محنة وامتحان الائتلاف الشيعي الحاكم في العراق (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
انفصام في شخصية الائتلاف
منذ أن وصل الائتلاف الشيعي إلى السلطة، وقادته لا يكفون عن زيارة المرجع الشيعي السيد علي السيستاني، لاستشارته في كل صغيرة وكبيرة. وهولاء القادة (رؤوساء حكومات ووزراء ورؤوساء كتل برلمانية) لا يزورون المرجع بصفتهم الشخصية، وإنما كمسؤولين حكوميين. إن هذه الزيارات تنطوي على مفارقات كثيرة. فالمعروف أن الحلقة الأولىالمرجع السيستاني رجل دين، أولا، وهو، ثانيا، مرجع لأتباع مذهب محدد هو، المذهب الشيعي، بينما قادة الدولة "الشيعة" الذين يزورونه، بصفتهم الرسمية، هم موظفون عموميون في دولة يفترض بها أن تكون ممثلة لجميع العراقيين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومواقفهم الفكرية وعقائدهم السياسية، ويتقاضون مرتباتهم من خزينة الدولة، وليس من المرجعية.
المفارقة الثانية في هذه الزيارات تكمن في وجود مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، تعتمد عليها الدولة العراقية (أو هكذا يفترض) في تمشية أمورها، وبالتالي يعتمد عليها هولاء المسؤولون الحكوميون في حل المصاعب والقضايا التي تواجههم. وإلا، فما نفع هذه المؤسسات، إذا كان هولاء المسؤولون الحكوميون يستعيضون عنها بمرجعية دينية.
نسأل: هل أن هذه الزيارات تهدف لتعظيم شأن المرجع السيستاني ؟ لا نعتقد ذلك. فالمرجعية الشيعية ظلت تحتفظ بمكانتها المعروفة طوال العصور، وهي ليس بحاجة أن يزورها هذا المسؤول الحكومي أو ذاك حتى تحصل على هذه المكانة.
هل أن المرجع السيستاني هو الذي يأمر أو يطلب من هولاء المسؤولين الحكوميين بزيارته ؟ نحن نشك كثيرا في ذلك. فالمرجع السيستاني يرى إن "الدور الأساس للمراجع هو تزويد المؤمنين بالفتاوى الشرعية في مختلف شؤون الحياة الفردية والاجتماعية"، وليس التدخل في الشؤون السياسية.
ثم، إذا كان الغرض من وراء زيارات هولاء المسؤولين الحكوميين، من الائتلاف، لسماحة السيستاني هو، استمزاج أراءه، أو الاسترشاد بها، أو تطبيقها حرفيا، فهل وجدت وصايا السيستاني وفتاواه وتعاليمه، طريقها إلى التطبيق، من قبل أحزاب الائتلاف، أم يتم التعامل معها بطريقة انتقائية ؟
إن المتتبع لما صدر عن السيستاني، منذ سقوط نظام صدام ( كل ما صدر عن السيستاني، تم جمعه في كتاب صدر حديثا بعنوان "النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية"، والكتاب من إعداد السيد حامد الخفاف)، يجد أن جميع ما صدر عنه كان يهدف إلى حماية السلم الأهلي، ونبذ استخدام العنف لحل المشاكل بين مختلف الجماعات العراقية المتنازعة. وعلى امتداد السنوات الأربع الماضيات، وهي من أشد الفترات المضطربة، سياسيا وطائفيا وأمنيا، في تاريخ العراق، حرص السيستاني على تحقيق ثلاثة أمور، أولها أن تظل المرجعية في منأى عن الصراعات السياسية. والأمر الآخر هو بناء دولة المؤسسات والقانون. والأمر الثالث هو، تبني سياسة اللاعنف، كأسلوب لحل المعضلات، ولبناء مجتمع متحضر، يدير ظهره لقانون شريعة الغاب.
فمنذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط النظام الصدامي، وظهور بوادر للانتقام العشوائي ضد البعثيين ورجالات الحكم السابق، أفتى السيستاني بعدم جواز القصاص العشوائي ضدهم، حتى" لو تأكد الدور المباشر لأحد هولاء في قتل الأبرياء". وظل السيستاني يؤكد على أن "أفضل السبل المتبعة التي ممكن اتخاذها لمقاضاة المطلوبين للشعب"، هو "إيكال ذلك إلى المحاكم العراقية المختصة"
وفي ما يتعلق بمسألة "العلاقة بين الدين والدولة" و"دور الدين في نظام التعليم وفي النظام القضائي"، والموقف إزاء "الحكم الإسلامي"، وموقع الدين في الدستور الدائم"، فأن السيستاني لم يفت بإقامة دولة دينية، وترك حل هذه المسائل لإرادة الشعب، رافضا تشكيل حكومة دينية على أساس ولاية الفقيه. وكرجل دين، أولا وأخيرا، فأن السيستاني طالب ب"نظام يحترم الثوابت الدينية للعراقيين"، لكنه طالب أن يعتمد هذا النظام على "مبدأ التعددية والعدالة والمساواة".
وفي ما يخص رأيه بالاعتداءات التي تقع على العراقيين السنة ومساجدهم، فأن السيستاني حرم "اقتحام مساجد أهل السنة وطرد أئمة الجماعة منها"، وأعتبر السيستاني إن "هذا العمل مرفوض تماما ولا بد من رفع التجاوز وتوفير الحماية لإمام الجماعة وإعادته إلى جامعه معززا مكرما". ( من المؤسف حقا، والمؤلم حقا، أن يضع الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق، الدكتور الشيخ حارث الضاري، في مقابلة أخيرة له مع صحيفة السفير، مسؤولية ما حدث من انتهاكات للعراقيين السنة، عقب تفجيرات سامراء، على عاتق المرجع الأعلى السيد علي السيستاني. إنه اتهام موجع، مثلما كان موجعا، وصف الشيخ حارث الضاري، في مرة سابقة، لتنظيم القاعدة بأنه تنظيم مجاهد، والشيخ الضاري يعرف، يعرف جيدا أن هذا التنظيم أباح، قولا وفعلا، دماء مواطنيه العراقيين الشيعة).
وعن "حقوق المرأة ومشاركتها في العملية السياسية وتسلمها للمناصب المختلفة"، لم يؤكد السيستاني على حقوق المرأة، فحسب، وإنما عبر عن أمله "أن يكون للمرأة العراقية دور كبير في تطوير العراق ورقيه ورفعته". وعن المضايقات التي يتعرض لها العراقيون المسيحيون، وبالتالي جميع أبناء الأقليات الدينية، فأن السيستاني أعتبر تلك المضايقات "أعمال إجرامية تستهدف وحدة العراق واستقراره واستقلاله". وعن "ظاهرة انتشار صور السيستاني على جدران الدوائر الرسمية"، فأن سماحته قال أنه "لا يرضى بذلك أبدا" وطالب ب"الكف عند مثل هذه الممارسات". وعن مواقفه إزاء الفساد الإداري والمحسوبية وهدر المال العام، فأن السيستاني حرم هذه الممارسات تحريما قاطعا.
الآن، لو قارنا بين تعاليم السيستاني التي ذكرناها توا، وبين ما جرى ويجري على أرض الواقع، في المناطق التي تسيطر عليها الأحزاب السياسية الشيعية، لوجدنا بونا شاسعا، حتى لا نقول خرقا فاضحا لتعاليم المرجع.
فعمليات قتل البعثيين السابقين ما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، دون أن تجد لها شجبا واضحا وقاطعا من قبل أحزاب الائتلاف الحاكم، ودائما ما تقيد تلك العمليات ضد مجهول. ونحن عندما نضع هذه المسألة في المرتبة الأولى من الأهمية ونلح عليها، فلأن هذه القضية ذات أبعاد سياسية وقانونية وحضارية وإنسانية. إن دولة القانون والمؤسسات تقام، قولا وفعلا، ليس عندما يجد فيها البريء الأمان، ولكن عندما يتأكد فيها المتهم، ومهما كانت تهمته، أن حياته وحريته في حرز مصون، إلى حين يقول القانون، والقانون وحده، كلمته الأخيرة، فيأخذ، آنذاك، كل ذي حق حقه.
إما عمليات الرشا والفساد المالي والإداري، ونهب المال العام والمحسوبية، فأنها حطمت أرقاما قياسية، في العراق "الجديد"، بما في ذلك جميع المناطق التي تسيطر عليها أحزاب الائتلاف، بل أن هذه المناطق تأتي في المرتبة الأولى.
وفي ما يخص الأقليات الدينية، فأن المضايقات ضدها لم تتوقف، مرة بحجة ممارسة بيع الخمور، وأخرى بذريعة "عدم احترام المرأة" من هذه الأقليات، للتقاليد الإسلامية، وعدم التزامها بالزي الإسلامي، ومرة ثالثة لأن العراق بلد إسلامي، يجب أن لا يكون فيه مكانا لغير المسلمين.
وإما المساجد التابعة للعراقيين السنة والتي تمت مصادرتها، فأن الكثير منها لم يعاد لأصحابها. ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد. فقد نجح تنظيم القاعدة ومناصريه، بعد تفجيرات سامراء، أن يورط بعض أطراف الائتلاف الشيعي في ألحاق ظلم فادح بالعراقيين السنة، وأصبحت أيدي العراقيين الشيعة، ربما لأول مرة في تاريخهم، ملطخة بأيدي الأبرياء، وتحولوا، بين عشية وضحاها، من مظلومين وشهداء، إلى ظالمين وطغاة. ونحن، هنا، لا نعني بتعبير "الأبرياء"، عناصر تنظيم القاعدة، فعناصر هذا التنظيم ليسوا أكثر من وحوش مفترسة على هيئة بشر، ونحن لا نعني المليشيات والأحزاب السياسية السنية، فهذه الأحزاب تملك قدرة سياسية وعسكرية لمناطحة من يتصدى إليها، تماما مثلما هو الأمر عند الجماعات الشيعية. إننا نقصد الآلاف من الأبرياء من العراقيين السنة الذين هجروا من ديارهم وفقد بعضهم أحبتهم، بسبب جرائم لم يرتكبوها، ونتيجة لصراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، تماما مثل أشقائهم من العراقيين الشيعة الذين فقدوا أرواحهم، ليس لأي سبب سوى أنهم شيعة.
قد يقال هنا أن عمليات التهجير لم تتم إلا بعد أن "نفد" صبر العراقيين الشيعة، إثر تفجيرات سامراء. وهذا تبرير غير مقبول. فالجميع يعرف أن الاعتداء على المراقد الشيعية في سامراء نفذه تنظيم القاعدة والمتحالفون معه لإثارة حرب أهلية. وهذا وزر يتحمله هذا التنظيم وحده، وليس من الأنصاف تحميل العراقيين السنة وزر القاعدة.
وإذا تحدثنا عن أوضاع النساء في المناطق التي تسيطر عليها أحزاب الائتلاف، فأن الموضوع يطول ويطول. ويكفي أن نقول أن المرأة العراقية أجبرت على ارتداء زي "إسلامي"، لا يعرف العراقيون من أي مكان تم استيراده، وأي عقل غريب أبتدعه، فهو زي لم تعرفه العراقيات، منذ أيام "البوشي" الذي كانت جداتنا يضعنه في بداية القرن الماضي، وكان ذلك لأسباب اجتماعية، على أي حال. وهو زي لم تعرفه حتى المرأة الإيرانية في ظل جمهورية إيران الإسلامية التي تعتبرها بعض أحزاب الائتلاف قدوة لها. ففي الوقت الذي تظهر فيه وسائل الإعلام المرئية، الشابات الإيرانيات وهن يتزحلقن على الجليد، ويمارسن جميع الهوايات، وبكامل زينتهن، وبغطاء يكاد لا يغطي نصف الرأس، فأن "شقيقاتهن في المذهب" من العراقيات، يشهر بهن، وتتم معاقبتهن، لمجرد مشاركتهن، مثلا، في سفرة جامعية بريئة.
وفيما يخص الشباب، فأن الأمر وصل ببعض زعماء الائتلاف، إلى حد أن لعبة كرة القدم أصبحت، عندهم، من الأمور المحرمة، أو على الأقل من الهوايات التي يتوجب عدم ممارستها، ناهيك عن التدخل في شؤون الجامعات والمعاهد التدريسية، وجلافة الأساليب المتبعة في "تثقيف" الشباب، والاعتداء المعنوي والجسدي عليهم، بسبب ممارساتهم، وهي ممارسات بريئة، في كل الأحوال، كارتداء "الجينز" أو ارتياد مقاهي الانترنيت وسماع الموسيقى، أو إقامة احتفالات جامعية تتم دون رعاية كوادر الأحزاب السياسية الشيعية.
هذه الممارسات التعسفية كلها تتم بذريعة واحدة هي، المحافظة على القيم الأخلاقية الإسلامية. ولكن هذه الذريعة، هي ذريعة غوغائية ودوغماتية، تخفي وراءها هدفا أبعد هو، كسر شوكة الناس، وخصوصا الشباب، وسلب استقلالياتهم، وكبح روح التمرد عندهم، وتحويلهم إلى مجرد "أدوات" بيد الأحزاب والجماعات الدينية السياسية المسيطرة، حتى تضمن هذه الأحزاب عدم "انحراف" الشباب، أي التفكير بطريقة حرة ومستقلة. إنها نفس النظرة التوليتارية الشمولية التي تتعامل مع الشباب على طريقة "خذوهم صغارا"، وجففوا عنهم ينابيع المعرفة الحرة قبل أن "يأخذهم" غيركم، فيقوم ب"إفساد" عقولهم. وهذا ليس افتراضا من عندنا، إنما هو كلام لقادة في بعض التنظيمات السياسية الشيعية، وهو كلام موثق، بإمكان أي أحد أن يراجعه على شبكة الانترنيت.
مواطنو العراقأم "أتباع أهل البيت" ؟
هذا، فيما يخص القضايا الاجتماعية، والتعامل مع مفردات الحياة اليومية. إما إذا تحدثنا عن القضايا المتعلقة بمسألة "الهوية"، فأننا نجد تباينا حادا بين مواقف السيستاني، وتلك التي تمارسها الأحزاب الشيعية. وهذا التباين يتجسد، أول ما يتجسد، في المنظار الذي ينظر عبره المرجع السيستاني، وذاك الذي تنظر عبره الأحزاب السياسية العراقية الشيعية. فالسيستاني، رغم أنه رجل دين، وليس رجل سياسة، وهو رجل دين مسلم، وهو مرجع شيعي، إلا أنه ينطلق في وصاياه وتعاليمه وإرشاداته من منطلق عراقي وطني NATIONAL ، بينما ظلت الأحزاب العراقية السياسية الشيعية تنظر للأمور، ليس من منظار عراقي شامل، ولا من منظار شيعي طائفي، يتسع لكل العراقيين الشيعة، أي لكل عراقي ولد في عائلة شيعية، وإنما من منظار شيعي مذهبي ضيق، بل من منظار حزبي ضيق لا يتسع إلا للأنصار والمؤيدين. (دوننا ما نشاهده يوميا من معارك دموية بين الأحزاب العراقية السياسية الشيعية- الشيعية).
لقد تصرفت الأحزاب السياسية الشيعية، وما تزال تتصرف حتى هذه اللحظة، وكأنها ما تزال في عراق ما قبل 9 نيسان 2003 ، وتفكر وتتصرف، وكأن العراقيين الشيعة مجموعة من "الهنود الحمر" مهددين بالانقراض، اليوم وليس غدا، أو كأنهم ملة أو نحلة SECTE، يهدد عقدهم الانفراط، إذا سهوا، لحظة واحدة، عن تطبيق التعاليم "الباطنية" التي تربط فيما بينهم.
فبينما يتجنب المرجع السيستاني، في كل أحاديثه عن الأوضاع داخل العراق، ذكر مفردة الشيعة، أو مفردة "أتباع آل البيت" ، ويضع، بدلا عن ذلك، هوية معاصرة، شاملة هي، هوية المواطنة "العراقية" كأساس ومنطلق، ويؤكد، مرارا وتكرارا، أن "رعايته الأبوية" ليس فقط "لجميع المؤمنين من مقلديه"، وإنما، أيضا، "لغيرهم بل للعراقيين كافة"، وان "الحكم في العراق يجب أن يكون للعراقيين (... ) والعراقيون هم الذين لهم الحق في اختيار نوع النظام في العراق"، فأن الأحزاب السياسية الشيعية تبدو وكأنها حذفت مفردتي "العراق" و"العراقيين" من قاموسها اللغوي، وشاع هذه الأيام تعريف مذهبي وضيق للمواطنة هو مصطلح "أتباع أهل البيت".
ونحن، هنا، لسنا بصدد الدخول في نقاشات لغوية وفقهية حول تعريف مفهوم "أهل البيت"، لكننا نرى إن استخدام هذا المصطلح، إذا كان صحيحا في ظل وجود دولة ومجتمع ثيوقراطيين، مثلما كان الحال في ظل الخلافة الإسلامية، فأنه لم يعد قائما في وجود دولة ومجتمع مدنيين حديثين، مثلما هي الحال الآن. لقد كان إقصاء الشيعة عن الحكم وتهميشهم، طوال الخلافة الإسلامية، يعتمد على معيار واحد، فقهي أو مذهبي، وبالتالي ديني. وذاك المعيار المذهبي لاضطهاد الشيعة خلق معه مثقفين شيعة، دافعوا عن الشيعة استنادا، أيضا، على معيار واحد هو، المعيار المذهبي "الشيعي" وحده، (وربما معيار العشيرة، أيضا)، بعيدا عن المعيار الوطني، أو المعيار الطبقي، أو الأيديولوجي، أو الاجتماعي، أو السياسي، أو المطلبي العام، أو المعيار الحضاري، أو المعيار الإنساني الأشمل، الذي يتجاوز الدين والمذهب والجنس والقومية والعشيرة والنسب ولون البشرة، فهذه المعايير ما كانت موجودة، أصلا، آنذاك.
ثقافة شيعية، أم ثقافة عراقية ؟
وحتى نقرب الصورة، فإننا نستشهد بمثقفين شيعة "مذهبيين"، مثل دعبل الخزاعي والكميت الأسدي والسيد الحميري، على سبيل المثال. أولاءك المثقفون كان مبرر وجودهم الإبداعي، بل مبرر كينونتهم هو، الدفاع عن "آل البيت" حصرا، وكانت ثقافتهم ذات بعد واحد هو، البعد المذهبي الشيعي. بمعنى، لو أننا جردنا أولاءك المثقفين من "شيعيتهم"، لأصبحنا أمام فراغ أبداعي وثقافي ووجودي، أيضا. أي، أنهم كانوا شيعة أولا وشيعة ثانيا وشيعة ثالثا ورابعا وخامسا. ولهذا فليس غريبا أن يطلق الإمام الصادق لقب "سيد الشعراء" على الشاعر السيد الحميري، رغم أن هذا الأخير ليس علويا ولا هاشميا. إن ما يقوله الأمام الصادق بحق السيد الحميري، هو بمثابة مكافأة ل"شيعية" الحميري، أو لموقفه النضالي "الشيعي". وعندما كانت فاطمة بنت الحسين تقول عن الكميت الأسدي "هذا شاعرنا أهل البيت"، فأنها، أيضا، تكافأ "شيعية" الأسدي، ونضاليته "الشيعية".
ذاك النوع من الشيعة المثقفين، لم يعد له وجود في ظل الدولة العراقية "الحديثة". وعندما نقول "لم يعد له وجود" فان هذا القول لا يعني، بطبيعة الحال، انقراض الشيعة واختفائهم من الوجود، ولا يعني عدم وجود مثقفين عراقيين يثنون ثناء عاطرا على أئمة الشيعة، بقدر ما يعني ظهور مفاهيم جديدة واهتمامات جديدة، وتلاقح حضاري جديد، وخارطة جغرافية للعالم جديدة، ودول جديدة، وأفكار وأيدلوجيات وثورات وفلسفات ونظريات كونية، جديدة، وبالتالي "هويات" و"اصطفافات" جديدة، لم تكن موجودة، أصلا، أيام الكميت ودعبل والحميري. أي أن الدولة العراقية "الحديثة" خلقت معها مثقفين عراقيين "شيعة"، "جدد"، بل أن هولاء وجدوا حتى قبل ظهور الدولة العراقية الحديثة.
فلو أخذنا، على سبيل المثال، الجواهري ومحمد رضا الشبيبي وباقر الشبيبي واحمد صافي النجفي ومحمد صالح بحر العلوم وعبد الأمير الحصيري، وعلي الشرقي، بل وحتى الحاج زاير الدويج وحسين قسام النجفي، فأن ما من أحد بمقدوره أن ينفي "شيعية" هولاء. فهم مولودون في عائلات شيعية ولبعضهم قصائد تمجد أئمة الشيعة. لكن هولاء المثقفين "الشيعة"، ليسوا كالشيعي الكميت، والشيعي دعبل الخزاعي والشيعي السيد الحميري. فكما قلنا توا، لو أننا جردنا الكميت ودعبل والحميري من "شيعيتهم" لوجدنا أنفسنا أمام فراغ، لكننا، بالمقابل، لو جردنا الجواهري وزملاءه عن شيعيتهم، لظلت أمامنا قضايا كثيرة أساسية، كالدفاع عن وطن محدد اسمه العراق، والدفاع عن قضايا عربية غير عراقية، والدفاع عن قضايا أجنبية ( ضد النازية، مثلا)، والدفاع عن قضايا اجتماعية (العدالة للجميع، نصرة الفقراء على أساس طبقي، سفور المرأة . . . الخ.). ومرة أخرى نكرر أن ما من احد بمقدوره أن ينزع عن الجواهري وزملاءه شعيتهم، لكن الجواهري وزملاءه ليسوا حكرا على الشيعة، دون العراقيين كلهم. إنهم ملكا لجميع العراقيين، ويتغى بإبداعاتهم كل العراقيين، الشيعة والسنة والعرب والأكراد والمسيحيون والصابئة، لسبب بسيط هو، أن المواضيع التي طرحها هولاء الشعراء ليست مواضيع مذهبية محددة، وإنما هي مواضيع عامة وشاملة. فما من احد يستطيع أن يقول إن الجواهري وزملاءه قد "تجعفروا"، مثلما كان السيد الحميري يقول " تجعفرت (نسبة إلى جعفر بن محمد) باسم الله والله أكبر". ولا أحد من زعماء الشيعة الحاليين يستطيع أن يقول عن الجواهري، أو الشبيبي أو الحصيري أو بحر العلوم، "هذا شاعرنا أهل البيت"، مثلما الحال مع الشيعي الكميت الأسدي. ( بالطبع، أن الشئ نفسه يقال لو تحدثنا عن العراقيين السنة. فالمثقف السني، على غرار (علي بن الجهم)، مثلا، اختفى، وظهر بديلا عنه، في الدولة الحديثة، الشاعر الحديث الذي تنطبق عليه نفس مواصفات الجواهري وزملاءه).
إننا تناولنا الجواهري وزملاءه المذكورين، كنماذج، ليس إلا. فمعهم وبعدهم، برز مئات، بل ألاف، العراقيين الشيعة، في جميع ميادين المعرفة العلمية والأدبية، والفنون بأنواعها، والسياسة والاقتصاد والنشاط التجاري والحياة الحزبية والنقابية، وفي الميدان الأكاديمي. ولو حذفنا ما قدمه العراقيون الشيعة، منذ تأسيس الدولة العراقية، بل وقبلها، لوجدنا أنفسنا أمام فراغ، ولن نكون أمام عراق. فالعراقيون الشيعة هم العراق، (شأنهم شأن مواطنيهم الأخريين من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات). ولكن، في كل هذا النشاط، وهذه المنجزات ما كان هناك "تصنيف" شيعي وسني، بل كان هناك تصنيف سياسي (يسار أو يمين) أو تصنيف طبقي (برجوازي أو اشتراكي) أو تصنيف فكري (محافظ أو تقدمي، قومي أو أممي).
إن علينا أن نبحث على سطح القمر، وليس داخل العراق، إذا أردنا العثور على رواية شيعية، وقصة قصيرة شيعية ومسرح شيعي، وأغنية شيعية وعلم اجتماع شيعي واقتصاد شيعي ... الخ.
إن حصر العراقيين الشيعة في هوية واحدة هي هوية " أتباع آل البيت"، ينزع عنهم اللحم والدم، ويجعلهم هيكل عظمي، أي انه يلغي الانتماءات، أو الأصطفافات الطبقية والسياسية والأيديولوجية والاجتماعية والثقافية والعشائرية والحضارية، أي إلغاء الحياة ذاتها.
دولة مدنية أم دينية ؟
حال الانفصام الأخرى في شخصية أحزاب الائتلاف تكمن في الموقف إزاء الدولة المدنية. فغالبا ما يحلو لهذه الأحزاب القول، عندما يعمد خصومها السياسيون للتشكيك في شرعيتها كجهة حاكمة، بأن أكثرية الشعب هي التي اختارتها في انتخابات ديمقراطية، وإنها باقية في الحكم بتفويض من الشعب. وهذه الأحزاب على حق تماما فيما تقول. فهي لم تصل إلى السلطة بحد السيف، أو بانقلاب عسكري، بل بفضل انتخابات ديمقراطية حقيقية، رغم ما شاب هذه الانتخابات من شوائب. ومثلما نعرف، فأن الديمقراطية، شأنها شأن، "مجلس النواب"، و"صناديق الانتخابات"، و"اللامركزية"، و"الوطن"، و"الديكتاتورية"، و"الحرية"، و"الرأي العام" و"حقوق الإنسان" و"الشرعية الدستورية" هي، من ابتكارات الفكر (المدني) الحديث، ومن مقومات الدولة (المدنية) الحديثة، وليست الدولة الدينية. فهذه الأخيرة كانت لها مفرداتها الخاصة بها، ك"الخلافة"، و"دار الإسلام"، و"الأمة الإسلامية"، و"الإمام" ، و"الأمير" و"الجماعة"، و"البيعة"، و"الشورى"، و"الرعية"، و"أهل الذمة"، و"بيت مال المسلمين".
وعندما تؤكد أحزاب الائتلاف (وهي على حق، مثلما أشرنا) بأنها وصلت إلى الحكم بفضل الديمقراطية، وأنها متمسكة بالشرعية الدستورية، فأن كلامها هذا يعني أنها متمسكة بآلية عمل الدولة المدنية، وبالتالي فأن علي هذه الأحزاب، أن لا تحترم الديمقراطية وتتحمل كل تبعاتها، فحسب، وإنما عليها أن تعمل ضمن تصور وفلسفة وآلية الدولة المدنية. فهل أن خطاب هذه الأحزاب، وتفاصيل نشاطها على أرض الواقع، خلال السنوات الأربع الماضيات، يصب في هذا الاتجاه، أم أنها تقول شيئا، وتتمنى شيئا أخرا، تنتظر تحقيقه ؟
يرى الدكتور حيدر العبادي، وهو قيادي في حزب الدعوة الإسلامية الحاكم وعضو المكتب السياسي للحزب، إن : " حزب الدعوة الإسلامية قام على أساس تحكيم شريعة الله في الأرض ابتداء في العراق وهذا التراث الفكري لم يتنازل عنه الحزب ولا زلنا نسعى لتحكيم شرع الله على الأرض". ( في مقابلة معه أجراها موقع "الملف" الإليكتروني). وبعيدا عن التوقف عند التفاصيل التي قد تختلف حولها أحزاب الائتلاف الشيعي، فأن ما يراه حزب الدعوة، في "تحكيم شرع الله على الأرض"، يبدو أن الأحزاب والمكونات الأخرى في الائتلاف، تؤيده. وبالطبع، فأن من حق هذه الأحزاب أن تعتنق ما تراه صائبا، في رأيها، مثلما هو حق أن تتبنى أحزاب أخرى ما تراه صائبا من نظريات. ولكن السؤال هو، كيف توفق أحزاب الائتلاف، وها هي تقود السلطة السياسية، بين الدولة، أو الحكومة الإسلامية، وبين أسس وفلسفة الدولة المدنية التي وصلت هذه الأحزاب بفضل آلياتها، إلى السلطة.
نعم، الائتلاف الشيعي وصل إلى السلطة بفضل معايير وأسس الفكر المدني، وبفضل آليات الدولة المدنية الحديثة. وإلا، فهل كان بإمكان الائتلاف الشيعي أن يفوز، بصفته الشيعية، في انتخابات تجري في ظل خلافة إسلامية ؟ وهل بالإمكان، أصلا، أن تجري انتخابات في ظل حكم الخلافة ؟ ثم، إلى متى تظل أحزاب الائتلاف تمارس دورين، وخطابين مختلفين، أحدهما رسمي يمجد الديمقراطية ويشيد بإنجازات الدولة المدنية، وأخر "نضالي" يدعو إلى ما يناقض الأول ؟ أليس هذا تناقضا، وانفصاما في الشخصية السياسية والفلسفية لأحزاب الائتلاف ؟
إن أحزاب الائتلاف الشيعي الحاكم تتعامل مع الدولة المدنية وابنتها "الديمقراطية"، على طريقة (قرندل) في المثل الشعبي العراقي: "قرندل حضر مستلزمات الكبة، قرندل ضع قدر الكبة على النار، قرندل، أبدأ بطبخ الكبة، قرندل نضجت الكبة، قرندل روح نام".