خالدون زائلون، زائلون خالدون (3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ان عبارة " كل شئ يجري " تعني أن لا شئ يبقي في مكانه، وأن الحياة تدعونا لكي نحياها، بل ان دينامية الحياة تدفعنا دفعا للتصرف حيال الواقع، لأن جوهر الواقع هو " فعل "، وهذا " الفعل " هو الكيفية الوحيدة لوجود هذا الجوهر، وهو أروع ما في الفلسفة الهيراقليطية علي مر العصور.
ان كل ما يتحرك يعيش، وكل ما يعيش يتحرك، فالسكون والراحة من صفات " الأموات ": " حتي السيسيون " - نوع من السمك المقدس في أسرار إيلوزيس - يتحلل إذا لم نحركه " (ش - 125). بل: " ان الشمس ذاتها ليست فقط جديدة كل يوم، وإنما هي جديدة كل لحظة ". (ش - 6).
بيد أن هيراقليطس لم ينكر " السكون "، أو يعتبره وهما خاطئا، وإنما رأي فيه حالة " نسبية " للأشياء، وهي فكرة عبر عنها بالنهر أيضا، الذي: " يرتاح عندما يتحول " (ش - 84). هذه الشذرة تضئ (كل فلسفته) لأن مقولته الشهيرة: " كل شئ يجري " مرتبطة بالفكرة المناقضة لها: " فكرة السكون ".
ان الحركة والسكون من حيث هما ضدان، يفترض الواحد منهما الآخر (انهما واحد). وهما مثل كل الأضداد، يلغي الواحد منهما الآخر بشكل (نسبي) وليس بشكل مطلق.
وإذا كان كل شئ (يرتاح) وهو يتغير، ينتج عن ذلك أنه (يتغير في السكون). وإذا كانت الحركة تلغي السكون " النسبي "، فإن الأشياء تصبح غير ثابتة أبدا، وبالتالي غير محددة، أو قل انها منفتحة دوما علي امكانات متعددة ولا نهائية.
ان عبارة " كل شئ يجري " لا تفهم خارج الأشياء التي تظهر وتزول، أوخارج السكون النسبي والوجود المؤقت. وفي الوقت نفسه فإن " كل شئ يجري " أبدية وخالدة، وملازمة لكل شئ، وبهذا المعني فهي " مطلقة ".
والطابع الأزلي والخالد والمطلق لها، مشروط بالطابع المؤقت والزائل للأشياء العابرة. مما يعني أن الخالد يتضمن الزائل، وكل من المطلق والنسبي يفترضان بعضهما البعض، وهو ما عبر عنه هيراقليطس: " خالدون زائلون، زائلون خالدون، البعض يعيش موت الآخر، والآخرون يميتون حياة البعض " (ش - 62).
ان الأضداد تتطابق عند هيراقليطس، وما بينها ليس مجرد " وحدة " فقط، وإنما هو أيضا " تماه ". ويعبر عن هذه الفكرة بصورة (محيط الدائرة) التي تتطابق بدايتها ونهايتها في أي نقطة منها. (ش - 103).
ان وحدة الأضداد، وتطابقها، وتماهيها، ليست جامدة بالنسبة له - كما يشير نيتشه - بل هي متحركة ومتغيرة. ان " كل شئ يجري" تستجيب لانتقال كل ضد إلي الآخر، وبينما تفترض وحدة الأضداد التبادل فيما بينهما، يفترض التبادل وجودها. ولهذا بالتحديد يجب ألا تفهم كلمة تطابق الأضداد وتماهيها بالمعني المطلق، وإنما بالمعني النسبي، فإذا كانت الأضداد تتطابق بشكل مطلق، فكل شئ سيكون وحدة لا تجزأ ولا تفسخ فيها، وخالية من الاختلافات، مما سيلغي انتقال الواحد للآخر، والتبادل فيما بينهما.
فالوحدة (تطابق أو تماهي) عند هيراقليطس تعني فقط ان كل شئ ينتقل إلي ضده ضمن عملية " الصيرورة ". وهذا ما يجعل قوله مفهوما: " الشئ نفسه فينا: حيا وميتا، نائما ومستيقظا، شابا وعجوزا، فهذا الذي يتحول هو ذاك، وذاك يصبح هذا بتحوله " (ش - 88)، إلي ما لا نهاية.
هنا بالتحديد تتبدي خطورة هيراقليطس وصعوبته في الوقت نفسه، كما تتضح أهمية دراسته في العالم العربي والإسلامي، خاصة وأننا درجنا إلي اعتماد مفاهيم ميتافيزيقية في تحديد العقل والهوية، وهي مفاهيم تعمل علي اعطاء هذا العقل وتلك الهوية " ماهية ثابتة " لا تتغير، بل هي ضد التغيير أساسا وغير قابله له، تفرض ذاتها منذ القدم وحتي اليوم وغدا، والمجال لا يتسع لأي عرض أو تحليل للأسباب أوالنماذج، التي تكشف عن اللاعلمية التي تميز هذه المحاولات الميتافيزيقية في عالمنا البائس! dressamabdalla@yahoo.com
التعليقات
مشرف
فيصل آورفــاي -يرجى التقيد بشروط النشر حتى يتم نشر مشاركتك وشكرا
ممل
محمد ولد ازوين -دروس فلسفية كان على الكاتب أن يذهب لإحدى الجامعات ويطلب منها السماح له بإلقاء هذه المحاضرة على طلاب قسم الفلسفة , أما القارئ العربي فلا أظنه سيستفيد من هكذا كتابات
مقال ممتاز وعميق
محب للحكمة -أشكرك المحبوبة إيلاف التي تمدنا بكل ما هو راقي وممتع ومفيد . وتحية خاصة للكاتب علي هذه الوجبة الفلسفية الدسمة . حتما نحن عالم بائس وضد التغيير ومن يذكره فما بالك بمن يدعو له ؟نحن يا سيدي لدينا إجابات في كل شئ وأي شئ فلماذا نحتاج إلي الفلسفة ؟ ولماذا نقلق أنفسنا بالأسئلة ؟ ولماذا نتغير عن ما نحن فيه من سكون وخنوع وثبات ؟ مرة أخري تحية لإيلاف أفضل موقع تنويري في عالمنا المظلم
هذا هو رأيي
رولا الزين -مقولة الصيرورة الدائمة التي تناولها هيراقليطس اثبتتها العلوم الطبيعية في اكثر من مجال .فالنجوم تولد وتموت والقارات تزحف . والسكون لا وجود حقيقيا له في الكون باعتبار ان الجماد نفسه يتألف من ذرات في حركة دأئمة حول نواته . والوجود الانساني متغير بتعاقب الفصول وتبدل احوال الجسد - قديما قال ابن سينا ان الجسد البشري يزول تماما في سن الثلاثين ويتكون مكانه جسد جديد في الانسان الواحد . وهذا الاستبصار الفلسفي عند هيراقليطس يؤكد ان الفلسفة المادية هي الممهد الرئيس لمكتشفات العلوم الطبيعية في أحيان كثيرة. والصيرورة الدائمة بحسب بعض الفلاسفة هي الدافع وراء المعتقد القائل بوجود خالق باعتباره الثابت الوحيد في عالم متغير ما يعطي الانسان شعورا بالامان في عالم دائم التحول .واوافق الكاتب بعدم جدوى الفلسفة الميتافيزيقية من مثال التساؤل هل الكون له حدود أم انه لامتناه . وفي تاريخ الفكر العربي ومضات في فلسفة الوجود ضمن المشروطية الانسانية وليس ضمن التساؤلات الماورائية كما هي الحال في فكر ابي حيان التوحيدي وبخاصة في اسئلته الجريئة التي وجهها لأبن مسكويه . ولعل اهتمام نيتشه بفكر هيراقليطس هو ان الأول نادى بتجاور المشروطية الانسانية من خلال ارادة القوة . ويرى فرنسيس فوكوياما المفكر الامريكي الشهير ان الانسان في العصر الليبرالي اصبح نيتشوي الهوى أذ لم يعد مسوقا برغبة الاستيلاء على اراضي الآخرين أو اخضاعهم بالقوة لاثبات -أناه المتفوقة- بل هو يثبتها من خلال سلوكات تحد مبتكرة على شاكلة متسلقي قمة أفرست في جبال الهملايا أو من خلال اصرار ونجاح بعض المعوقين في تحقيق منجزات خارقة مثل المقعد ستفن هوكنغ مؤلف كتاب موجز تاريخ الزمن والذي يعتبر بحق خليفة اينشتاين في الفيزياء المتقدمة .
غير صالح
فيصل آورفــاي -.مخالف لشروط النشر
الحركة والمجتمع
رمضان عيسى -مفهوم الحركة والمجتمع الحركة كمفهوم لا يمكن أن ينظر اليها بمعزل عن الشىء الذي يتحرك ، وليس في الكون شيء ممكن أن تكون له كينونة وجود بدون أن يقترن هذا الوجود بالحركة ، ولما كانت الحركة هي شكل وجود الأشياء ، لذا كانت الأشياء تعبر عن معنى وجودها بالحركة ، وهذه الأشياء التي نعنيها هي التي يقع تحت مدركاتنا الحسية والموجودة موضوعيا وبشكل مستقل عنا ، أي الأرض والجبال والصحاري والبحار والهواء والأشجار والحيوانات والطيور والفضاء ، ولا يمكن أن نفهم الحركة بدون ارتباطها الوثيق بهذه الأشياء ، فلا معنى منطقيا وعلميا لوجود حركة منفصلة عن هذه الأشياء ،أي مادة الطبيعة التي حولنا ، ولكن مجازا قد نتكلم عن حركة خالصة في الأحلام أو الخيالات ، ولكن هذه الحركة مرتبطة أيضا بوجود الاٍنسان ، ووجود الدماغ الذي يعتبر هذا التخيل من احدى نشاطاته . يحاول بعض الناس تطبيق مقولة " كل شيء يجري" على المادة ، الطبيعة فقط ، ولا يعمم تطبيقها على المجتمع وأفكار الناس ، ويتمسك البعض بأيديولوجيا يلبسها ثوب القداسة والثبات ، ويعتقد أنها صالحة لكل البشر ولكل زمان ومكان ،ولا حاجة للتجديد والتطوير . ولما كانت الأفكار اذا ما دخلت الى الجمهور تصبح قوة اجتماعية ، لهذا كان لهذه الأفكار نتاجا سلبيا اذا ما تشربها مجتمع ما ، فهذه الأفكار تقف كحاجز صد أمام التجديد والتطوير ، من هنا كانت خطورة عدم تطبيق فكرة كل شيء يجري عل المجتمع والأفكار والمعتقدات التي يجب أن تتطور لتتساوق مع تطور الحياة الانسانية ، فالأفكار الجامدة تصبح أيضا عقبة أمام الأجيال الجديدة لاستيعاب الحضارة وكل جديد ، وهذا ما ابتلي به العرب الذين حتى الان يعيشون حالة فصل بين الحركة وبين المجتمع ، وبين الحركة ومجمل الميراث الفكري .