كتَّاب إيلاف

هاشتاك الناس

العقول المسطحة

العقل فصوص لحميَّة وخلايا متحركة، وهو مُختَبر للتحليل والنتائج والحلول
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ما زال المخ البشري لُغزاً حار فيه العلماء، وقد أوقعهم في مصيدة التفسير والاجتهاد، وغرابة الصدمة، وربما كان هذا هو سبب الاختلاف والتأويل؛ لأنهم يمتلكون نفس وظائف المخ البيولوجية للبشر؛ ما يجعلهم أيضاً يقعون في لُغزه الغريب والعجيب.

والعلم يقول: إنَّ العقل هو مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن: الوعي، والمعرفة، والتفكير، والحكم، واللغة، والذاكرة، وهو ما يُعرف بمَلَكة الشخص الفكرية والإدراكية. وله نصفان كُرويان: الأيمن، وهو مسؤولٌ عن العواطف والحدْس والمشاعر، والأيسر، وهو مسؤولٌ عن عمليات المنطق والتحليل والاستقراء.

والعقل فصوص لحميَّة وخلايا متحركة، وهو مُختَبر للتحليل والنتائج والحلول. كما أنه عقل "لا واعٍ"، يخزن الملايين من المعلومات في الثانية الواحدة، ويجعلها سلسلة من الأفكار المترابطة؛ لكنه دائمًا بحاجة إلى تهذيب مبرمج، خصوصاً في مواجهة المشكلات والتحديات.

في كتابه المثير "العقل مُسطَّح" (The Mind is Flat)، يُفنِّد البرفسور البريطاني نيك تشاتر الأفكار الثابتة عند سيغموند فرويد، حول: الذات، والوعي واللاوعي، والشخصية، والرغبات والمخاوف، ويُوجِّه "ضربة قاصمة لصناعة كاملة من تجارة السيكولوجيا والتحليل النفسي، التي أصبحت - مع مرور الأيام - مثل بقرة مُقدَّسة ذهبية تحصد ملايين الدولارات سنويّاً من الباحثين عن ذواتهم، أو المتعبين من مسارات حياتهم.

وتتلخص أفكاره التي جاءت من معطيات علمية حديثة، وتجارب مخبرية، في: محدودية الإدراك البشري من خلال البصر؛ حيث تُظهر أننا بالفعل لا ندرك إلا أقلّ القليل مما نراه حولنا، وأن الدماغ، كما البصر، يُنشِئ من فتات ذلك الإدراك صُوراً متخيَّلة توهم بثراء الإحساس؛ لكنها دائماً ضحية انحيازات وخداعات بصرية وشعورية متراكبة.

وإن المشاعر البشرية لا تأتي من شغاف القلب، أو حتى من ثقبٍ أسود سماه الفرويديون "اللاوعي"؛ بل هي خلاصة لتشابُك عمل كيميائيات معقَّدة من مختلف أعضاء الجسم، في إطار مجموعة ظروفٍ تقاطعت لدى زمانٍ ومكانٍ محدديْن.

ويرى أن الدماغ غيرُ قادر أبداً على إدارة أكثر من موضوع واحد في نفس الوقت، كذلك لا يستطيع البصر رؤية الأمور بوضوح؛ فهذا هو سر تقلباتنا الدائمة، وتغير مزاجنا، وندمنا على بعض القرارات. وهذا يعني عدم وجود عالم مثالي في داخلنا، فهو خدعة كبيرة، والسبب هو أن أدمغتنا هي التي تخلق الأفكار والمعتقدات والعقائد والرغبات، من أجل تبرير أفعالنا.

أما العقل الارتجالي، فهو وليد اللحظة، وكثيراً ما نخدع أنفسنا في مواقف الحياة بأننا على حق، وموقفنا هو الأصح؛ لأنه نابع من فكر عميق كما نتوهَّم، والسبب يعود إلى ازدواجيتنا في المواقف والسلوك؛ بين عالم الماضي المثالي، وموقف العقل الارتجالي الذي يتصادم مع المثاليات في بعض الأحيان.

والحقيقة تبقى، وهي التوهم بأننا نُفكِّر؛ ولكن الصحيح هو أننا نفكر داخل حدود ضيّقة يصعب الخروج منها؛ حيث التحوُّل إلى عقلية قائمة على النسخ واللصق، وتقديس المنقول دون تحليل ونقد؛ لذلك لا نستفيق لضربات الدروس والتجارب، حتى ولو تورَّمت رؤوسنا من هذه الضربات المؤلمة!

ويرى تشاتر "أن مواقفنا السياسية مثلاً، وما نتبناه من عقائد، ليست ببنية ثابتة في العقل البشري، بقدر ما هي ميل للتصرف بطريقة معينة، بناء على خبرات متراكمة سابقة؛ لكنها تبقى - بالرغم من ذلك - مشوبة بأوهام الإدراك، وبالقدرة على القفز المرن بين المتناقضات، بحسب متطلبات الموقف اللحظي، وربما دون الإحساس بالخروج عن تكوين ثابت، ليمنحنا ذلك وهماً لذيذاً بأن لدينا شخصية متمايزة، ونعيش قصة حياة ذات معنى".

ولعل ما يُثير الهلع أن طبيعة تسطُّح العقل البشري، كما يصفه تشاتر، "تترافق في أزمنتنا الراهنة مع تقدُّمٍ غيرِ مسبوق لتطوّر تقنيات الذكاء الاصطناعي، لناحية صياغة الأوهام وتصورات الشعور والوقائع الافتراضية". لذلك فإنَّ سر الذكاء هو سعة الخيال ومرونة التخيُّل؛ وليس باستخدام البلاغة والاستعارات البلاغية، وخداع الكلام المنمق. فشعور الإنسان بأنه هو الأكثر عمقاً في الفكر من غيره، دليلٌ على أنَّ العقل مسطَّح، ليس به أي عمق؛ بل إن أحكامه ورؤيته محدودتان جداً.

ويُصر المؤلف بأننا ضحية الخديعة؛ لأن عقولنا مسطَّحة ضحلة، ومشاعرنا كاذبة، ورؤيتنا ناقصة؛ لأنَّ الماضي ما زال يتحكم فينا، كما أننا نعيش الحاضر الممتلئ بالخداع. لذا نجد المجتمعات المتقدمة نجحت في التطور؛ لكنها فشلت في التعامل مع الإنسان، فوُلِد الإنسانُ الكئيب الذي لا يعرف السعادة.

وفي رأينا بمنطق العلم، بان هناك في الحياة خداعان؛ خداع بصري، يقوم على قوانين البصريات الرياضية والفيزيائية، وزوايا سقوط الضوء. وخداع عقلي، يمكن أن يؤدي إلى أن يرى المرء شيئًا ما غير متوافق مع الحقيقة، أو يشعر به أو يسمعه أو يتعرَّض له. وكما قيل: فإن العين لا ترى إلا ما يراه العقل، والعقل يرى ما لا تراه العين؛ وهي متضادات لتفسير عمل الماكينة البيولوجية في الإنسان.

إنَّ صلابة العقل وقوَّته تلطفُهما رقة القلب، وإن لين القلب يهذبه تدبير العَقل: "ضَع قليلًا من قلبك على عقلك يلِنْ، وضع قليلًا من عقلك على قلبك يستقِمْ“، ولكن حذَارِ أن يتغلب أحدهما على الآخر بصيغتيْ القمع أو الاستحواذ.

وأصعب المعارك التي نخوضها هي بين عقلنا الذي يعرف الحقيقة، وقلبنا الذي يرفض أن يتقبَّلها. وأصعب شعور هو أن يضيع منك قلبك، وتخرج روحك ولا تعود أبدًا. والأصعب، عندما تكون هناك معركةٌ مع النفس، تخسر فيها عقلك وتخسر بها حياتك!

وخلاصة الخلاصات؛ نحتاج إلى تكرير العقول، لتنشيط جيناته. وقسطرة العقل، للتخلص من "تصلب" شرايين الماضي لتوطين المستقبل في خلاياه. وقلع النرجسية المريضة من النفوس، واستيعاب فكرة أنَّ عقل الإنسان مصدر الحكمة والتبصر، وهو "أعدل قيمة بين الناس" كما يقول ديكارت.

والعقل ليس وعاء يجب ملؤه، ولكنه نار ينبغي إيقادها. وهو من أعظم المواهب وأندرها في الوجود، فالوعي يبدأ به، ولا يأتي مع العمر، بل هو في الرأس إمبراطور الحياة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف