كتَّاب إيلاف

تفجير موسكو... لماذا يصر القيصر على توسيع دائرة الاتهام؟

إضاءة الشموع في سيمفربول في شبه جزيرة القرم تكريماً لضحايا الحادث الإرهابي الذي وقع في موسكو الجمعة
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في خِطابهِ المحمل بأشد نبرات الغضب والتهديد الذي ألقاه إثرَ التفجير الذي وقع مساء الجمعة في قاعة حفلات في مركز تسوق "كروكوس سيتي" في إحدى الضواحي القريبة من العاصمة الروسية موسكو (المنتشية منذ أيام بفوز القيصر الروسي ذي الروح الستالينية بولايته الرئاسية الخامسة) توعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الذي لم تثبت الأحداث الكبرى مرةً أنه أخلف وعداً مثل ذلك، أو تراجع لحظة عن إنفاذه) من قام بالتفجير الذي نفذه بالرشاشات الآلية أربعة مسلحين يرتدون زياً مموهاً، والذي أسفر عما يزيد على مئة وثلاثين قتيلاً وعددٍ كبير من الجرحى والمصابين بسوء العقاب وأشد العذاب (إذ أكد بوتين أن يد العقاب ستنال مِن كل مَن تثبت إدانته في ذلك الحادث). لقد ألقى القيصر خطابه بشأن الواقعة المذكورة مشحوناً بأشد نكهات الغضب والرغبة في الانتقام، مشيراً من طرفٍ ليس بخفيٍّ إلى أكثر من جهة (من بينها إسرائيل والولايات المتحدة وأوكرانيا وغيرها) من الجهات التي يروق للقيصر وضعها في مهب ريح انتقامه، تاركاً تلك الجهات في حالٍ من التوجس واليقظة تتحسس ما فوق رأسها من ريش التهمة، فيما يظلُّ القيصر هادئاً واثقاً من قدرته على الرد، مغرداً مع الشاعر العربي المتنبي إذ يقول:

أنام ملءَ جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جراها ويختصمُ

ولفهم المقاصد التي جعلت القيصر يوسع من دائرة اتهامه هكذا، يمكن القول إنَّه - بالرغم من ترجيح عدد من المحللين السياسيين أن يكون تنظيم داعش هو من قام بتلك العملية التي تتفق وطبيعة النسق والأسلوب الداعشي في تنفيذ العمليات الإرهابية من ذلك النوع - فإن من مصلحة القيصر استثمار الواقعة جيداً وتوظيفها (على غرار التوظيف الأميركي لأحداث 11 أيلول - سبتمبر) في أكثر من اتجاه، من بينها توجيه رسائل شديدة اللهجة لأكثر من جهةٍ مناوئة في إطار إدارة صراعه الدولي في لحظته الراهنة من جهة، أو للتهيئة لانتقام محتمل من كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أو توجيه ضربات قوية لتنظيم داعش في معاقل نفوذه في سوريا من جهةٍ ثانيةٍ، أو لتوسيع نطاق حربه في أوكرانيا (التي صرح المسؤولون الروس - دون أدلة &- بوجود صلات بينها وبين منفذي العملية، بالرغم من نفي البيت الأبيض مؤخراً وجود أي صلة لكييف بالحادث وتأكيده في الوقت نفسه مسؤولية داعش عنه) وتوجيه ضربات عسكرية شديدة لها ومعاقبة كبار المسؤولين فيها من جهةٍ ثالثة... وعليه، يستلزم ذلك القول قولاً آخر مفاده إن كان ثمة شك روسي في احتمالية تورط إسرائيل، كما قالت بذلك التصريحات الأولى لموسكو بشأن الواقعة، أو تورط أوكرانيا في الواقعة، فإن ذلك الشك يجد له ما يبرره ويدعمه في عدد من الشواهد التي يؤلف بينها الحدس والتحليل، أولها يخص إسرائيل ويتمثل في تهديد إسرائيل روسيا (عقب إدانة هذه الأخيرة الهجوم الإسرائيلي الذي كان منذ أيام قليلة على مستشفى المعمداني في غزة والذي وصفه القيصر في حينه بأنه مأساة وكارثة إنسانية كبرى، ووصفه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، بأنه جريمة حرب تسأل عنها الولايات المتحدة الأميركية التي لا تكف عن دعمها المستمر والمؤيد لآلة الحرب الإسرائيلية) على لسان أمير ويتمان، عضو حزب الليكود الحاكم في إسرائيل، بالوقوف وراء المقاومة الفلسطينية ودعم حركة حماس، وذلك في مقابلة له أجرتها معه مؤخراً قناة RT هدد فيها روسيا بأنها ستدفع ثمن تأييدها حماس.

وثاني تلك الشواهد يخص الولايات المتحدة (التي حثت في السابع من آذار - مارس الجاري رعاياها في موسكو على تجنب الذهاب للتجمعات الكبيرة، توخياً للحذر مما أسمته سفارتها هناك على موقعها الإلكتروني بهجوم إرهابي في العاصمة الروسية يخطط إرهابيون للقيام به قريباً) ويتمثل في تسارع وتيرة المنافسة في الآونة الأخيرة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية التي تتخذ من أسرائيل أداةً لتحقيق أجندتها في منطقة الشرق الأوسط، على الفوز بما تستطيع كل منهما الفوز به (أي روسيا والولايات المتحدة) من حصة في كعكة النفوذ الآخذة في الاستواء والنضج في المنطقة.

أما ثالث تلك الشواهد، فإنه ليس من المستبعد - بالرغم من إعلان تنظيم داعش كامل مسؤوليته عن العملية وإصداره بياناً بذلك - أن يكون هناك تعاون، وإن بطريقة غير مباشرة، بين التنظيم وإسرائيل ومعها الولايات المتحدة أو بين التنظيم وأوكرانيا (التي رفضت في تصريحات لها السبت الماضي ادعاءات روسيا بوجود صلة بين كييف ومنفذي الهجوم) بما يسمح لأي جهةٍ منها بتوظيف واستثمار إمكانيات التنظيم في مثل هكذا عمليات انتقامية في مرحلة من تاريخ المجتمع الدولي تنتعش فيها ظاهرة ما يسمى (بيزنس الدماء والإرهاب الدولي المُوَجَّه).

وهكذا يكشف خطاب التهديد الذي ألقاه بوتين تعاطياً مع تلك الواقعة عن فلسفة قديمة جديدة في إدارة الصراعات الدولية كان معمولاً بها في زمن الحرب الباردة وعملت بها الولايات المتحدة في إطار تعاطيها مع حادث 11 أيلول (سبتمبر)، ويتم إحياؤها اليوم في إطار نظام دولي جديد تتراجع فيه مقولة نظام القطب الواحد لحساب مقولة النظام العالمي متعدد الأقطاب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف