ما ضرّنا لو...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
القدر كلمة يتكئ إليها الإنسان ليبرر خيارات له خاطئة... فالاِعتراف بالمسؤولية ليس بالأمر اليسير، والإنسان بطبعه يميل إلى إلقاء اللوم على آخر، خارج عن نطاق ذاتيته وجوانيته...
ينساق المرء أحيانًا مدفوعًا برغبات، أو بمخاوف... هي تشده إلى الإقدام وربما التراجع، وهو يرميها في نار التخاذل، وواقع القبول بعدم قبول الفقد...
قد يبدو الكلام غير مفهوم للبعض، لكنّه أصدق دليل على هذه الحيرة، وهذا الضياع بين معرفة الخطأ في القرار، وصوابية السير فيه، لأنَّه - مهما تشقلبت الأحوال - هو الخيار الوحيد المتاح.
وبما أنَّ الندم ليس كلمة تعترف بها بعض القواميس الفردية، والإرادات، كما الاعتراف بالتغير نوعًا، يكون الخطأ هو الرمال المتحركة التي بَنت فوقها قاعدة صلبة لا تهتز، ويكون هو النار التي جوهرت بمحنها شخصيات، وقناعات، وصير.
فالإنسان لا يتشذَّب إلاَّ بالمعاناة والألم.
والمعاناة نار تصلى، والألم وقود يشبّ بها فتولّد من نار نيرانًا هالكة حارقة، تستدفئ بها جهنم، ويستأنس بها الجحيم. نيران تولّد منها ألسنةً تمتد ببراثن لا تعرف إلاَّ القبض على الأعناق تعترض الشهيق والزفير، ولا تسمح إلاَّ بما يحفظ الرمق الأخير، وتلاعبك ملاعبة القط للفأر...
وتمضي الأيام على هذه الحال، ويوم الإنسانِ صراع بين ما يريد وما يصل إليه، وما يبتغيه وما يُسمح له به، وما يسعى إليه وما يُحرم منه، وما هو من حقّه، وما يُسلب منه... وبين منام ويقظة، وأحلام ووقائع، وحلاوة ومرارة.
وتمضي الأيام وقد دفنك قاتلك، ومشى فوق قبرك يبكي يشكو ظلمَكَ، وهو كان لك سياجًا يحجب الضوء والسنا! وتمضي الأيام وقاتلك يشحذ سكاكينه، ويزرع سمّه في نفوس من تحب، وأنت في المواجهة، تسترق النظر من تحت الثرى، وتتسلّح بصبر انتصار الحق، واللا إهمال على الرغم من طول المُهلة...
وتمضي الأيام، وصوت كل شهيق مسموع، وكل زفير... يخرج من الصدر هادئًا هادرًا كحفيف أوراق السنديان وقد داعبها النسيم وخاطها انفجار براكين تمخّضت لآلاف مئات السنين... ويستمر التنفس بخجل وخوف وتحدِ وتصميم... ولو من تحت الثرى، وإنْ كان بعضه من فوق النسيم، من فوق أدراج القمر، من سفن الغيم، من عناقيد الثريا، من وهج السماك... ومن تحت الثرى... من بين براثن القبر، من بين أنسجة الكفن، يدقُّ الناقوس ويُعلن بدء الرحيل... أو لعلّه يتوقَّعه... فيسكن وينتظر، يركن وينتظر مرتاح الضمير، فالخروج لم يكن بإرادته، ولا الرحيل...
وتمضي الأيام، والزهور التي نفَثْتها من دمك قد أينعت وأورقت ونبتت لها أشواك... أشواك شحذَتْها، وشذَّبتها، وأنشبَتْها من دون رحمة في وريد كان يسقيها، في وريد كان يحميها، في وريد كان يؤويها...
لكنها الأيام... تمضي، والآتي يدفن الماضي تحت ألف ركام وركام. لا يرحمه، لا يسمعه، لا ينصفه، لا يعقله، لا يرأف به... بل يدميه، ويؤذيه، وينكره، وينبذه، ويُقصيه، ويُعدمه من دون حق الردّ، من دون سماعه، أو حتى سؤاله عن أسبابه.
وتمضي الأيام، ويتوه عن بال الآتي أنَّه سيصبح يومًا ما ماضيًا لآتٍ أنبته من فوق ثراه، من بين ضلوعه، من شهقات ألمه، وعذاب المخاض...
وتمضي الأيام وتتعاقب السطور والأسفار والسير، ويولد من المعاناة ملاك، يحضن الأزهار فيحفظ شوكها ويحجب أذاها ويمنع دمها ويرسم شذاها ويبلسم سناها. وتغدو البيد جِنانًا، وتُنْفى الغربان وقد غدت بكماء في حضرة الطيور الشوادي، ويُبعثر ريش الطواويس وقد أضحت بعد التباهي ساجدة وعن الجعجعة قاصِرة، وتُعاد النسور إلى أعشاشها فتفرد أجنحتها وتعانق الشمس، وتزدان الأشجار بألوان القمر، وتنتشي بوقع المطر، وتعزف الناي أغاني اللقاء الذي لا ينتهي، ويُكتب في الأفق قصة حبٍّ سرمديٍّ... وتمضي الأيام...
وتمضي الأيام بين ضارٍ ومفجوع... بين جانٍ ومقتول... بين جار ومظلوم... ذاك ينتظر الأيام تشفيًا، وهذا يترقب الأيام إنصافًا... يعانق السؤال... لو...
لو أخرس كل من منّا شيطانه، وآنس لملاك الخير فيه، ومنع شرّه، وكتم ناره، وأفنى سكاكينه، وقنَّى لشرايين الحياة لا الألم والدمع والنوى... ما ضرّه؟ ... ما ضرَّ الإنسان وما ضرّنا لو؟ ...