كتَّاب إيلاف

رحلة إلى الجنة المؤنفلة (2)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مضى عام كامل، على رحلتي الكردستانية، الأولى. وأستعيد بعض وقائعها، على وقع الذكرى العشرين للقصف الكيماوي لمنطقة "باليسان"؛ المستهلة به حملة الأنفال، المشؤومة. في الحلقة السابقة، وصلتُ في سردي إلى ما كان من زيارتنا لمصيف "شقلاوة"، الرائع. كان في خطط ذلك اليوم الجميل، الربيعيّ، أن نسترسل في جولتنا حتى شلالات " كَلي علي بك "، الواقعة على مسافة نصف ساعة بالسيارة من بلدة " شقلاوة ". ولكنّ مهاتفة، عبرَ الخليوي، من مسؤول كبير، جعلت رحلتنا تأخذ مساراً آخر. إذ أخبرنا المضيفُ، الفنان سعيد غاباري، أنّ عليه التوجه إلى ضاحية قريبة من البلدة، لتقديم بعض الأغاني، الوطنية، بمناسبة ذكرى قصف المنطقة بالسلاح الكيماوي، في نيسان 1987.

الجزء الاول

وبما أنّ الطريق إلى ذلك الملعب، لا بد أن يمرّ من داخل "شقلاوة"، فكان هذا فرصة لا تفوّت، بالنسبة لي على الأقل، لكي أتملى مناظرها. مرت مركبتنا بغيضة حور، كثيفة، فرحتُ أتأملها من خلال البللور، وقد بدا تمثال " كاويس آغا " ـ المغني الشعبي، الأكثر شهرة ـ كما لو أنه حارسها، الخالد؛ هوَ المنتصب بأبهة قامته، المرمرية، في دوار بمنتصف الطريق الرئيس. ثم ما عتمَ المشهدُ، الساحر، لبلدة " شقلاوة " أن راحَ يتوالى أمام عينيّ صورة بإثر أختها: جدول رقراق، ينحدر مستقيماً، ناصعاً، من أعلى السفح ـ كخنجر كرديّ، مفضض؛ أجمة من كروم العنب والرمان والتين، مُسَورة بألفة صديقةٍ لأشجار اللوز والكرز؛ شجيرات قرطاسية، ضاجة بألوانها البيضاء والليلكية والزهرية، يُنبي وجودها بمعجزة المكان؛ وبيوتٌ متشامخة بحسن عمرانها وساكنيها، على السواء؛ بفتنة فتياتها خصوصاً، وهنّ على آخر موضة في الملبس والتبرج، ما دامت الواحدة منهن، على كل حال، لا تعرف حجاباً!

وجدتنا بإزاء ملعب كبير، حديث، وقد أحدق بمداخله حرسٌ مسلحون. كانت كثافة الوجود المسلح ذاكَ، تشي بحضور مرتقب لمسؤولين بارزين من حكومة الإقليم. بيْدَ أنّ هروع الكثير من الحرس لإستقبالنا والإحتفاء بنا، أوحى لي، إعتباطاً، بكوننا الضيوف البارزين، المنتظرين! للحق، فإنّ شعبية مطربنا، الغاباري، كانت كبيرة في كل مكان حللنا فيه؛ وهوَ الذي كان آنذاك صاحب البرنامج الغنائيّ، الفلكلوريّ، المتميّز في فضائية " كردستان ". نلجُ إلى داخل الملعب، فيتناهضُ بعضٌ من حضور الصف الثاني لإخلاء أمكنتهم لنا. رأيتني بجانب شخص متوسط العمر، جرمه الضخم ملفوفٌ بلباس تقليديّ لمنطقة "شقلاوة"؛ اللباس الفائق الأناقة، فعلاً، وخاصة غطاء الرأس، المتشابكة في نسيجه الخيوط السود والخضر والزرق. النسوة والصبايا من حولنا، كن بملابسهن القومية، الزاهية، الأكثر روعة، بلا ريب: ها هنا أفراد عشيرة "خوشناو"، العريقة، المشهورون بالوسامة إناثاً وذكوراً، كما سبق ولاحظ ذلك عديدٌ من رحالة الغرب، في القرون الخوالي. إنهم أصحاب هذه الجنة الأرضية، المنذورة اليوم لنهضة شاملة، بعد كل ما عانته من ويلات الأنفال والقصف الكيماويّ، البعثيّ. جاري هذا، أخذ يحدّق فيّ بعينيْ نسر، عميقتيْ الخضرة، ثم ما لبث ان إبتدهني مستفهماً عن طبيعة عملي وسبب وجودي في الإقليم. بدوره، قدّم الرجل لي نفسه، بإسم "محمد بور"، قائلاً بكثير من الزهو: "كنتُ بيشمرغة منذ عام 1964. من أيام ملا بارزاني، وحتى زمن قريب". أعلمني أيضاً، أنه جرح ثلاث مرات في مراحل الثورة، المختلفة، وأنه نزح خلالها كذلك إلى إيران وتركية. إنه من قرية " ملكان "، التابعة لمنطقة " باليسان "، والتي كانت أولى ضحايا القصف الكيماوي، قبل عقدين من الزمن. لقد إستشهد هنا وقتذاك ـ كما ذكرَ لي محاربنا، القديم ـ 122 شخصاً من الأهالي، بينهم أقارب له. وعقب على معلوماته قائلاً، أنّ بعثة من التلفزيون الفرنسيّ، زارت المنطقة ذات مرة، لإجراء تحقيق حول كارثة القصف الكيماوي، وأنه شخصياً أدلى بشهادته أمام عدساتها.

ما كان عبثا، أن تتوجه قنابل الحقد، البعثيّ، إلى "باليسان"، بشكل خاص. فهذه المنطقة الجبلية، المنيعة العصية، كانت بحق بؤرة الثورات الكردية، جميعاً: فمن خلف تلك الآكام، المشكلة سفوح بلدة "شقلاوة"، كانت السلاسل العملاقة لجبال "هندرين"، "كاروخ"، "آراس"، و "برواشي"، ظاهرة للعيان بكل هيبتها وجلالها وأنفتها؛ وهيَ نفسها الشاهدُ، الخالدُ، على قصة كفاح سكان الإقليم، والتي أضحت بالأسطورة أشبه. تبدو تلك السلسلة بقممها المحلقة، المغمورة بالثلج، كلوحة بيضاء منقطة بألوان الخمريّ والبنيّ والأخضر؛ ألوان الصخور والقرى والغابات. وكما يتبجّس الماءُ من هذه التربة، الكريمة، كذلك الأمر في حياة الأهلين، التي عادتْ أكثر إزدهاراً ودعة ووفرة، إثر جلاء عهد الديكتاتورية الدموية، المقيت. ثمة، في السفوح المغمورة بوهج شمس الربيع، الدافئة، أكمَحَ الكرمُ تلوَ الكرم؛ من الأعناب المشهورة بجودتها، إلى الخوخ والأجاص والتفاح والجوز. إنها تجارة أهل المنطقة، علاوة على ذلك. فضلاً عن وجود المنتجعات والمصايف، الذاخرة بالمطاعم والمقاصف والمقاهي. بعيدَ تقديمه بعض الأغاني، أرسلَ المضيفُ، الغاباري، من يعلمنا بضرورة التوجه إلى حيث المركبة بإنتظارنا. إنطلقنا على الفور، بإتجاه الطريق المودية إلى " كَلي علي بك ". كان السائق إيزيدياً من أهل الإقليم؛ مرحاً وعارفاً جيداً بجغرافية المنطقة. إنها منطقة بغاية الوعورة، تكثر فيها الأنهار وتفرعاتها، مما يزيد أيضاً من عدد الجسور، المنصوبة فوق مجاريها، الثرة. ما عاد من ضرورة للإلحاف على السائق بالأسئلة؛ هوَ الكريم الخلق، الواسع الصدر، والمبادر في كل فينة واخرى لشرح طبيعة ما يحيطنا من أشياء ومعالم. على الأثر، بدأنا رحلة إنحدار، شديدة، فما أسرع أن خلفنا القمم المخيفة خلفنا؛ أين بدتْ السيارات كنقاط سود على الدرب الجبلية: " من هناك، قدمنا للتو! "، أشارَ سائقنا إلى تلك الناحية، الشاهقة.

"باليسان"؛ هذا ما قرأته على لوحة صغيرة، منصوبة على سارية حديدية، مركونة على جانب الطريق العمومية. أرسلتُ طرفي بعيداً، إلى حيث أشارَ دليلنا. كان ثمة رابية خضراء، تتسلقها منازل طينية، متبدية كرؤوس آدمية. فيما الصخور، الناصعة، مهينمة على الناحية ـ كخراف بيض. من هنا، تستهلّ سلالة عشيرة " السورجي "، الكبيرة، القاطنة في قرى هذه الجبال الشاهقة، المطلة على دربنا الأسفلتية، كما لو أنها أسواره، الصماء. ولكن، ماذا تفعل تلك البقرة، المسكينة، على الدرب الخطرة: " ربما تمضي بحثا عن عجلها، الضائع؟ "، يجيبني الإيزيديّ، المرح، وقد شابتْ لهجته رنة حزن ـ كأيّ ريفيّ متآلف مع مخلوقات الله تلك، الضعيفة. مجدداً، تنبسط الطريق. وما عتمت مركبتنا أن تهادت رخية، مطمئنة، في إختراقها لقصبة مأهولة، مزدهرة. هيَ ذي بلدة " حرير "، المسكونة من لدن غالبية من النصارى؛ والذين لا يختلفون عن مواطنيهم المسلمين، أو الإيزديين، من ناحية اللغة والملبس والعادات. على جانبيْ الدرب، ثمة أبنية حديثة ( أكثرها فيلات )، قيدَ الإنشاء، ومحلات أنيقة، تحمل بمعظمها أسماء مسيحية. تمضي مركبتنا قدماً، إلى حيث المستديرة الصغيرة، المنتصب في منتصفها تمثال مرمريّ، مستدق ورهيف، للسيدة مريم العذراء. تمثال آخر، نصفيّ، من المادة الرخامية ذاتها، يطالعنا هناك في آخر البلدة، ويجسّد رأسَ إبنها البار؛ الشهيد فرنسوا حريري، السياسيّ الكردستانيّ، المرموق، ومن أغتيل بأيدي متطرفين أصوليين من جماعة " أنصار الإسلام "، الإرهابية. نتجاوزُ البلدة ولا نلبث أن نواجه، مرة اخرى، الوعورة الخطرة للدرب الجبلية. الجوّ متقلب بإستمرار، كما هيَ حال الطبيعة الكردستانية، المتنوعة. تغيب الشمسُ، عندئذٍ، وتكفهر السماء؛ وكأنما لتزداد وحشتنا في هذه المنعطفات الكثيرة الإلتواءات والإنكسارات، المحدقة بالوديان السحيقة، المرعبة. ثمة قرية منعزلة، ذات منازل طينية، مالوفة، مندسة ضمن تجويف صخريّ، شاهق. إنها " كَولك "، كما تنبينا لوحة مثبتة على طرف الطريق: لن يضيعَ أثركِ، أيتها القرية المؤنفلة، ما فتئتْ الجبال الصديقة شاهداً على الجريمة؛ وما بقيتْ شواهدُ الدروب ـ من لوحات وأسهم ـ دليلاً لنا، نحن العابرين لكِ وشقيقاتكِ، في جبال الأزل، هذه!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف