محاولة في تشريح الطائفية في العراق! (2/4)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يعترف العراقيون اليوم، في السلطة وفي المجتمع، بتغلغل السم الطائفي في كل شيء من أبواب الوزارات حتى أفران الخبز! وإن الطائفية قد أسفرت عن وجهها بصفاقة لم تحدث في العراق إلا في عهود سحيقة مظلمة! الكل يعترف بسخاء اليوم بوجود الطائفية. والفرق كبير بين الاعتراف بوجود الطائفية كوباء وبين القبول بها والرضى عنها خاصة وإن البعض يريد الإبقاء عليها نهجاً وطريقاً لحياة وحكم العراقيين اليوم وفي المستقبل! وثمة اختلاف بين اعتناق المذاهب المختلفة داخل الأديان والتمسك بها وبطقوسها وشعائرها كقناعة روحية شخصية وجماعية وهذا أمر ينبغي احترامه وضمان ممارسته كحق من حقوق الإنسان، وفي حدود الطائفة المسالمة الآمنة. وبين التعصب للطائفة التي تعتنق المذهب واعتبارها هي وحدها الشرعية والجديرة بالحياة والسيادة والاستحواذ والتقدير والبقاء ووجوب إقصاء ونبذ أتباع الطائفة الأخرى وكراهيتهم واحتقارهم وحرمانهم وحتى إبادتهم، وهذه هي الطائفية بأبشع صورها!
لا ترتبط الطائفية بالدين قدر ارتباطها بالتعصب للجماعة أو الوعي الجمعي والقبلي، فقد نجداً شخصاً علمانياً، وبثقافة علمية متخصصة ومتميزة أو حتى ملحداً لكنه طائفي شديد التعصب ومنفر في علاقاته مع الطائفة الأخرى. وقد نجد شخصاً متديناً تقياً ورعاً لكنه أبعد ما يكون عن الطائفية كثير التسامح وقبول الآخرين. فالطائفية هي انحياز وتزمت متوارثان من الطفولة وفي أعماق اللاشعور مكتسب من بيئة شديدة الأنانية والجمود. وهي شكل من تضخم الأنا المرضي أو انسحاق الذات وتدهورها حيث الذات في كلا الحاليين ضعيفة مدمرة لا تجد قوتها من داخلها أومن قناعاتها الروحية أو الفكرية الخاصة بل من انضمامها لجموع هادرة في صوابها أو ضلالها متحولة إلى جسد كبير أسطوري يعوض عن ضعف جسد الفرد وذهنه. الطائفي لضآلته الروحية لا يجد طمأنينته إلا داخل قطيع يتصدره راعٍ كبير! ويلعب مركز الجذب الطائفي دور المغناطيس مع برادة الحديد حيث يجمع هذه النفوس الضعيفة والمحطمة حول مصالح كبيرة يكون عادة هو وجماعته المستفيدون منها، ولهؤلاء الأتباع الفتات والقشور منها. لذا فإن حل الطائفية يكمن في محاولة تفهم وقراءة تضاريس العقل الجمعي كما يكمن في فهم اختلال النفس الإنسانية الفردية والاقتراب من عذاباتها الخاصة! وهي لا تحل بالرثاء أو السخرية أو النبذ بل بتوفير الظرف المادي الموضوعي لخلاص الجماعات والأفراد من محنهم الاجتماعية والاقتصادية والوجودية.
الطائفية أفظع مروج للنظرة الشمولية الماحقة لذات الإنسان فهي تريد تحويل الطائفة إلى قطيع تابع لمرجعها المقدس المطهر المعصوم عن الخطأ كما تتوهمه، وكل نزعة تريد استعادة إنسانية الفرد واستقلاله الفكري والروحي واجتهاده المتميز هي في نظرها مروق على الطائفة وتوصم بالخيانة والردة وتعاقب بالقتل أو العزل. لهذا فالطائفية إذ تمسخ عقل الفرد وتجعله ذرة هائمة في فتوى المرجع تعطل فيه الإبداع والانطلاق في حريته الطبيعية وتريد من الأفراد المعذبين غالباً أن يكونوا وقودها وزيتها المحترق من أجل مصالح قادتها لا غايتها وأملها كما تدعي!
لا توجد طائفة، لا في العراق ولا في العالم هي وحدها التي على حق والأخرى ضالة تماماً. أو طائفة بريئة تماماً من الذنوب والخطايا والتي جرها عليها قادتها عادة عبر عصور طافحة بالدماء والصراعات، وطائفة أخرى مذنبة مجرمة. ولكن الطائفية ترى أن طائفتها نقية تماماً، طاهرة مقدسة، صاحبة رسالة في الثورة والعدالة، تاريخها مترع بالتضحيات والأمجاد فيما الطائفة الأخرى مذنبة ملوثة مدنسة، تاريخها مثقل بالخسة والدناءة ومآلها إلى جحيم الدنيا والآخرة!
الطائفية تبرر لطائفتها الاستعلاء والتحكم مرة بحكم وقوع السلطة بيد حفنة من أبنائها بانقلاب أو امتداد تاريخي مزمن، ومرة بحكم كونها الطائفة الأكبر، كل ذلك خلافاً للنهج السوي في تداول السلطة الذي لا ينبغي أن يقوم على اغتصاب أو أساس الأكثرية الطائفية بل الأكثرية السياسية، وضرباً للمبدأ الذي يقول أن حكم الأغلبية لا يعني غمط حق الأقلية أو إهانتها أو تهميشها، بل أن حكم الأغلبية لا يأخذ شرعيته وهيبته إلا في أن يكون للأقلية فيه هيبتها وشرعيتها، وأن يكون الجميع من الناحية الإنسانية متساويين تماماً خاصة في كرامتهم وحقوقهم الضرورية مهما اختلفوا في حظوظهم السياسية!
الطائفة ليست متجانسة موحدة مستوية بل هي تحمل الكثير من التناقض والتهتك والصراع في داخلها، ففيها مراكز ومذاهب وتيارات واجتهادات ومقلدون ومريدون يرتكزون على أتباع من شرائح وفئات مختلفة وتضم بشراً متمايزين في إمكاناتهم ومصالحهم المادية والمعنوية، ويتباينون في أوضاعهم من الفقير المعدم حتى المالك الكبير وفاحش الثراء، لا يجمع بينهم سوى خيط واه من النفحة الدينية سرعان ما يتمزق لدى أبسط خلاف مادي أو سياسي، ويختلف استعدادهم للانسجام أو التوتر باختلاف خبراتهم النفسية ومعاناتهم في حقب الحروب والضغوط العامة خاصة في دولة مستبدة، محاصرة، وفي العهد الجديد نشبت معارك وصراعات دموية كثيرة داخل طائفة الشيعة بين فصائلهم وفرقهم المختلفة، وكم هو الخلاف واضح في طائفة السنة بين دعاة إرهابيين وبين دعاة للعمل السلمي، وبين من ارتبطت مصالحهم بنظام صدام حتى بعد انهياره ومن ارتبطت مصالحهم بالعهد الجديد. لذا فإن راعي ومرجع الطائفة يوحد الطائفة كل يوم بمزيد من الضخ والشحن الطائفي بالعداء للطائفة الأخرى حيث العدو الخارجي هو العصا السحرية في توحيد الطائفة وراء راعيها ومرجعها الذي يدعي أنه راعٍ روحي لا علاقة له بالسياسة بينما هو لاعبها السياسي الأول!
تتركز منظومات القطاعات الأوسع من الطائفة في المعرفة أو الثقافة أو الأخلاق بمفردات بدائية متوارثة من بداوة قبائلهم الخشنة القديمة النازحة من الصحراء إلى العراق إبان وبعد فتحه من قبل المسلمين القادمين من الجزيرة العربية، ومن تراكمات عادات وتقاليد إقاماتهم القلقة في الأرياف العراقية وهي أرضية ذهنية ونفسية مستعدة للتهيج والإثارة الطائفية (مستعدة للوئام واحترام الآخرين أيضاً، ولكن بجهد وبناءات أكبر) لذلك هي في حومة صراعها الطائفي لا تجد (الحوار) أو (الجدل) أو (المفاوضات) و(التفاهم) (تبادل التنازلات ) (التسامح ) كلمات مألوفة في تراثها على العكس تجد أن ما هو مألوف لديها والقريب من مفاهيم الشرف والرجولة والفروسية لديها كلمات من قبيل ( الغزو) و(القتل) و(السبي) ( وحرق الخيام والديار ) و(النهب والسلب) (الانتقام ) وحتى هتك عرض العدو والتمثيل بجثته! لذا فإن الانفجار الطائفي عندنا كان على مدى الحقب التاريخية دموياً مروعاً وبشعاً وإذا ما قدر لا له أن يندلع اليوم فإنه سيكون أكثر بشاعة، فهو سيكرس تكنولوجيا العصر لجهالته ولأعماله البدائية القذرة وهذا ما نرى جانباً منه في تفجير السيارات والعبوات الإلكترونية من قبل إرهاب القاعدة والذي هو ليس ضد الأمريكان بقدر ما هو يحمل حقداً طائفياً أعمى ضد الشيعة!
يتظاهر القادة والمراجع الطائفيون بأنهم في منتهى العقلانية والمفاهيم المتوازنة ونقاء السريرة وضبط النفس ولكنهم يخبئون لدى جماهيرهم أكبر شحنة من اللاعقلانية والمفاهيم المختلة وغياب الإرادة والخضوع للغرائز والنزوات وتلوث النوايا يهددون بها الطائفة الأخرى والمجتمع كله :" انظروا لولا تعقلنا لأنفلت المارد الأعظم وأجهز على كل شيء " بذلك يكسبون البراءة والوحشية في نفس الوقت ويبقون الشعب والوطن كله يصحو وينام على صندوق من الديناميت الطائفي لا يدري متى ينفجر، ويغيب اهتمام المواطن عن كل شيء إلا عن شفاه المراجع يرقبها متى تصدر أمرها بالتفجير. وحتى ذلك اليوم المخيف سيظل يتنفس من خلالها ولا يرى السماء إلا بحجم عمامتها!
يتبع