سماحة الرؤيوي الأكثر شراسة ونبـلا في احتقاره نظام الأسد!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لا أعرف جوزف سماحة، ولم يسبق لي أن التقيته، بالمعنى الذي يمكن أن نسمي اللقاء.. لقاء. ومن المفجع أن لا تعرف شخصا على هذا الغرار ؛ لكن المفجع أكثر هو أن تفقد الأمل كليا بإمكانية معرفته بعد اليوم.
مع ذلك أستطيع الزعم بأني أعرفه أكثر من كثيرين عملوا معه أو حوله! لنقل على وجه التحديد : أكثر من شخص مثل ذاك الصحفي القومجي الإسلامي ـ شبه الأصولي (!؟) الذي قدم أول أمس في "إيلاف" جردا بعلاقته التاريخية مع جوزف سماحة والصحافة اللبنانية، لا لشيء إلا ليخبرنا أربعة أشياء تتعلق بشخصه الكريم.. لا بالراحل: أولاهما أن جوزف سماحة أخذ عنه "رؤيته" في اغتيال الحريري وتبناها ؛ وأنه دعاه للعمل في "الأخبار" عندما كانت على وشك الإقلاع ؛ وأن آخر اتصال جاءه من سماحة كان بهدف إعلامه أن حقوقه (المالية ) وقد تم تحويلها له، وهي محفوظة. وما من ريب في أن الحديث يدور عن حقوق تتصل بمكافآت عن مقالات نشرت له. فليس لي علم أن جوزف سماحة عمل يوما في تصدير البطاطا البقاعية اللبنانية إلى السويد واستيراد القرنبيط السويدي إلى لبنان!
سنكتشف لاحقا، وحسب تدقيقنا في إرشيف الصحيفة منذ صدورها حتى اليوم، أن المتكلم، الذي "دعاه" سماحة ليتسلم ملفها الأوربي الشمالي واتصل به ليقبض حقوقه عما نشره ، لم ينشر مقالا واحدا فيها، لا عن الشمال الأوربي ولا عن جنوبه! فهل كانت "الحقوق" المذكورة حصة هذا الصحفي من تجارة ممنوعة تشارك فيها مع الراحل دون أن نعلم!؟
الأمر الرابع الذي أراد الصحفي كشفه لنا هو على درجة من الابتذال الذي يقارب حد إهانة الراحل والتنكيل بجثته قبل أن يوارى الثرى ؛ فجوزف سماحة " وصل إلى قناعة (من خلال افتتاحياته في " الأخبار" ) " بـ " أن الأمركة خطر على العالم العربي والإسلامي، وأن الأسرلة مصطلح للأمركة ويكمل بعضهما البعض "! بصيغة أخرى : كان جوزف سماحة على درجة من الغباء والسطحية بحيث أنه لم يصل إلى هذه المعرفة "العلومية" إلا في الأشهر الستة من حياته، لكأنه كان يعمل على مدى خمسة وثلاثين عاما شرطيا في الـ FBI، أو سفيرا لدولة نفطية في واشنطن!
ما من إهانة تضارع صاحب الحدث أكثر من القول إنه لم يكتشف ذلك إلا منذ ستة أو سبعة أشهر.. وهو الذي قضى عمره بحثا في الأمر وتنظيرا له وتنقيبا عن كل ما يدعم هذا التنظير.. في السياسة والاقتصاد والثقافة.. وحتى في المباريات الرياضية والمطبخ الأميركي وتفاصيل الحياة اليومية الصغيرة ؛ ناهيك عن أن ابتذالا من هذا النوع له معنى واحد هو أن كاتبه لا يعرف شيئا عن جوزف سماحة (هذا إذا كان عرفه وجها لوجه ولو كعابر سبيل في شارع في أيما يوم من حياته!). بل لعله يعتقد أنه قضى 40 عاما من عمره، وهي عمر حياته النضالية والمهنية، في التبشير بمشروع الشرق الأوسط الجديد.. وها هو يتوب عنه في الدقائق الأخيرة من حياته!
هكذا تعلمنا، هنا، في عالمنا العربي، أن نصنع من النوائب وجثث الأصدقاء النادرين، أو حتى الذين لا نعرفهم وندعي معرفتهم بعد موتهم، سلالم أو مطايا للنوازع الأنوية الخبيثة، وليس للتعلم منهم!
من يتذكر اليوم خطبة أنجلز في وداع رفيق عمره ونضاله كارل ماركس على قبره!؟ لم يكن فيها كلمة واحدة تشي بأن هذين الشخصين عاشا معا لحظة حميمة واحدة كصديقين ورفيقي نضال، رغم أن ما كان بينهما، كإنسانين أولا وأخيرا، جعل منهما حكاية وفاء تقارب عالم اليوتوبيا وحكايا الجدات. كانت محاضرة عن الاكتشافات العبقرية لرفيق عمره. ولذلك ستبقى نصا في.. عبقرية الحب الذي يصنع الحياة ويتشيّع لها.. لا للجنازات!
***
يوم رحل سمير قصير وجبران التويني بكيت حتى الغيبوبة، ولا زلت أبكيهما كلما انفردت عيناي بصورتيهما في زاوية خاصة من زوايا البيت وزوايا كثيرة من القلب. ومنذ سمعت خبر رحيل جوزف سماحة لم أستطع أن أذرف دمعة واحدة على رحيله. أدركت أن العقل والقلب قلما يجتمعان.. في الحب! وإذا ما اجتمعا يحدث ضباب في الرؤيا والرؤية! أحببت سمير وجبران بقلبي، وأحببت جوزف بعقلي. لن يلومني جوزف، بالتأكيد. فأنا لا أعرفه عن قرب، ولم أتبادل معه الرسائل كما فعلت مع جبران (أو سمير أحيانا)، ولم أره في حياتي وجها لوجه إلا مرتين في العام 1982.. وفي المرتين كلتيهما بمحض المصادفة، ودون أي كلام طبعا. مرة حين كنت أوصل أمانة لسعد الله ونوس في "السفير" من أحد أصدقائه الفلسطينيين، والمرة الثانية في " المكتبة العربية " الواقعة قبالة جامعة بيروت العربية!
مع ذلك، أستطيع ادعاء معرفته عن بعد أكثر من كثيرين عرفوه عن قرب. كان سببا من الأسباب التي جعلتني " أغامر" بمعرفة التروتسكية بنفسي ، يوم كانت التروتسكية تهمة تقارب اقتراف الخيانة الوطنية والعمالة للعدو، لا عن طريق خالد بكداش الذي لم تختلف رؤيته لها عن رؤية علي دوبا أو مصطفى التاجر: " إن الصهيونية لن تغفر للاتحاد السوفييتي قضاء على التروتسكية ؛ إن التروتسكية هي الصهيونية بعينها "، كما ردد الثلاثة، واحد في سينما الزهراء بدمشق ذات يوم من صيف العام 1988، والآخران خلال تحقيقهما معي... بالكابلات الفولاذية الرباعية على خلفية وشاية من رابعهم الذي يقود الآن معركة دونكيشوتية لتوحيد الشيوعيين الخارجين من أكمام حافظ الأسد وجيوبه!
حين دشن جوزف سماحة ترجماته عن اللغة الفرنسية بـ " دراسات في الفاشية "، وهي من روائع عبقرية تروتسكي الخالدة، كان يعرف تماما ماذا يفعل، وكان يعرف أي دواء نحتاجه وأي نوع من الأمراض يفتك بأجسادنا ويفري عقولنا. وحين دشن كتبه بـ " الحل العربي للمسألة اليهودية "، كان يعرف أنه " سلام عابر" حقا، وأن لا سلام بين الفاشيات " اليهودية " و "الإسلامية " و " المسيحية " التي لا تستطيع الاستمرار إلا بالإقتيات على جثث الآخرين، كما هو ديدن الدين ودأبه دوما. فالديمقراطية الحقيقية، والعلمانية التامة.. غير المنقوصة، وحدهما تصنعان السلام المقيم!
يوم لم تكن هناك فضائيات ولا إنترنت، وكانت سوريا كلها عبارة عن مغارة كبرى لا أحد في العالم يعرف ما يجري خلف بابها المجنزر بالحديد، كانت " اليوم السابع " ومقالات جوزف سماحة تصور بالفوتوكوبي وتهرب إلى البلد كما يهرب الأفيون والكوكايين، فنستنشقها وندخل في عالم.. الوعي واكتشاف ما يدور في بلادنا!
منذ أول مقال قرأته لجوزف سماحة لمست شيئا مختلفا لديه عما لدى كل الماركسيين العرب في هاتيك الأيام. كنت أحسه، ولكن لا أعيه ؛ شيئا قريبا مما نصفه بالسهل الممتنع. كانت الصحافة اليسارية معلقات في وصف الأنظمة وشتمها، وإذا ما حذفت اسم كاتبها أو اسم المطبوعة، يخيل لك أنها نسخ مكرورة عن بعضها البعض. وبعد أن تنتهي من قراءتها لا يعلق في رأسك كلمة واحدة مما قرأته. وهذا من حسن الحظ إذا كان لديك حظ في أن تتطور! مع سماحة أصبح لليسار العربي، ولأول مرة، إعلام يستحق أن يدعى بهذا الاسم. فمقالاته تفيض بالمعرفة والمعلومات والتحليل والرؤيا والرؤية! وسأتساءل بعد ذلك بسنوات، حين عملت في إعلام " الجبهة الديمقراطية " : لماذا تختلف " الحرية " عن بقية مطبوعات اليسار كله في مقالاتها وتقاريرها الباردة حتى عن أكثر القضايا سخونة وحرارة ؟ ولماذا تحولت خلال الثمانينيات في سوريا إلى مصدر رئيس من مصادر الثقافة السياسية لفصائل يسارية كاملة!؟ وسأعلم أن جوزف سماحة هو من أسس " مدرستها " الصحفية أوائل السبعينيات يوم كانت مجلة " شبه مشتركة " بين الشقيقتين التوأمين الخارجتين من رحم حركة القوميين العرب : الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومنظمة العمل الشيوعي اللبناني قبل أن تستقل هذه الأخيرة بمجلتها الخاصة " بيروت المساء".
لم أستطع تقبل مقالات سماحة في البداية، لا شكلا ولا مضمونا. كنت شابا صغيرا يفيض بمشاعر التمرد على كل شيء، ويخيل له أن من يكتب ويحلل بهذه الطريقة هم الجبناء والانتهازيون الذي لا يستطيعون قول الحقيقة بلغتنا! وكنت بحاجة إلى أن أدرب نفسي طويلا على الاقتناع بأن القلب الحار يحتاج إلى عقل بارد، وإلا فإنه سيقتل صاحبه قبل أن يقتل الآخرين! هذا إذا اقتنعت أصلا!
وحده، على الأرجح، من بين الصحفيين العرب من يستحق أن يوصف بـ " الرؤيوي ". معظمهم أو كلهم يرون الماضي والحاضر. إذا رأوا! هو كان متخصصا برؤية المستقبل، ولم تكن رؤيته أو رؤياه لتخذله أو تخذلنا عند المنعطفات الكبرى.
بعد اجتياح بيروت في العام 1982، ويوم كان الناس يخوّضون في برك الدم والدمار والهزيمة والذل، كان الوحيد الذي " رأى " من تحت الركام أن " شارون، بطرده منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، لم يفعل أكثر من أنه مهد الأرض لمقاومة إسلامية ـ شيعية ستحول الجنوب اللبناني إلى مصنع للأيديولوجية الكربلائية ". وهذا ما كان. وبعد أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها على مائدة " الطائف "، كان الجميع على ضفتي بيروت يعلنون، بتواطؤ ضمني وتكاذب علني، أن الحرب انتهت بـ " لا غالب ولا مغلوب ". وحده جوزف سماحة الذي " رأى " غير ذلك. قال " هذه كذبة كبرى يريدون من ورائها إعادتنا إلى ما قبل 13 نيسان 1975. لبنان لن يعود إلى ما قبلها. المشروع الإسرائيلي في لبنان اندحر وإلى الأبد. هناك غالب وهناك مغلوب. وهذا ما يجب على الجميع أن يعرفه ولا ينساه ". وهذا ما حصل. وفي الساعات الأولى من 12 تموز، يوم كانت السماء تهطل رعبا والأرض تفيض براكين من الدم، وشظايا الجثث والأشلاء تنتصب أعمدة تحمل عرش الله.. الأصم والأعمى والأبكم، و " أبناء راحاب " في بيروت يستعدون لفتح أبواب المدينة أمام جنود أشعيا، كان جوزف سماحة يطل من على شاشة تلفزيونية، وهي من طلاته النادرة، ليقول : " ما بعد 12 تموز لن يكون كما كان قبله. هنا ستكون مقبرة الشرق الأوسط الجديد ". ومنذ أن وضعت الحرب أوزارها، لم يعد أحد في واشنطن ينطق بهذه الكلمة. لقد نسوها كما لو أنهم لم يسمعوا بها من قبل!
مقالته الأخيرة كانت أفقا يحجبه سرب من الغربان. لهذا قرر أن يرحل قبل أن يرى السرب وهو يحط على الأرض! ولهذا نحن خائفون من رؤياه. وكان لوكالة " سانا " الناطقة باسم نظام دمشق كل الحق في أن تنعاه وتصفه في تقرير مطول، كما لم تفعل مع أي كاتب أو صحفي آخر في تاريخها رغم معرفتهم موقفه منهم، بأنه صحفي " رؤيوي "! فلم تكن مقالته الأخيرة إلا ترجيع صدى بعيد لرؤاه التي " رآها " قبل ربع قرن من نافذة " اليوم السابع " حين وصف نظام الأسد بأنه " النظام الأكثر جدارة بالاحتقار. فهو اللص الوحيد الذي يتجرأ على سرقة قمصان الموتى، وهو اللص الوحيد الذي يسرق الأحجار الكريمة ليتاجر بها في..الـ Rue Pigalle . وكوارثنا لا تأتي إلا من هؤلاء. أما إسرائيل فنعرف كيف نتدبر أمرها "! كان النظام السوري وزبانيته يدكون يومها المخيمات على رؤوس أصحابها، ويتمون ما لم يتسع الوقت لشارون كي يقوم به قبل ذلك بأربع سنوات!
ترى،هل رأى جوزف سماحة أحجارا كريمة أخرى على وشك أن تسرق وتباع في البيغال،أو قمصانا لمصلوبين على وشك أن يجرد أصحابها منها، فقرر أن يموت!؟
(*) ـ Rue Pigalle : شارع العاهرات في باريس.