كتَّاب إيلاف

إبداع منسي

عاصي ومنصور الرحباني
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يُمثّل الشعر العامي، على امتداد خارطة العالم العربي، جزءاً لا يتجزأ من النسيج الثقافي المُعقّد، حاملاً في طيّاته روح الشعوب ومُستودع تعبيراتها الأصيلة. إنه المرآة الصادقة التي تعكس عاداتهم وتفاصيل حياتهم اليومية، وهمومهم وأفراحهم، ويُشكل ذاكرة جماعية حية. ورغم هذه الأهمية القصوى، كثيراً ما يقع تدريس الشعر العامي ضحية للتهميش في المناهج الدراسية، حيث يُنظر إلى الفصحى باعتبارها الحَكَم الأوحد والأثير للأدب الرفيع. غير أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن حقاً أن نفصل بين الفصحى والعامية عندما نتناول فن التعبير الأدبي؟ وهل يخدم هذا الإهمال المُتعمَّد للعامية الأهداف السامية للتربية والتعليم في عالم يتوق إلى إرساء الأصالة وتعزيز جسور التواصل؟

إنَّ دمج الشعر العامي في المؤسسات التعليمية يحمل في ثناياه فوائد جمّة تتجاوز حدود الصف الدراسي، لتلامس الصعيد اللغوي والثقافي والاجتماعي. ففي المقام الأول، يُعد الشعر العامي مرآة الهوية المحلية لكل بلد عربي، إذ يُعبّر عن خصوصية اللهجات، ويُورّث الأمثال والقصص الشعبية، ويرتبط عضوياً بالموسيقى التي تُشكل أساس الذاكرة الجماعية. فعندما ينكبّ الطلاب على دراسة الشعر العامي، لا يقتصر الأمر على استيعاب مفردات فحسب، بل يتعداه إلى التواصل العميق مع الجذور، وفهم آليات تفكير الأسلاف وتعبيرهم عن مكامن مشاعرهم. هذا التواصل الروحي مع التراث هو ما يُعزّز لديهم الشعور بالانتماء والفخر بالخصوصية الثقافية، ويُمكّنهم من فهم موقع ثقافتهم في سياقها العالمي الأوسع.

وفي مقام ثانٍ، يُمثل الشعر العامي جسرًا حيوياً لا غنى عنه يربط الطالب بالأدب بشتى ألوانه. فاللغة العامية، وهي لغة الحياة اليومية، تُزيل الحواجز النفسية والمعرفية التي قد يشعر بها بعض الطلاب تجاه الفصحى، خصوصاً في المراحل التعليمية الأولى. وحين يكتشف الطالب أن هناك شعراً جميلاً ومُعبّراً يُكتب بلغته التي يتحدثها يومياً، فإنه يُقبل على قراءته وفهمه بشغف واهتمام أكبر؛ هذا التقارب يُمكن أن يكون مدخلاً ملهماً لاكتشاف الجماليات اللغوية عامة، ويُشجّعهم على الاستمتاع بالأدب والتعبير الحر عن الذات.

وبالرغم من الاعتقاد السائد بأنَّ العامية تُؤدي إلى إفقار اللغة، فإنَّ تدريسها يُمكن أن يُثري فهم الطلاب للغة الأم بشكل أكثر شمولاً وعمقاً. فالشعر العامي يُقدّم ثروة من المفردات والتعبيرات والتراكيب اللغوية الحية التي قد تغيب عن الفصحى المعيارية. كما أنه يُساعد الطلاب على استكشاف العلاقة التطورية بين الفصحى والعامية، وفهم كيفية تشعُّب اللغة وتنوعها عبر الزمان والمكان. هذا الفهم المتعمّق يُعزّز مرونتهم اللغوية ويُنمّي قدرتهم على التعبير بمستويات مُتعددة.

ولعل الأهم في هذا السياق هو تقدير القامات الشعرية العامية الكبيرة التي أنجبتها منطقتنا، وفي مقدمتها لبنان. فقد ترك هذا البلد بصمات لا تُمحى في المشهد الثقافي العربي عبر شعرائه العاميين. فعلى سبيل المثال، يُعد عاصي الرحباني ركناً أساسياً في تاريخ الأغنية والمسرح اللبناني والعربي الحديث؛ إذ صاغ كلمات لأغانيه ومسرحياته التي أثرت أجيالاً كاملة، حيث كانت كلماته العامية، التي تمزج البساطة بالعمق، تُلامس الوجدان وتُعبّر عن الآمال والأحلام المشتركة. كذلك، يُعتبر سعيد عقل، الذي أبدع بالفصحى والعامية على حدٍ سواء، من الرواد الذين ارتقوا بالشعر العامي إلى مصاف الأدب الرفيع. إنَّ إدراج أعمال هذه القامات الأدبية وغيرها ضمن المناهج يُعرّف الطلاب بقيمة الإبداع الحقيقي ويُشجعهم على تقدير الفن بأشكاله كافة.

أخيراً، يساهم الانفتاح على الشعر العامي في تنمية ملكة الإبداع والتعبير الشخصي. عندما يتعرف الطلاب على هذا النمط الشعري، يُلهمهم ذلك للتعبير عن مكنوناتهم وأفكارهم بلغتهم الأم اليومية، وتُشجّعهم هذه الحرية على الكتابة والإبداع دون التقيّد التام بقواعد الفصحى الصارمة في المراحل الأولية. هذا يُمكن أن يُحوّل الفصول الدراسية إلى مختبرات للتعبير الشعري الحر، حيث يكتشف الطلاب مواهبهم الكامنة ويصقلون قدراتهم الأدبية. ولا شك أن تحديات غياب المناهج الموحدة أو الخوف من إضعاف الفصحى يُمكن التغلب عليها عبر تضمين الشعر العامي كجزء مُكمّل لا بديل، والتركيز على قيمته الفنية والأدبية، مع تدريب المعلمين على أساليب تدريسه الإبداعية. إن دمج الشعر العامي في المناهج الدراسية ليس ترفاً، بل هو ضرورة ثقافية وتربوية تهدف إلى بناء جيل واعٍ بهويته، مُتصل بتراثه، وقادر على التعبير عن ذاته بطلاقة وإبداع، وتقدير الشعر العامي، والاحتفاء بشعرائه الكبار، هو تقدير لروح الأمة ولقدرتها على الإبداع والتعبير بكل أشكالها الأدبية والفنية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف