كردستان: العمل بهدوء...العمل بصخب مدمر(2ـ2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مياه كثيرة جرت تحت الجسر الكردي منذ القسم الأول من مقالنا هذا( كردستان: بناء في المركز وقتل في الأطراف) الذي نشرته "إيلاف" الغراء منذ ثلاثة أسابيع. عمليتين إرهابيتين طالت احداها عاصمة الأقليم أربيل، والأخرى بلدة مخمور، اسفرتا عن مقتل وجرح العشرات من المدنيين الأبرياء. الإرهاب إذن توجه لكردستان بقوة، والحديث عن "التمايز" عن العراق الغارق في الفوضى والدم الطافح لن يحمل منذ الآن الكثير من المصداقية. هذه المرة من يقود "الجهاد" في كردستان هم "مجاهدون" كرد من أبناء المنطقة. ليسوا بأفغان أو من عرب السعودية أو اليمن، بل هم كرد وينتمون إلى (تنظيم القاعدة في كردستان) كما أعلنوا صراحة.
كردستان اصبحت تحت مرمى نيران الإرهابيين، وهؤلاء هم من أبناءها، وهم يعرفون المنطقة جيداً، ويعرفون خفايا الدار ونقاط الضعف والقوة فيها. إنهم بإختصار نتائج المرحلة الماضية بكل تراكماتها، ونتاج النظام التعليمي ومنظومة القيم والعادات والتقاليد التي ترسخت في المجتمع الكردي كحقيقة مطلقة ومقدس لاينبغي تدنيسه. حقيقة تكتم الجميع عليها، حتى جاء الوقت "فتأطرت" بقوانين بعد بناء الإدارة، لترويضها وتشذيبها، كي لاتخرج من تحت السيطرة ذات يوم.
والحال، ان كردستان تعاني الآن من آفة خطيرة هي آفة الإرهاب. وهذا الإرهاب لايقتصرعلى الإرهاب الخارجي الموجه الذي "يستهدف تجربتنا الناهضة"، كما بذهب البعض، لكنه إرهاب محلي صرف، كانت المؤسسة التربوية الكردستانبة هي احد الشركاء الرئيسيين في صنعه، حيث أن هذه "المؤسسة" هي من اهملت وضع مناهج تربوية صحيحة لبناء الإنسان السوي، الذي هو عماد التطور والرقي في الأقليم. لقد فشلت المؤسسة التربوية الكردستانية في تأسيس نظام علماني وليبرالي قادر على صنع الأجيال المنفتحة القابلة لتقبل الآخر المغاير. والأقليم كما لايخفى لأحد يظم موزاييكاً دينياً وعرقياً ومذهبياً مدهشاً في إختلافه وتنوعه. ثمة إختلاف وتعددية واضحة كان من المفروض أخذها بعين الإعتبار حين التخطيط لتعليم وتأهيل الناشئة في كردستان. ولعل فترة اللااستقرار والقطيعة بين الحزبين الكبيرين هي أحد الأسباب المهمة التي حالت دون بذل المزيد من الجهد وصرف المزيد من العمل في هذا الشأن.
الآن، وبعد ضربات الإرهاب المتتالية، وبعد المعلومات التي تؤكد ظهور جماعة (أنصار الإسلام) الإرهابية من جديد على أطراف كردستان( وهو الظهور/المؤامرة التي تحاك خيوطها في طهران وأنقرة)، ينبغي العمل حثيثاً لوضع مناهج تربية حديثة تتمحور حول مفهوم المواطنة وتعريف ثقافة ودين وعادات الآخر المغاير في الأقليم.
هناك حاجة لتلقين النشئ الكردستاني الفبائية تقبل المواطن المختلف ديناً، أو مذهباً، أو عرقاً، أو عقيدةً، وإفهامه ان له حقاً في المكان والإدارة والمشاركة، مثله مثل اي شخص قيض له ان يشغل مكانة مهمة ومحترمة في المركز. يجب ملاحظة ومتابعة مزاج الشارع الكردستاني. ثمة "صحوة" واضحة واستعداد غير مسبوق لتقبل الأفكار الدينية الإصولية. هناك تحفز وريبة دائمة تجاه الآخر غير الكردي وغير المسلم/السنّي. ظهر ذلك في أحداث الشيخان ضد الكرد الإيزيديين، ويظهر ذلك في السياسة اليومية حيال الكرد الشيعة( الفيليين). ولاغرابة أن ينعكس مثل هذا المزاج الجمعي على سياسة بعض الأجنحة النافذة في القيادة الكردستانية(أو: الحزبين الكرديين) تجاه هذين المكونين الكردستانيين. وكنا قد سمينّا ذلك في كتاباتنا السابقة بظهور نزعة "كرد المركز" الذين احتكروا السلطة والإدارة والقيادة إزاء مظلومية "كرد الأطراف" الذين يتعرضون للتهميش والطعن والتخوين...
واقع حال الفساد الرهيب في اقليم كردستان احد الأسباب الرئيسية في ظهور حالة التململ العام واستغلال حركات الإسلام السياسي الأمر، لتظهر وتطرح خطابها "السحري" في تقديم "الحل" الذي يستمد يقينيته من الدين. تقدمت هذه الحركات للساحة وطرحت برامجها تحت يافطة الشعار الخالد إياه( الإسلام هو الحل). وإذا كان المرء يعي إسباب إنتشار تيار الإسلام السياسي ونجاحه في فرض الأسلمة على قطاعات واسعة من " كرد المركز" فإن المرء في عين الوقت لايمكن له ان يتغاظى عن الفساد المهول المتفشي في الأقليم، والذي اصبح حديث الجميع في الداخل والخارج.
ليس هناك ما يبرر تشغيل مليون ومائة الف شخص تحت بند "موظف" في مساحة دولة لاتزيد سكانها عن ثلاثة ملايين ونصف المليون؟. ليس ثمة من مبرر في توزير 43 وزيراً بينهم 12 بلا حقيبة، سوى فرز الرواتب وضمان المزايا لهم، في حسابات حزبية/داخلية واضحة ومكشوفة هدفها الترضية والطبطة على الظهر؟. قطعاً تيار الإسلام السياسي المدعوم من جهات خارجية سخية والمستند، في الأجندة الداخلية، على مسحة التدين والإصولية التي تجتاح العالم الإسلامي برمته سوف يكون الرابح الأكبر من وراء مثيل حالات الفساد والتسيب وهدر المال العام هذه.
تنظيمات الإسلام السياسي سوف تستغل مثل هذه الأمور لزيادة نقمة الجماهير الكردية ضد الحكومة وستحاول جرها لصفها والتخندق ضد الحكومة وسياساتها التي تراها "خاطئة" و"بعيدة عن الدين"، بغية القفز على كرسي الحكم والقيادة: شعبياً وعن طريق إنتخابات ديمقراطية حرة، كما حدث في الجزائر ومصر وفلسطين...
كردستان العراق تواجه تحديات كبيرة، أهمها الإرهاب وتدخل دول الجوار وعلى رأسها تركيا التي تحيك المؤامرات لضرب الإستقرار وعملية البناء في الأقليم وخلق المشاكل المستعصية فيه. وثمة كذلك قضايا الفساد وسوء الإدارة وقمع المرأة والتنكيل "بكرد الأطراف"، والأكثر من ذلك الإكتفاء بالوعود والكلام حين الحديث عن خطوات حل هذه المشاكل البنيوية. وهذا ما يزيد الطين بلة ويضعف موقف الحكومة الكردستانية أمام مجمل التحديات الداخلية والخارجية.
هناك حاجة كبرى لأن تقوم الحكومة بمراجعة شاملة لسياساتها إزاء الداخل. أن تبدء في بناء الإنسان وتعليمه وتربيته على إحترام القانون والخضوع له بدل الإرتهان للأعراف العشائرية والدينية السائدة الآن. يجب إلزام كل الناس بالإحتكام للقانون والمؤسسة بدل العرف والوساطة والإحتماء بسطوة العشيرة أو المنطقة. لقد ذهب زمن القتال والنضال و"الحاجة لرجال العشائر" و"ضمان ولائهم للثورة"، وجاء زمن الدولة والإدارة، لذا يجب ان تكون فكرة بناء الإنسان قبل بناء كردستان هي السائدة الآن. يجب كذلك وضع حد لجرائم قتل النساء بإسم الشرف، وإزالة ذلك القانون الرجيم الذي يطلق يد الذكور في قتل النساء والتمظهر بمظهر الشريف الذي غسل عاره بيده. هذه قضية عاجلة موضوعة امام الضمير الكردي وامام القيادة الكردستانية، ولايجب ان ينسى هؤلاء ان اخبار قتل النساء الكرديات قد انتشرت وباتت الأمم المتحدة نفسها تصدر الإدانات بحق المذابح التي تجري بإسم "جرائم الشرف"، بعد ان كانت بياناتها تدر عطفاً دائماً على الكرد بوصفهم ضحايا ومظلومين.
القوى الليبرالية والعلمانية وأبناء الأقليات الدينية والعرقية وكذلك مجاميع "كرد الأطراف" كلها مدعوة الآن لدعم حكومة كردستان والأخذ بيدها للقضاء على آفة الإرهاب الخطير التي تهدد مكتسبات الإقليم بالزوال. يجب دعم الحكومة لمواجهة خطر الإرهاب وإنتشار المد الإصولي المهلك وسط شرائح الشعب الكردي. وعلى الحكومة بدورها أن تلجأ للعمل الدؤوب لتجفيف منابع الإصولية والإرهاب وذلك بالقضاء على الفساد أولاً وسن نظام تربوي، تنويري، ومتطور ووضع حد لجرائم قتل النساء ومعاقبة مرتكبيها عن طريق إقرار عقوبات رادعة، وليس إطلاق سراحهم وفق قانون "غسل العار" ذاك. من اللازم كذلك إنصاف "كرد الأطراف" من الإيزيديين والفيلية والشبك والكاكائيين والعمل على الحاق مناطقهم بالأقليم وإنجاح الإستفتاء على المادة 140 وقطع الطريق على القلة القليلة منهم، من تلك التي تحاول سلخهم عن قوميتهم وكردستانهم تنفيذاً لأجندة خطيرة ومهلكة، يستندون على إهمال الحكومة لحال هؤلاء، في الترويج لها...
ويبقى هناك تساؤل، والحال هذه، كيف وبأي منطق تصرف الحكومة ملايين الدولارات على الدعاية في القنوات الفضائية للأستثمار فيها والترويج "للديمقراطية" و"الإستقرار" و"حقوق الإنسان" بهذا الصخب الفاضح، والناس في البلاد يعانون أطنان المشاكل، من النوعية التي ذكرناها؟. هل هذا الصرف الباذخ للبهرجة و"البروزة" الإعلامية فقط، أم أن وراء الأكمة الكردية ...عمليات تشغيل وتوظيف هائلة ولأعداد كبيرة من الناس، وعلى الورق فقط؟؟؟.