان، ولكن قدره قد وضعه بين فكي كماشة تركيا وايران. وعليه، فليس من الذكاء الانفصال عن العمق الاستراتيجي والتاريخي لكي ترجع انسحاقاته كرة اخرى كتلك التي كان يعاني منها عبر مئات السنين (واتمنى على الساسة والكتّاب الامريكيين المنظرين الجدد وعلى اخوتي الاكراد انفسهم قراءة كتاب شرفنامه وكتاب تاج التواريخ ـ مثلا ـ ليدركوا قيمة ما اقول). ان من اسوأ الامور ان يأتي كتّاب وساسة امريكان وغير امريكان ليكتبوا وينظروا في واقع هم بعيدون عنه كل البعد وخصوصا واقع كالعراق فيه من التعقيدات والمشكلات والمخاطر ما لا يمكن تخّيله..
ان التبشير باقامة دولة شيعية في العراق لا غبار عليه اذا كانت هناك ثمة ارادة وطنية، ولكنني اعتقد ان العراقيين انفسهم حتى وان اعتقدوا بهذا النهج الذي بدأ يطرحه الكتاب الامريكيون، فهم الذين سيخسرون، فالحرب ستستعر ليس سياسيا، بل اجتماعيا وثقافيا، اذ لا يعلم المرء حجم المصاهرات والتمازجات بين الطيفين العراقيين.. وان الانفصال وحق تقرير المصير على اساس طائفي سوف لا يحل المشكلات، بل سيزيدها سعارا! والسؤال الاخطر: ما مصير كانتونات العراق الطائفية في منطقة اقليمية تعج بالطوائف والملل والنحل الاجتماعية؟
ويستطرد غاليبيرث الذي خصص جزءاً كبيراً للمقارنة بين يوغوسلافيا السابقة والعراق قائلا: "لا يمكن اعتبار العراق الآن - كما كان الحال عليه في يوغوسلافيا - دولة موحدة تتفق مكوناتها على مصالح عليا وطنية وإنما مقسمة وكل طائفة فيها لها ولاء خارجي مع دولة ما، ولا تجتمع هذه المكونات السكانية، أو هذه الجماعات الطائفية على شيء، كما أنها ليست مستعدة للتعايش معاً تحت علم واحد". ومرة اخرى، يرى هذا الكاتب والسياسي العراق بمنظار يوغسلافيا السابقة، فالمكونات اليوغسلافية هي غير المكونات العراقية، وموقع يوغسلافيا هو غير موقع العراق، وانبثاق ما سمي بيوغسلافيا هو غير تكوين العراق، وولاءات سكان يوغسلافيا الذين وحدتّهم الارادة الايديولوجية هي غير ولاءات سكان العراق الذين وحدتّهم الارادة الوطنية.. ولنا ان نقارن بين الثقافة العراقية بالوانها المتنوعة وبين الثقافات اليوغسلافية بمضامينها المختلفة.. لقد كان من السهولة والميوعة التاريخية ان تتجزأ يوغسلافيا بسرعة وتتلاءم شعوبها بمحددات وحدود وفي اقليم هدأت اوضاعه في شهور، ولكن من الصعوبة والصلابة التاريخية ان يتجزأ العراق الا بعد بحار من الدم والعبث بالمجتمع في مدنه وحواضره بين عشائره وقبائله لتقوم بينه وبين نفسه حدود دولية وفي اقليم يعج بالتناقضات والمخاوف والتوحش والاطماع!! ناهيكم عن ان يوغسلافيا لم تكن دولة غنية مليئة بالثروات حتى يطمع هذا وذاك باجزائها او بفيدرالياتها؟ واخيرا أسأل كل العراقيين: هل دفع اليوغسلاف من حياتهم ودمائهم ما دفعتم انتم لعشرات السنين من دمائكم في سبيل وطن اسمه العراق؟
ما الذي يقترحه غاليبيرث على الرئيس بوش؟
بعد ان يتساءل المؤلف عن عدم جدوى غزو العراق متهما بوش ومعاونيه انهم لم يحسنوا فهم دروس التاريخ ويتحدث عن الخطط الامريكية لغزو العراق ودور رامسفيلد وتباينات وجهات النظر، وهي بطبيعة الحال لا تعنينا في أي شيئ، يكتب غاليبيرث قائلا: " أن إدارة بوش ذهبت للحرب في العراق وهي مدفوعة برغبة محمومة في احتلاله من دون أن يكون لديها أي خطة أو مشروع مستقبلي لعراق ما بعد الحرب ". وينصح غاليبرث بوش بعد أن اتهمه بإساءة قراءة تاريخ العراق الحديث بسحب القوات الأمريكية والمستشارين الأمريكيين من العراق لأنه لو حاول فرض الوحدة ستندلع حروب طاحنة وستتشكل حكومات مستقلة عن الدولة الأم ويتم القتال للسيطرة على منابع النفط وعوائده. لقد فشلت أمريكا في بناء عراق موحد وديموقراطي.ويوضح غاليبيرث أن التقسيم مأساة يجب الإقرار بها. كما يجب الإقرار بأنه ليس في الإمكان ما يمكن فعله لإيقافه، وما من أمل يرجى كذلك من استمرار الوجود الأمريكي في حرب مفتوحة بلا نهاية في العراق.
وأخيرا: دعوني اقول كلمتي
هنا اتساءل كمواطن عراقي بعيد عن وطنه منذ سنوات طوال وقد قرأ تاريخ العراق بكل تواضع وهدوء وينظر الى اطياف مجتمعه ومكوناته الجميلة كلها بكل حيادية وفخر واعتزاز: هل هذا هو الثمن الذي يمكننا دفعه كعراقيين بعد كل هذا الطوفان؟ وسواء كانت للرئيس بوش خطط لما بعد الحرب ام لم تكن، فهل هناك اثمن من العراق في ان يبقى بديلا عن التفتت.. انني واثق تمام الثقة بأن هناك من العراقيين من بات يؤمن بالانفصال والتجزؤ والانقسام.. بل ويتجرأ البعض في ان يعلن ذلك بكل صراحة وشجاعة.. بل وان بعض المثقفين الطائفيين المتعصبين من كل الطرفين السنة والشيعة بات لا تهمه الارض والتراب بقدر ما تهمه مصلحة طائفته.. واعود لاستفسر: هل كان هذا هو الهدف من اسقاط نظام صدام حسين؟ هل كان هذا هو استحقاق العراقيين من حرب شعواء خسروا فيها مؤسساتهم وكل احلامهم وامانيهم؟ هل هذا هو ثمن انهار الدماء العراقية الزكية التي ازهقت في الحروب والانتفاضات والانقلابات والسجون والمعتقلات والمقابر والميادين والحقول والخنادق والشطوط والبحار في سبيل الوطن؟؟ من يدفع فاتورة هذه الاخطاء التي لم يكن ابناء العراق بمسؤولين عنها؟ كيف يمكنني ان اعترف بالتقسيم كمأساة وتريدني القبول بها؟ من يعتقد ان المأساة ستنتهي الى الابد اثر التقسيم، فهو واهم على اشد الوهم، فالكارثة تنتظر العراق في حالة بعثرته وتجزئته! اذا كان مشروع التقسيم هو الثمن الذي سيقبضه العراقيون بعد كل هذا المهرجان التاريخي، فما الذي دعاكم لتسويق الديمقراطية والفيدرالية حتى في دستور لا يليق بشعب العراق وتاريخه؟ اذا كنتم تريدون تقسيم العراق، فلماذا لم تعلنوا ذلك في بياناتكم السياسية او في انظمة احزابكم الداخلية؟ اذا كنتم تريدون نفط العراق فخذوه كله ولا تنقسمون؟ اذا كنتم تريدون الحكم والسيادة والمناصب فتقلدوها ولا تقسمون العراق؟ لا تكرروا الخطيئة ثانية فمن اجل قضية قومية وسياسية عادلة ضيعنا نصف شط العرب بغطرسة وجنون.. فهل سنكون جميعا من المجانين ونحن نقسم وطننا من اجل صراع طائفي مقيت مهما بلغ عدد المتخلفين؟ هل يمكننا ان نزرع المحبة والاخاء بين العراقيين بدل الكراهية والاحقاد؟ هل سنبقى اسرى صنّاع القرارات الامريكية والكتابات الامريكية ومعلومات الميديا الامريكية والخرائط الجديدة الامريكية.. كي ننتقل من واقع تعيس الى واقع اتعس؟ من ينقذ العراقيين بكل جماهيرهم من اولئك الذين يعملون على غسل عقولهم؟
ينتقدني البعض من الاصدقاء العراقيين كوني لا اقبل بتقسيم العراق باعتباره واقع على الارض، ويلومونني أشد اللوم انني لست مع هذا الواقع.. فأقول بأن المصير سيكون هو الكارثة الحقيقية لو اقتنعنا بمثل هذا الواقع المتعفّن وآمنا به. وهل هناك عراقي سوي يؤمن بهكذا واقع؟ فمن سيقف معي ومن سيتّخلى عني من العراقيين بعيدا عن كتابات الامريكيين؟ هذا ما سيفصح عنه الزمن الاتي!
www.sayyaraljamil.com