التناغم الديني ومستقبل المينا
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
ازدهرت الحضارة الإنسانية في الألفية الثامنة قبل الميلاد، بتطور الزراعة، وتبتعها تطور الديانات، لتبدأ مرحلة جديدة من العلوم الروحية والأخلاقية، ولتقوى معها المؤسسات الدينية. وبعد النصف الثاني من الألفية الثانية، أخذت تتطور في دول الغرب العلوم الاجتماعية والفيزيائية، لتتحدى مؤسساتها الدينية بأفكارها العلمية الجديدة، بل ولتنتهي بثورات تفصل الدين عن الدولة. وبينما استمر الغرب في التطور والتقدم خلال القرنين الماضيين، تأخر الشرق وتخلف فكره، فانشل العقل وحرمت المسائلة الفكرية وعوقب الإبداع، فزاد الإحباط وقلت الإنتاجية، فانتشر التخلف الاجتماعي والتطرف الفكري وإرهاب العنف، وضعفت القيم الأخلاقية والروحية. وقد أتت دعوة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين، للعلماء الأفاضل في وقتها، حينما نادى جلالته في الشهر الماضي للارتقاء بالخطاب الديني: "لخطاب وطني رصين يستند إلى القيم الروحية والأخلاقية السامية، والى الحقائق العلمية والاجتماعية، في إطار الوحدة الوطنية." والسؤال: كيف يمكن أن نحي هذه القيم الروحية والأخلاقية في ظروف الألفية الثالثة وضمن قريتنا الأرضية الصغيرة، لنحقق خطاب ديني يخلق التوازن بين العلوم الفيزيائية والاجتماعية وبين العلوم الأخلاقية والروحية، لنكتشف المعادلة الحياتية الناجحة بين المادة والروح وبين الواقعية والمثالية؟
لنراجع معا تاريخ منطقة المينا (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، مهد الديانات السماوية، حينما توجت حضارة الأندلس نجاحها بخلق بيئة الوئام بين الأديان لأكثر من ستة قرون، فاستطاعت أن تنشئ حضارة تحترم العقل، وتقدر المساءلة الفكرية، وتجزي الإبداع. فترجمت علوم الغرب والشرق، وتفحصته بحكمة وشفافية، وبرؤية قائمة على العلم والبحث النزيه، لتـتفاعل أفكار علمائها المبدعة مع إبداعات الحضارات السابقة، لتصبح حضارة عالمية يبني عليها الغرب الحضارة المعاصرة. فلقد اكتشفت حضارة الأندلس سر التوازن بين العقل والدين، بين المادة والروح، بين الواقعية والمثالية، بين العلوم الفيزيائية الطبيعة والعلوم الروحية، كما احترمت الاختلاف، واستفادت من خلافته بإيجابية. والسؤال ما سر نجاح هذه الحضارة في احترام الاختلاف والوقاية من خلافاته؟
لقد درس البروفيسور البريطاني طوني بوزان، في كتابه، "الذكاء الروحي من خلال معرفة الحياة وموقعنا فيها"، سلوك العقل البشري وطرق تفكيره وأساليب تطويره، وطور نظرية الخارطة الذهنية، التي تعرف من خلالها على كيفية التقاط الذهن للمعلومات وتحليلها وتوجيهها وربطها بالسلوك الإنساني وقراراته. ووضح أهمية الذكاء الروحي في قدرة التعامل مع الاختلاف، وربطه بشمولية هرم الذكاء والمكون: قاعدته من الذكاء الجسمي المهتم بمهارة استخدام الجسم والمحافظة على صحته، وجسمه المكون من الذكاء الذهني المسئول عن حل معضلات المنطق الكلامية والرياضية، والذكاء العاطفي المسيطر على عواطفنا، والذكاء الاجتماعي المسئول عن لطف تعاملنا مع الآخرين. وأما قمة هذا الهرم فممثل بالذكاء الروحي، وهو حكمة اختيار الإنسان بين الأنا الذاتية الجسدية، والانا النفس العليا الموجهة بالرحمة والتوازن بين الطمأنينة والأمان الداخلي والخارجي، والوعي ببواطن النفس والسيطرة على نزواتها، والعلم بمحدودية المعرفة، والشجاعة والنزاهة، وسرعة البصيرة والرحمة، وحب الآخرين والإحساس بمشاكلهم، وكشف المعادلة الناجحة للتوازن بين الواقعية والمثالية.
وقد ناقش قداسة الداليلاما في كتابه، أخلاقيات للألفية الثالثة، الفرق بين السلوك الأخلاقي والذي عرفه بالالتزام بسلوك يراعي شعور وإحساس ومصالح الآخرين، وبين العلوم الروحية والتي حددها بعلوم القيم المرتبطة بالعمل الصالح والأخلاقيات، وتدارس الخيارات الأخلاقية للتعامل مع وقائع الحياة والطبيعة. ونادى بثورة وصفها: "ودعوتي لثورة روحية ليست دعوة لثورة دينية، ولا حتى لدعوة للعيش بطريقة حياتية حالمة، ولكنها دعوة للتوجه بالبعد عن انشغالنا بذاتنا، دعوة لنحول انشغالنا للمجتمع الإنساني المرتبطين به فطريا وبقوة، وبتوجيه سلوكنا نحو مصالحنا المشتركة مع الآخرين، وذلك بغنى قلوبنا بالمحبة والرحمة والعطف، لنستطيع السيطرة على العاطفة حينما نتعرض للظلم والاضطهاد، بالتوجه للعفو والرحمة والابتعاد عن الحقد والانتقام."
وقد طرح سعادة الدكتور علي فخرو، وزير الصحة والتربية والدبلوماسي البحريني السابق، معضلة السلوك ألأخلاقي في المنطقة في مقال نشر بصحيفة أخبار الخليج في 25 يناير من العام الماضي. فناقش دراسات كثيرة حول التصرفات السلبية في حياة المواطنين، كالاتكالية والفوضوية وقلة احترام النظام وإهمال عامل الوقت والفردية والأنانية، والخلط بين ثنائيات كثيرة، ومنها الخلط بين الشطارة والتدليس. وتساءل: هل تستطيع أمة تتعامل بمثل هذه الخفة بالسلوك والأخلاق أن تخرج من تخلفها وتبدأ نهضتها؟ والسؤال المحزن: كيف يمكن أن ينتشر هذا النوع من السلوك في منطقة مهد الأديان السماوية، والمتخمة بالمظاهر الدينية وبأحزابها السياسية المتعددة؟
لقد حاول سعادة السيد ضياء الموسوي، عضو مجلس الشورى البحريني، إيجاد جواب لسؤلنا المحزن في مقابلة مع صحيفة الأوان الكويتية في العام الماضي. فقد ربط معضلة سلوك المواطن بالخطاب الديني فقال: "فكر الناس مخطوف نحو الأوهام، ونحن بحاجة إلى فلاسفة وليس إلى خطباء، فبلادي أضاعها الخطباء، ونعاني من ثقافة الموت، فخطباؤنا لا يتحدثون إلا عن أهوال يوم القيامة، وضغطة القبر، وثعبان أقرع يأتي في القبر. وهذا خلاف ما جاء في القران الكريم، القران متوازن ذكر نار جهنم وفواكه الجنة، فالتوازن مطلوب. كما أن المشكلة أن أكثر الإسلاميين مؤدلجون بشكل فاقع، فيخلطون بين ضرورات العصر، وتناقضات التاريخ في خلطات رمادية تضيع فيها مصالح الناس. إنهم يناقشون بعض القضايا التاريخية المطلسمة. إذا كنا لا نعرف ملابسات اغتيال كندي فكيف سنعرف ملابسات بعض الصراعات الصغيرة التي كانت دائرة قبل أربعة عشر قرنا؟." كما أكد على أهمية تطوير الخطاب الديني فقال: " الحل في ولاية الإنسان على نفسه. يقوم اليوم العالم على فكر المؤسسات وليس فكر نظرية الرجل الوتد، فالدولة المدنية هي الحل، والحضارة هي الحل، والفكر الإنساني هو الحل. أنا لا أؤمن بحزب سني أو شيعي أو مسيحي أو يهودي، بل أؤمن بحزب الكوكتيل، حزب الإنسان، لأن الإنسان هو انتمائي الأول والأخير. أؤمن بالدولة الحديثة لا الدولة الدينية، وذلك لان الدولة الدينية لا يمكن أن تكون في صف واحد مع الإبداع. وأعتقد بأن اللبرالية ذات النكهات الأخلاقية والإسلامية قد تكون أفضل للعالم العربي، وهي البديل لمشاريع الحركات الإسلامية التي أراها لا تخلو من طوباوية فاقعة. أنا أسلامي، ولكني أخشى أن يحكمني أي تيار ديني، ولي تجربة في ذلك، فالدول اللبرالية أكثر رحمة بنا من الدول الدينية. ومفهوم الدولة الدينية حديث اخترعته الحركات السياسية للوصول إلى السلطة، وهم لا يمتلكون تأصيلا تاريخيا أو تشريعا متماسكا لذلك، فأنا درست عشر سنوات فقها وأصولا، ولم أقتنع ولا بدليل واحد. وكل الأديان تدعو إلى التسامح وعمل الخير للإنسان، وهناك التقاء في المشتركات فلماذا لا نعمل عليها؟ أنا أتشرف بدخول الكنيسة، فهؤلاء أبناء وطننا وإخواننا في الإنسانية. ومن منا ولد في النجف سيكون شيعيا ومن ولد في السعودية سيكون سنيا ومن ولد في روما سيكون مسيحيا وما أجمل أن نلتقي على المائدة الإنسانية. هل يمكن أن ارفض اديسون لأنه مسيحي وغاندي لأنه بوذي والراهبة تريزا لأنها مسيحية، لأنهم ليسوا من ديني؟ لنا ثوابتنا ولهم ثوابتهم ولكننا نلتقي في آلاف المشتركات." (انتهى).
وباختصار شديد، فبدون تنفيذ خطاب وطني رصين يحترم الاختلاف ويستند إلى القيم الروحية والأخلاقية ويعتمد على الحقائق العلمية، وفي إطار الوحدة الوطنية والمواطنة الصالحة، والتي تشمل الإخلاص للوطن والالتزام بالدستور واحترام القيادة الدستورية، والتأكيد على الواجبات قبل الحقوق، وبالإيمان بأن العبادة هي واجب شخصي بين الإنسان وخالقه وليست طقوس للتباهي واستغلالها في السياسة، وبأن الدين هو المعاملة بسلوك أخلاقي يوازن بين الواقعية والمثالية، لن تستطيع منطقة المينا تحقيق تنميتها لتشارك في بناء حضارة الألفية الثالثة.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف